احتلال الجولان: سرديّات دينيّة في خدمة التوسّع
اعتمد الاحتلال منذ احتلاله للجولان السورية، ما اعتمده في علاقته مع فلسطين دائمًا، يصبغ المكان بقصصٍ توراتية عبرانية عن ممرٍ هنا وممشى هناك، لتقديم ترابط تاريخي سياسي لاستمرار سيطرته على المكان، واصفاً الجولان منذ البداية بأنه "إسرائيل الشرقية".
"الجولان هي مدينة تتبع الإرث التوراتي"، هذا هو تعريف العهد القديم لهذه القطعة من الأرض، فيما زعم الجغرافي التاريخي الإسرائيلي زئيف فيلناي أنها امتداد لأراضي "سبط منسى" المذكورة في التلمود، ووفقاً له فقد احتل العبرانيون الجولان التي كانت تُسمى "جولانتيتس" من الأموريين.
أما في العهد القديم فيتكرر الاسم في كلٍ من سفر التثنية وسفر يشوع، حيث يتم وصف موقعها بأنه "جزءٌ من منطقة باشان (حوران)، وتتداخل حدودها أحيانًا مع أرض باسان أو بيت سان التي تُعرف اليوم ببيسان، وهي واحدة من ثلاث إلى ست مدن تدخل ضمن حدود مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا (إسرائيل الشمالية والجنوبية)، وتُعرف باسم مدن اللجوء".
ويُتاح- وفقًا للتاريخ اليهودي- لمن ارتكب جريمة القتل غير العمد (القتل سهوًا) وخشي من الانتقام أن يلجأ إلى هذه المدن، وتنقسم إلى ثلاث مدنٍ شرق نهر الأردن وثلاث غربه. فأما التي في شرقه -خارج حدود فلسطين التاريخية- فهي الجولان و"باصر" جنوب سوريا، و"راموت" شمال الأردن، وأما التي في غربه فهي "قادش" (قَدَس) و"شكيم" (نابلس) و"حبرون" (الخليل).
ولا تقتصر تنبؤات التوراة فيما يتعلق بالجولان على نطاق الحدود أو التاريخ، بل تعدته إلى التبشير باستخراج النفط من أرضه في سفر إشيعيا، من خلال أكثر من 17 نصًا، يعتمدها أنصار الصهيونية المسيحية في الإشارة إلى الارتباط التوراتي بالجولان، والأهمية الاقتصادية المتوخاة له في مستقبل "إسرائيل".
تأسيًا مع هذا المقصد التوراتي أو ذاك، وبدون الحاجة له طبعًا في تبرير التوسع والاستيطان، اعتمد الاحتلال منذ احتلاله للجولان السورية، ما اعتمده في علاقته مع فلسطين دائمًا، يصبغ المكان بقصصٍ توراتية عبرانية عن ممرٍ هنا وممشى هناك، لتقديم ترابط تاريخي سياسي لاستمرار سيطرته على المكان، واصفاً الجولان منذ البداية بأنه "إسرائيل الشرقية".
وبقليلٍ من الحشد الديني المتطرف، والطرق على مسامع الساسة والجيش والجمهور بأهمية المحافظة على الإرث اليهودي، انطلق تهويد الجولان منذ عقود، حتى غدا اعتراف إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بها ضمن السيادة الإسرائيلية تحصيل حاصلٍ ليس إلا.
فمطلع عام 2008 كانت وزارة التراث الإسرائيلية قد أكملت مهام "الأسرلة" في الجولان، بتغييرها موقع تل القاضي إلى "تل دان"، مطلقةً موجة أعمال تنقيب وصيانة وترميم وتأهيل لتُختتم بافتتاح موقعٍ تاريخي أمام السياح يحمل اسم "بوابة إبراهيم"، وفيه تمثل الجولان بوابةَ قاد بها النبي إبراهيم الشعب العبري من أور إلى "إسرائيل".
