الإبادة البيئية سلاح تهجير جديد يهدد الفلسطينيين في غزة

العدوان الإسرائيلي على غزة حوّل الأرض من حاضنة للحياة إلى مصدر للتلوث والمرض، إذ دُمّرت 86% من الأراضي الزراعية وتلوثت المياه والتربة بمواد سامة. هذا الخراب البيئي بات أداة تهجير طويلة الأمد، فيما يتمسك المزارعون بزراعة أرضهم برغم الحصار والتجريف المستمر.

0:00
  • الإبادة البيئية سلاح تهجير جديد يهدد الفلسطينيين في غزة
    الإبادة البيئية سلاح تهجير جديد يهدد الفلسطينيين في غزة

الأرض هنا لم تعد كما كانت؛ تربتها تغيّر لونها، هواؤها تغيّر طعمه، وماؤها صار يخفي في عمقه ما يفتك بالجسد بصمت.

ما يجري ليس مجرد حرب تُقصف فيها البيوت وتُهدم الجدران، بل عملية اقتلاع كبرى تستهدف الحياة من جذورها.
بساتين الزيتون صارت رماداً على رماد، والمزارع التي كانت تفيض بالخضرة تُسقى اليوم بسموم الفوسفور والمعادن الثقيلة.

القصف لا يترك وراءه حجارة مهدّمة فقط، بل يزرع في الأرض بذور مرضٍ يمتد أثره لعقود؛ تربة ملوثة، ماء مسموم، هواء محمّل بجزيئات لا يراها أحد، لكنها تحفر في الأجساد أمراضًا لا تمحوها السنوات.

إنها حربٌ تُدار بعقلية "الأرض المحروقة"، حيث الهدف ليس إخراج الناس من بيوتهم فحسب، بل جعل عودتهم عبئاً لا يُحتمل، وذكرياتهم عبئاً أشد.

الأرض التي كانت حاضنة للحياة، تتحول تحت ضربات متعمدة إلى شاهدٍ صامت على جريمة لا تنتهي بانتهاء القصف، بل تبدأ بعده

انهيار الزراعة في غزة

منذ الأشهر الأولى للحرب، تحوّلت الحقول الخضراء في غزة إلى مساحات رمادية قاحلة. وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، فإن نحو 86% من الأراضي الزراعية في القطاع تعرّضت لأضرار جسيمة بحلول تموز/يوليو 2025، فيما بقيت أقل من 2% منها صالحة للاستغلال الفعلي.

وتؤكد صور الأقمار الصناعية التي حلّلها برنامج الأمم المتحدة للأقمار الاصطناعية (يونوسات) أن أكثر من 80% من الأراضي القابلة للزراعة باتت غير متاحة أو غير قابلة للاستخدام، نتيجة القصف المباشر أو القيود العسكرية التي فرضها الاحتلال.

هذا التدمير لم يقتصر على محاصيل الموسم الحالي، بل امتد ليضرب بنية الزراعة نفسها؛ من أنظمة الري والخزانات، إلى البذور المخزنة والحيوانات التي كانت تشكّل مصدر رزق لآلاف العائلات.

وفي شمال غزة، حيث كانت الحقول تُعرف بغزارة إنتاجها، تشير تقديرات الفاو إلى أن 94% من الأراضي الخصبة قد خرجت من الخدمة، بينما وصلت النسبة في رفح إلى 79%، وهو ما يعني –بحسب المنظمة– انهياراً شبه كامل لأحد أعمدة الأمن الغذائي في القطاع.

من التربة إلى الماء… دورة التلوث المغلقة

لا يتوقف أثر القصف عند تشويه ملامح الأرض، بل يمتد إلى ما تحتها وما حولها. فالتربة التي امتصت بقايا الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة، تحولت إلى مخزن للسموم يتسرّب ببطء نحو المياه الجوفية.

ووفق تقرير مشترك لمنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن مستويات التلوث في بعض آبار غزة تجاوزت المعايير الدولية للشرب بأضعاف، نتيجة اختلاطها بمواد كيميائية ومخلفات وقود متفجرات.

