مشاريع الإسكان الفاخر في مصر.. الفقراء خارج المدن الجديدة؟
تتسع الهوة الطبقية في مصر بين "مدن الأغنياء" المحصّنة خلف الأسوار وواقع العيش اليومي لغالبية المواطنين. المدن الجديدة التي شيّدتها الدولة والقطاع الخاص تحولت من حلم عمراني إلى أداة فرز اجتماعي تُقصي الفقراء وتكرّس التفاوت.
-
مشاريع الإسكان الفاخر في مصر.. الفقراء خارج المدن الجديدة؟
حين زار أحمد إبراهيم، المُعدّ التلفزيوني ذو الخلفية الريفية، منزل إحدى الإعلاميات في منطقة "نيو جيزة" غربي القاهرة، شعر وكأنه عبر إلى عالم آخر. المسطحات الخضراء، وملاعب الجولف، والفيلات المصممة على الطراز الأوروبي، كل ذلك شكّل صدمة حقيقية له، لا بسبب فخامتها فحسب، بل لأن أسعارها تفوق 19 مليون جنيه (نحو 380 ألف دولار). ويقول: "هذا مكان مغلق على طبقة مميزة من السياسيين وأصحاب الأعمال، لا مكان فيه للفقراء، ولا حتى للطبقة المتوسطة".
تجربة إبراهيم ليست استثناء، بل نموذج يُجسّد ما يحدث على نطاق واسع في مصر، حيث تتكاثر "المدن الجديدة" المصممة للفئات الأكثر ثراءً، بعيدًا من المدن التقليدية التي تعاني من الاكتظاظ والتدهور.
45 مدينة جديدة… لكن لمن؟
منذ عام 1974، شُيّدت نحو 45 مدينة ضمن ما يُعرف بأجيال المدن الجديدة: من الجيل الأول مثل "السادس من أكتوبر"، إلى الجيل الثاني المرتبط بالقاهرة الكبرى، فالثالث الذي حمل أسماء المحافظات مثل "القاهرة الجديدة"، وأخيرًا مدن الجيل الرابع مثل "العاصمة الإدارية" و"العلمين الجديدة" و"مدينتي"، وهي مشروعات ذات طابع فاخر تستهدف الأثرياء.
تدافع الحكومة عن هذه السياسات العمرانية باعتبارها ضرورة لمواجهة النمو السكاني وتوفير بدائل حضرية، لكنّ طريقة التصميم والتسعير تجعلها، بحسب خبراء، أدوات لإقصاء الغالبية وتوسيع الفجوة بين المصريين.
سكان بيض وآخرون سود؟
يستخدم أحمد إبراهيم توصيفًا صادمًا حين يقول: "سكان الكمبوندات هم المصريون البيض، أما باقي الشعب فهم السود"، في إشارة إلى حجم الفجوة في نمط الحياة، اللغة، الملبس، وحتى الطعام. ويضيف أن هذه الفجوة ليست طبيعية، بل تُغذّيها السياسات الرسمية من خلال تخصيص أراضٍ عامة لإنشاء مجمعات مغلقة.
وهو ما يؤكده الباحث الاجتماعي محمود العُمري الذي يصف هذه المدن بأنها "منتجعات للأثرياء وتجارب إقصائية"، مشيرًا إلى أن الحكومة تطرح وحدات إسكان اجتماعي بأسعار قد تتجاوز 3 ملايين جنيه، بينما تُباع شقق فاخرة بأسعار خيالية تصل إلى ملايين الدولارات في مناطق مثل الشيخ زايد والقاهرة الجديدة.
بين قصر الشوق وأسوار الـ"كمبوند"
يشير الكاتب إلى رواية "قصر الشوق" لنجيب محفوظ، حيث تظهر بوادر التمايز الطبقي في بدايات القرن العشرين. لكنّ هذا التمايز تطوّر الآن إلى مدن معزولة ذات بوابات أمنية، يُمنع دخولها إلا للسكان والضيوف المُبلغ عن أسمائهم مسبقًا.
داخل هذه المدن، لا يحتاج القاطنون لأي تواصل مع الخارج: مدارس خاصة، مستشفيات حديثة، مولات فاخرة، وخدمات نظافة وأمن مُتعاقدة. وهكذا تُستبدل العلاقة المجتمعية التقليدية بخدمات مدفوعة، ما يعمّق العزلة والاغتراب الطبقي.
لم يعد السكن في مصر مجرد حق أساسي، بل أصبح سلعة تُباع وتُشترى بملايين الجنيهات، بل تُستخدم كأداة استثمارية لإقصاء الطبقات الأدنى. ويظهر ذلك بوضوح في إعلان رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى عن بيع 5100 وحدة بـ70 مليار جنيه خلال 36 ساعة فقط، وترويج مشاريع بأسعار تصل إلى 170 مليون جنيه.
يقول مصطفى فرحات، موظف في قطاع البنوك، إن الكمبوندات "توفر رفاهية، لكنها تفصل سكانها عن المجتمع"، مشيرًا إلى أن انتقال الوزارات والاستثمارات إلى العاصمة الإدارية يهدّد بإفراغ القاهرة القديمة من قيمتها الرمزية والاقتصادية.
أرباح هائلة... وعدالة غائبة
في كتابه "عشش وقصور"، يشير الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق إلى أن هذه المدن تُحقق أرباحًا طائلة لشركات عربية وأجنبية لا تخضع لضرائب تناسب ثرواتها، مؤكدًا أن الهدف ليس القضاء على العشوائيات، بل احتكار الأرض واستثمارها لأغراض رأسمالية بحتة.
من جهة أخرى، يرى الخبير العقاري سيف فرج أن المدن الجديدة حسّنت من جودة الحياة عبر بنية تحتية حديثة وخدمات متكاملة، بينما يُعارضه الباحث أكرم يوسف معتبرًا أن هذه "الكمبوندات" المغلقة ليست سوى مظاهر لعزلة اجتماعية تتناقض مع مبدأ المدينة المتكاملة.
بين العولمة والطبقية: ما العمل؟
سامية خضر، خبيرة علم الاجتماع، تقول إن "ثقافة الكمبوندات" هي نتيجة حتمية للعولمة، لكنها تُحذّر من "الحقد الطبقي" الذي قد يتفجر إذا لم يُعالج هذا التفاوت بثقافة شاملة ووعي مجتمعي. فيما تعلّق أميرة الهكع، المتخصصة بالتخطيط العمراني، أن الحكومة تركّز على جذب الاستثمار أكثر من بناء مدن عادلة للناس، ما يهدّد استمرارية هذه المشاريع على المدى الطويل.