وبعد ضم ترامب أُسست سلسلة كيبوتسات ومستوطنات منها مستوطنة "هضبة ترامب"، التي تُعد أول مستوطنة جديدة في الجولان منذ 29 عامًا، وتختلف عن بقية المستوطنات بعدد سكانها الذي يزيد عن الـ 800، وبطابعها الصناعي، وبالضخ المالي المهول الذي صاحب إنشائها، حيث أشار الصحافي الإسرائيلي حينها درور بوير إلى أن الحفاظ على هذا العدد من المستوطنين اضطر الحكومة الاسرائيلية إلى ضخ الأموال والميزانيات وتشجيع الاستيطان، "فمقابل 1.3 مليون شيكل يستطيع أي شخص شراء منزل على مساحة نصف دونم تُمنح مجاناً".
وبرغم ذلك فإن طابع المنطقة لم يتجاوز صفة "الحديقة الوطنية الإسرائيلية"، فما يزال المستوطنون اليهود يشكلون أقلية بعد خمسة عقود من إعادة مشروع الاستيطان، وهي المنطقة الأقل اكتظاظًا بهم حيث يعيش كل 40 يهودي في كلم واحد، مقابل 27 ألف مواطن درزي يعيشون في قرى شمال الجولان إضافة إلى قرية علوية على حدود لبنان.
بينما تستقبل المنطقة نسبةً كبيرة من السياح تصل إلى مليون ونصف شخص سنويًا مقابل انخفاض في اتجاهات التوطين، لا تزيد عن ألف مهاجر في المدة الزمنية نفسها، وبرغم موجة المشاريع الاقتصادية التي تدفقت على المنطقة إبان "ضم ترامب" وشملت ترخيصًا بالحفر لاستخراج النفط في 850 كيلومتراً مربعاً، أي نصف مساحة الجولان تقريباً، ومشاريع لمزارع التوربينات الهوائية العملاقة، إلا أن ذلك لم ينجح في دمج المنطقة بالمركز، ولا في تحفيز المستوطنين الجدد على البقاء فيها.
كما تزامنت المشاريع الاقتصادية مع موجة ضخ كبيرة لتطوير المنطقة وإنعاشها حكوميًا، من خلال 300 مليون شيكل للمستوطنات الزراعية من أجل بناء 750 مزرعة جديدة، و65 مليون شيكل لمستوطنة كتسرين -التي يُروج لها اليوم باسم عاصمة الجولان-، و80 مليون شيكل لتحسين البنية التحتية للطرق بين مناطق الجولان الداخلية، من دون أن تحظى مشاريع التوطين بالكثير من النجاح.
واليوم تحت مبررات سياسية أولًا وعسكرية ثانيًا وتوراتية دائمًا تُقدم مجنزرات جيش الاحتلال على تجاوز الخط الفاصل مع سوريا، وتضع يدها على جبل الشيخ ومحافظة القنيطرة، وتتوسع شيئًا فشيئًا مقتربةً من العاصمة دمشق، مؤسسة لوجود استخباراتي على رأس جبل الشيخ الذي يتمتع بأفضلية كاشفة على العمق السوري واللبناني والأردني، ولوجود استيطاني متسارع تكفلت جماعاتها بإطلاقه.
إلحاح الاستيطان الحكومي والديني
لم يكن الساسة الإسرائيليون بحاجة للكاتب في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يائير كراوس ليقول لهم: "نحن على الجبل وسنبقى على الجبل، انتهينا!"، بل كان هذا لسان حالهم جميعًا وعلى رأسهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي سارع لاستعراض الوجود العسكري الإسرائيلي على قمة الجبل، معتبرًا إياه جزءًا من سعيه لـ"شرق أوسطٍ جديد".
الوجود الإسرائيلي لم يقتصر على شكله العسكري فقط، برغم حداثة توغله، وتغير شكله، بل تم دعمه بموافقة حكومية إسرائيلية على "توسيع الاستيطان في الجولان"، تحت مبررات مختلفة، من بينها "الرغبة في مضاعفة عدد سكان الجولان، وتشجيع النمو الديموغرافي، وتوسيع مستوطنة كتسرين".
وبينما ألقى البيان الحكومي مسؤولية توسيع الاستيطان على مجلس الجولان الإقليمي، داعمًا إياه في مهمة استيعاب ما وصفه بـ "السكان الجدد الذين سيصلون لاحقًا"، من خلال خطة أولية قوامها 11 مليون دولار، سارعت مجموعة حاباد الحاسيديم الاستيطانية إلى قمة الجبل بصحبة الأطفال والحاخامات، لتلاوة سفر هتانيا، وهو سفرٌ خاص بالمجموعة، لإعلان انطلاقة "الوجود اليهودي الديني" في سوريا.