وفي غياب بنية تحتية قادرة على المعالجة، تتفاقم المشكلة مع تدمير شبكات الصرف الصحي ومحطات التحلية، ما يسمح لمياه الصرف غير المعالجة بالتسرب إلى طبقات المياه الحاملة.

هذا التداخل بين تربة مسمومة وماء ملوث يصنع دائرة مغلقة من الخطر، حيث تنتقل السموم من الأرض إلى المزروعات، ومن ثم إلى موائد الناس، لتصبح الزراعة –التي كانت مصدر الحياة– باباً لأمراض مزمنة وأزمات صحية تتوارثها الأجيال

الخراب البيئي كأداة تهجير

لا يقتصر أثر الحرب على تهجير السكان بقوة السلاح، بل يمتد إلى تدمير بيئتهم بحيث تصبح العودة شبه مستحيلة. بيانات الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 1.9 مليون فلسطيني نزحوا داخلياً منذ بدء الحرب، فيما ترك الدمار البيئي ما يعادل 39 مليون طن من الركام الملوث بمواد سامة مثل الأسبستوس وبقايا المتفجرات، وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

هذا الركام لا يمثل عائقاً مادياً أمام إعادة الإعمار فحسب، بل يشكّل خطراً صحياً طويل الأمد، يمنع الناس من إعادة الاستقرار في مناطقهم.

يؤكد تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن تدمير الأراضي الزراعية وتلويث مصادر المياه جزء من استراتيجية تهدف إلى "قطع الروابط المعيشية والثقافية" بين السكان وأرضهم.

فالمزارع التي كانت تنتج القمح والزيتون تحولت إلى مساحات قاحلة، والمياه الجوفية التي كانت مصدر الحياة صارت ملوثة. هذه الإجراءات، إلى جانب القيود العسكرية، تخلق بيئة طاردة تدفع الناس إلى الابتعاد، ليس فقط بسبب الخطر الفوري، بل لأن المكان نفسه فقد مقوّمات الحياة

هل يمكن إحياء الأرض المحروقة؟

برغم استمرار القصف، بدأت ملامح الدمار البيئي تفرض نفسها كمأزق مستقبلي في غزة. الأراضي الزراعية التي جرفت ودمّرت مرات عدة، باتت غير صالحة للزراعة بفعل التلوث والركام.

في بيت لاهيا، حاول المزارع أحمد سلامة استغلال فترة الهدنة في كانون الثاني/يناير 2025 لإعادة زراعة أرضه التي تبلغ مساحتها دونمين، بعد أن جرفها الاحتلال سابقاً وأتلف جميع معداته ومحاصيله التي كان يستعد لحصادها.

اختار زراعة الكوسا والفلفل الأخضر البلدي، محاولاً تعويض الخسائر، لكنه اضطر للنزوح مع استئناف العمليات العسكرية في آذار/مارس، ليترك الأرض مجدداً بعدما جرفها الاحتلال مرة أخرى.

وفي حديثه إلى الميادين نت، أكد سلامة أنه برغم كل هذه الخسائر، لا يزال متمسكاً بالأرض وملتزماً بزراعتها، مشدداً على أنه سيظل يزرع أرضه مهما تجرفت مرات عدة.

تعكس تجربة سلامة واقعاً مأساوياً للمزارعين في غزة، الذين برغم خسارتهم المتكررة ومعداتهم المحطمة، ما زالوا مصرّين على استعادة حياتهم الزراعية ومواجهة الواقع المرير.

غير أن جهودهم الفردية تبقى محدودة وسط احتلال مستمر وحصار خانق يمنع إدخال المعدات والمواد اللازمة لإعادة تأهيل الأراضي والتربة الملوثة، وهو ما تؤكده منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، مشيرة إلى أن عملية إعادة تأهيل الأراضي المدمرة في غزة قد تستغرق سنوات طويلة

تجاوزت الإبادة البيئية في غزة حدود الدمار المادي لتصل إلى قلب العلاقة بين الإنسان وأرضه. برغم التجريف والتلوث، يستمر المزارعون في مقاومة الخراب بإعادة الزراعة، لكن استمرار الحرب والحصار يجعل مستقبل الأرض مهدداً، ويستلزم تحركاً دولياً عاجلاً لحماية ما تبقى من الحياة.

اخترنا لك