اقتصاد بلا عدالة.. هل ينقذ الحراك الاجتماعي أوروبا أم يغرقها؟
أكثر من ثلث المواطنين الأوروبيين يواجهون حواجز بنيوية تحول دون تقدمهم المهني والاجتماعي، وهي حواجز تتجلى في التعليم، ونفاد الفرص، والتمييز الخفي، والبنى التراتبية في سوق العمل.
-
اقتصاد بلا عدالة.. هل ينقذ الحراك الاجتماعي أوروبا أم يغرقها؟
في الوقت الذي تواجه فيه القارة الأوروبية تحديات هيكلية متزايدة، تتعلق بالشيخوخة السكانية، وتغيرات سوق العمل، والضغط المتنامي على النظم الاقتصادية والاجتماعية، يبرز الحراك الاجتماعي بوصفه عنصرًا جوهريًا لا غنى عنه، ليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل كذلك لضمان استدامة النمو الاقتصادي والتنافسية العالمية.
تُظهر دراسة معمّقة صدرت مؤخرًا أن وتيرة الحراك الاجتماعي في أوروبا قد تباطأت بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير، ما أدى إلى فقدان اقتصادي يُقدَّر بنحو 1.3 تريليون يورو من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي. هذا الرقم لا يعكس فقط خسارة مالية، بل يرمز إلى تآكل الإمكانات البشرية غير المستثمرة، وإهدار رأس المال الاجتماعي الكامن في الطبقات المهمشة.
هيكلية الانغلاق الطبقي.. ومعضلة العدالة الاقتصادية
تفيد نتائج الدراسة بأن أكثر من ثلث المواطنين الأوروبيين يواجهون حواجز بنيوية تحول دون تقدمهم المهني والاجتماعي، وهي حواجز تتجلى في التعليم، ونفاد الفرص، والتمييز الخفي، والبنى التراتبية في سوق العمل. يتجلى هذا في فجوة صارخة في معدلات البطالة: 9.4% لمن ينتمون إلى خلفيات اجتماعية واقتصادية متدنية، مقابل 5.3% فقط لمن وُلدوا في بيئات أكثر ثراءً.
وتكمن الخطورة لا في حجم الفجوة فحسب، بل في دلالتها: النظام الاقتصادي الأوروبي، في شكله الراهن، لا يكافئ الكفاءة بقدر ما يُعيد إنتاج الامتيازات. كما أن فرص التعليم المستمر والتدريب (وهي أدوات أساسية للارتقاء الاجتماعي) تظل متركزة في يد الفئات الميسورة، بينما يُجبر أبناء الفئات الدنيا على الحفاظ على وظائفهم تحت ضغط الحاجة، من دون القدرة على الانخراط في مسارات تطوير الذات.
اقتصاد بلا عدالة: معادلة خاسرة
تُظهر التقديرات أن تقليص فجوة المشاركة في سوق العمل بين الفئات المتدنية والميسورة قد يؤدي إلى إدماج 2.1 مليون شخص إضافي ضمن الاقتصاد النشط. وإذا افترضنا أن كل وظيفة جديدة تُضيف متوسط 74000 يورو من القيمة، فإن الناتج الإضافي قد يصل إلى 160 مليار يورو، وهو رقم لا يستهان به في حسابات النمو والاستقرار المالي.
لكن الأثر الأكبر يكمن في تحويل الحراك الاجتماعي إلى أداة لمواجهة أزمة المهارات، والتي أصبحت أكثر إلحاحًا في أوروبا منذ تفشي الجائحة. في أكثر من 29 دولة أوروبية، تعاني الشركات من نقص حاد في الكفاءات، في ظل تسارع التغيرات التكنولوجية والديموغرافية.
فجوة المهارات وسوء توزيع الكفاءات
المفارقة الكبرى أن العمال المهرة من خلفيات متواضعة، حتى عند امتلاكهم للمؤهلات والخبرات، لا يحصلون على وظائف تتناسب مع قدراتهم. فالتفاوت الطبقي لا يتجلى فقط في فرص الدخول إلى سوق العمل، بل يمتد إلى نوعية الفرص، وسرعة التقدم المهني، والأجر، ودرجة التقدير المؤسساتي.
وقد أظهرت دراسة لـ"ماكنزي" أن تحسين توزيع المهارات ليعكس تكافؤًا حقيقيًا بين الخريجين من مختلف الخلفيات الاجتماعية، يمكن أن يُضيف 590 مليار يورو للناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، من خلال الاستغلال الأمثل للموارد البشرية الكامنة.
بل إن تسريع التقدم الوظيفي للفئات المهمشة (بحيث تتوافق مساراتهم المهنية مع نظرائهم من الفئات الميسورة) من شأنه أن يُضاعف القيمة المُضافة للوظائف ذات المهارات العالية بنسبة 44%، وللوظائف المتوسطة إلى العالية بنسبة 13%. هذه الأرقام، في مجملها، تمثل فرصة استراتيجية نادرة: نمو قائم على الإنصاف، لا على التوسع فقط.
قضية بقاء
تكمن الرسالة الجوهرية للدراسة في أن الحراك الاجتماعي لم يعد ترفًا أخلاقيًا أو أداة للتجميل السياسي، بل هو شرط بنيوي لتعافي الاقتصادات الأوروبية، خاصة في ظل شح الموارد، وتزايد الضغوط الجيوسياسية، وتقلص قاعدة القوى العاملة.
إن بناء سياسات تشجع على الحراك الاجتماعي (عبر ضمان تعليم نوعي، وتحسين النفاذ إلى فرص التدريب، وتفكيك البنى التمييزية في سوق العمل) يمكن أن يُدرَك اليوم لا كخيار، بل كضرورة استراتيجية، تمامًا كاستثمارات البنية التحتية أو التحول الرقمي.
في زمن تعصف فيه المتغيرات بالعالم، تظل قدرة أوروبا على استثمار كامل طاقاتها البشرية، من مختلف الشرائح والطبقات، مفتاحًا لنجاة نموذجها الاقتصادي والاجتماعي. فبينما تتضاءل الخيارات أمام سياسات مالية توسعية بفعل قيود الدين والتضخم، فإن الاستثمار في تكافؤ الفرص يمثل المسار الأقل كلفة والأعلى مردودًا.
بكلمات أخرى، الحراك الاجتماعي اليوم ليس مسألة إنصاف، إنما قضية بقاء.