ونقل مقطع الفيديو المصور قول الحاخام شالوم بير هرتزل: "للمرة الأولى على الإطلاق، قمنا بافتتاح فرع بيت حاباد في سوريا، نحن موجودين بأرض داخل سوريا لنقيم أول معبد يهودي في الخضر، قوات الجيش تتواجد خلفنا في جبل الشيخ التي "أمنتها" منذ ايام قليلة، هذا هو بلدنا كله".
ولا تتنافى هذه الأقوال مع تصريحات نتنياهو الذي وجد في الأراضي المحتلة حديثًا "أمرًا مهمًا بشكلٍ خاص" مؤكدًا أنه سيواصل التمسك بها، واستيطانها، وجعلها تزدهر"، بل تنسجم تمامًا مع خطة "إسرائيل "2048 التي أقرتها حكومته عام 2020.
حيث تنطلق الخطة في رؤيتها لمئوية "إسرائيل" الأولى من التوسع الاستيطاني في الجولان، بتوطين 250 ألف مستوطن، وبناء 30 ألف وحدة استيطانية في مستوطنة كتسرين وحدها، إضافةً إلى بناء مستوطنتين جديدتين، وتوفير 45 ألف وظيفة عمل جديدة في المنطقة، وربطها بخط مواصلات قوي وسريع مع الوسط.
والحقيقة أن خطة المئوية في حد ذاتها تؤكد أن التحرك العسكري الإسرائيلي لم يكن اعتباطيًا، فحتى اختباء نتنياهو ووزير دفاعه في بداية احتلاله المتزايد للجولان خلف مبررات "الحرب وضمان الأمن، والفراغ على الحدود السورية، واستطلاع وضع القيادة السورية الجديدة"، واختلاق حدودٍ زمنية متغيرة لاستمرار احتلاله ما بين "المؤقت وحتى نهاية الشتاء، وحتى منتصف 2025"، لم يمنعه من الكشف الصريح أخيرًا بالقول: "الجولان ستبقى إلى الأبد جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل".
وهو كشفٌ غير مستهجن بالنظر للأهمية التي تمثلها المنطقة لرؤية "إسرائيل الكبرى" التي تعتبر دمشق فيها -وفقًا لتصريحات سموتريتش- "مقاطعة إدارية تابعة للقدس"، فمرتفعات الشيخ تبعد عن دمشق العاصمة 60 كيلو مترًا، كما أن ارتفاعه الذي يصل إلى 2800 متر يؤمن موقعًا ممتازًا للصد والمراقبة والتجسس.
وأما مياه الجولان فهي إحدى ثلاث منابع يعتمد عليها الأمن المائي الإسرائيلي، بينما تربتها خصبة غنية بأشجار التفاح وكروم العنب، ويحظى برواجٍ سياحي للتزلج على الجليد أو التسلق، وبهذه المميزات تضع المخططات الإسرائيلية هدف تطوير صناعة النبيذ وتحويل مزارع الجولان إلى مرافق سياحية تؤمن رحلة متكاملة الأركان والمرافق.
حقيقة الابتلاع وأحلام السيطرة
في الحقيقة فإن الخطوة الإسرائيلية لاحتلال كامل الجولان، وقمة جبل الشيخ لم تكن أمرًا طارئًا على العقلية الإسرائيلية، بل هي مخطط قديمٌ بقدم مخططات احتلال فلسطين، لكنها لم تكن تحتاج سوى اللحظة المناسبة لتنفيذها والتوسع فيها.
ففي نهاية القرن التاسع عشر أشرف الثري اليهودي روتشيلد على شراء أراضٍ ومساحات كبيرة من منطقة الجولان، مخصصًا إياها للاستيطان الزراعي، ومع مطلع القرن العشرين، وتحديدًا عام 1920 طالب ديفيد بن غوريون حزب العمل البريطاني بتجاهل خطوط سايكس بيكو فيما يتعلق بالاستيطان الإسرائيلي، والتركيز على الأبعاد الجغرافية والحيوية والاستراتيجية.
