"القلم أخطر من البندقية في سديه تيمان".. شهادة الأسير المحرر محمد قاعود

في شهادة مروّعة من قلب معتقل "سديه تيمان"، يروي الصحافي الفلسطيني محمد قاعود، المحرّر من سجون الاحتلال، تفاصيل اعتقاله من داخل مستشفى الشفاء، حيث تحوّل من "مراسل ميداني" إلى "مقاتل بالكلمة"، وجُرّم على هذا الأساس.

0:00
  • "القلم أخطر من البندقية في سديه تيمان".. شهادة الأسير المحرر محمد قاعود

في زمنٍ تُقاس فيه قيمة الإنسان بقدرته على حمل السلاح، برز القلم في فلسطين كقوّة موازية لقوّة الرصاص. فيُلاحَق الصحافي كما يُلاحَق المقاتل، ويُقتل كما يُقتل الجندي، ويُزجّ به في السجن كمن يحمل "جرماً" لا يُغتفر. 

إنها حربٌ على الحقيقة قبل أن تكون حرباً على البشر، وحصارٌ للذاكرة قبل أن يكون حصاراً للأرض. من قلب هذه المعركة القاسية، يطلّ صوت الصحافي الفلسطيني محمد قاعود، العائد من الأسر بعد أن اعتقله الاحتلال خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزة.

"الصحافي المقاتل" في معتقل الوعي

يصف قاعود شهادته بأنها ليست مجرّد معاناةٍ شخصية، بل وثيقة تشرح كيف صُنّف الصحافي الفلسطيني كـ"مقاتل أخطر من المسلّح"، وكيف تحوّل معتقل "سديه تيمان" إلى مصنعٍ لكسر الإرادة وكيّ الوعي.

بين قيدٍ شدّ يديه، وعصابةٍ حجبت عينيه، وتعذيبٍ استباح جسده وروحه، يروي قاعود أنّ الاحتلال أراد أن يربط الألم باسم المقاومة ليزرع الكراهية في النفوس.

ويكشف أنّ اعتقاله جرى من داخل مستشفى الشفاء، حيث عرّف عن نفسه كصحافي، غير أنّ ذلك زاد من شراسة اعتقاله. يقول: "الاحتلال يرى في الصحافي الفلسطيني محارباً، لذلك يعتبر إخراسه أولوية تتقدّم على اعتقال أي مواطن عادي".

 من غوانتنامو إلى "سديه تيمان"

يصف قاعود معتقل "سديه تيمان" بأنه "أسوأ من غوانتنامو"، موضحاً أنّه لم يكن مكوّناً من زنازين بل من "بركسات حديدية" بمساحات تتراوح بين 100 و200 متر، يُحشر في كل منها نحو 150 أسيراً مقيّدي الأيدي ومغمضي الأعين.

كان الأسرى يجلسون منذ الخامسة صباحاً حتى منتصف الليل في وضعية أشبه بالتشهّد، وهي وضعية مقصودة لإحداث آلامٍ مزمنة في المفاصل. ويضيف: "السجن لم يكن حجزاً للجسد فقط، بل صناعة لوجعٍ يتسلّل إلى العظم والذاكرة معاً".

مختبر للتعذيب... لا معتقل

يتحدث قاعود عن انتهاكاتٍ متعدّدة داخل المعتقل: من الضرب المبرح والتكسير والصعق الكهربائي، إلى التعصيب الدائم للأيدي والعيون. بعض الأسرى، كما يروي، قضوا خمسة أشهر يأكلون ويشربون وينامون وهم مقيّدون ومعصوبو الأعين.

لكنّ أخطر ما يكشفه قاعود هو التعذيب الجنسي الممنهج، موضحاً أنّ الاحتلال استخدم التفتيش العاري والتحرّش والاغتصاب بأدوات وعصيّ، بل حتى الكلاب، كوسائل إذلال جماعية. ويؤكد أنّ بعض المعتقلين تعرّضوا لاعتداءاتٍ مباشرة من المحققين أنفسهم في أماكن مغلقة.

ويضيف أنّ كثيرين أُجبروا على التبول على أنفسهم بسبب المنع المتعمّد من استخدام دورة المياه، وحُرموا من الصابون وقصّ الأظافر لأشهر، حتى اضطر بعضهم لقصّ أظافره بأسنانه، ما أدّى إلى انتشار الأوبئة. يقول: "أرادونا أن نشعر بأننا فقدنا إنسانيتنا".

 تجويعٌ، إذلالٌ، وصناعة الألم

يؤكد قاعود أنّ التحقيقات كانت تتمحور حول سؤالٍ واحد: "أين كنت في 7 أكتوبر؟"، وأنّ حتى الأطباء والمسنّين وُجّهت إليهم التهمة نفسها. الهدف، كما يقول، كان كسر الانتماء للمقاومة وربط الألم بها.

أما التجويع، فكان سياسةً يومية، عبر تقديم طعام يقتصر على قطعة خبزٍ متعفنة أو جبناً فاسداً. ومع ذلك، وجد الأسرى في الكلمة ملجأً لهم، فحوّلوا الزنازين إلى قاعاتٍ للنقاش والدراسة وتبادل القصص. يقول قاعود: "كنت أنوي كتابة كتاب عن تجاربنا، كنت أسأل زملائي وأدوّن ذهنياً حتى لا تُنسى التفاصيل".

من تجربة الأسر إلى رسالة المهنة

تجربة السجن، كما يروي قاعود، جعلته يشعر بأنّ "الله اختاره ليعيش التجربة التي كان يكتب عنها". وبعد تحرّره، قرّر أن يكرّس عمله الصحافي لتوثيق معاناة الأسرى ونقل شهاداتهم إلى العالم.

وفي حديثه عن استهداف الصحافيين، يشير إلى أنّ الاحتلال اعتبر الصحافة الفلسطينية هدفاً مباشراً حتى قبل السابع من أكتوبر، مستشهداً باغتيال فضل شناعة (2006) وشيرين أبو عاقلة والعشرات غيرهم، مضيفاً أنّ "منذ 7 أكتوبر اغتيل أكثر من 260 صحافياً، ولا يزال نحو 50 قيد الاعتقال".

 الصحافة جبهة مقاومة

يؤكد قاعود أنّ الصحافي الفلسطيني اليوم يعيش كالمقاتل تماماً، بل يدفع أثماناً مضاعفة، قائلاً: "أقلّ صحافي في غزة قدّم بيته وأهله وصحته ثمناً لمهنته". ويختم: "الأسرى قدّموا حياتهم داخل السجون، والأحرار عليهم أن يقدّموا حياتهم وبيوتهم بصدرٍ رحب، لأننا أبناء قضية واحدة وحقّ لا يسقط بالتقادم".

الوعي المقهور يولّد وعياً أصلب

هكذا، لم تكن شهادة محمد قاعود مجرّد روايةٍ عن اعتقالٍ وتعذيب، بل وثيقة تُضاف إلى سجلّ الاحتلال في استهداف الكلمة ومحاولة اغتيال الوعي الفلسطيني. فالحرب، كما يقول، لم تكن على المقاتلين وحدهم، بل على من حملوا الحقيقة كسلاح.

خرج قاعود من سجنه ليؤكد أنّ "الوعي المقهور لا ينكسر، بل يولد أصلب"، وأنّ الصحافة الفلسطينية ستبقى جبهةً أولى في معركة الحرية، تسجّل بالمداد ما يعجز الرصاص عن محوه.

اخترنا لك