وقال في خطابه الذي وجهه باسم اتحاد العمال الصهيوني: "من الضروري أن لا تكون مصادر المياه التي يعتمد عليها مستقبل البلاد خارج حدود الوطن القومي اليهودي في المستقبل، فسهول حوران التي هي بحق جزء من البلاد يجب أن لا تسلخ عنها، ولهذا السبب يجب أن تشتمل إسرائيل الضفاف الجنوبية لنهر الليطاني، وإقليم حوران من منبع اللجاة جنوبي دمشق، بالإضافة إلى أن الصناعة سوف تعتمد على توليد الكهرباء من هذه القوى المائية" .
وبينما استغلت "إسرائيل" حروبها مع العرب للتوسع، أقدمت أيضًا على استخدام السلام سلاحًا، فبُعيد سيطرتها أواخر السبعينات على منحدرات الجولان، أنشأت أكثر من 30 قرية يهودية، ثم أعلنت ضمها مع بداية الثمانينات، قبل توسعها الأخير.
لكن الواقع يقول إن محاولات تطوير المنطقة "إسرائيليًا" وربطها بعمق البلاد وبالمراكز الصناعية والحضرية والحيوية خلال السنوات الخمسين الماضية لم تفلح، ولا تحمل اليوم بذورًا مختلفة، إلا فيما يتعلق برغبة "إسرائيل" في التوسع والسيطرة والابتلاع لمزيدٍ من المناطق.
بل إن سعيها للتوسع لا يرتبط بالأرض السورية وحدها اليوم، بل أصبح مرتبطًا أكثر بعقيدة وأيديولوجيا ترى في الدولة السمينة التي تتوسع في الجولان وربما في لبنان، ومحتملًا في الأردن، ملاذًا للمزيد من الردع والأمن الداخلي.
أما على الصعيد الاجتماعي، فلا تبدو محاولات الاستيطان التاريخية في الجولان ناجحة، فهي واحدة من أقل المناطق استيطانًا، ولا يتم تحديث الطرق والمصانع فيها إلا نادرًا، وتفتقر للخدمات الاجتماعية والصحية، ولا تعمد الحكومة جادةً لاجتذاب المستوطنين بمثل الحوافز التي تقدمها لمستوطني الضفة الغربية، والقدس الشرقية، والأغوار.
وحتى حين تقَدمت الملايين للمستوطنين الجدد "في مستوطنة هضبة ترامب"، فإن واقع المكان الذي تبعد عنه أقرب مشفى 50 دقيقة، وأقرب مركز جماهيري 25 دقيقة -للمستوطنين اليهود- يجعل نمط قاطنيها مقتصرًا على مزارعي البساتين وموظفي القطاع العام والخاص، بدون وجودٍ حقيقي لأصحاب الشهادات والمهن وخريجي العلوم والتكنولوجيا، ممن بإمكانهم تثبيت الدعاية الإسرائيلية لمستوطنات الجولان بصفتها "سويسرا إسرائيلية"، أو اعتبار الاحتلال الإسرائيلي الأخير تأكيدًا على غياب أي احتمالٍ أو تسوية سياسية بإمكانها أن تُخرج مستوطني الجولان منه.
بالمحصلة، فإن هذا الفشل الاستيطاني -وليس العسكري- من المتوقع أن يتزايد في ظل مؤشرات التوتر في المنطقة، وعزوف مستوطني الشمال (ثلث مستوطني كريات شمونة) عن العودة إلى مناطقهم، وإذا ما اقتصر نمط الاستيطان في المنطقة على الجماعات الدينية المتطرفة، التي لا ترتبط بأعمال ووظائف منتجة، ولا تخدم في الجيش، فمن البديهي أن المستوطنات التي ستؤُسس ستكون على شاكلة مستوطنات الشمال، الكثير من البؤر والقليل من المستوطنين.
وما لم ينقشع غبار التغيير السوري الداخلي عن بواطنه، وتنتهي الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن أي مخططات استيطانية ستظل هياكل خارجية لتوسعٍ لا طائل منه، وسيظل الخوف ملازمًا دائمًا لمستوطني الشمال والجنوب والضفة الغربية من طوفانٍ آخر، أو بأسٍ آخر، يقتلع آخر أحلام وجودهم واحتلالهم.