التجويع في غزة مستمر والمساعدات لا تصل.. إبادة جماعية بطيئة

قطاع غزة يواجه مرحلة غير مسبوقة من المجاعة، حيث تجاوزت مؤشرات الجوع الخطوط الحمر، وسط انهيار تام لمنظومات الغذاء والصحة. الشهادات من الداخل ترسم صورة مأساوية لصراع يومي من أجل البقاء، مع اتهامات دولية لـ"إسرائيل" باستخدام الجوع كسلاح.

  • التجويع في غزة مستمر والمساعدات لا تصل.. إبادة جماعية بطيئة
    التجويع في غزة مستمر والمساعدات لا تصل.. إبادة جماعية بطيئة

مجاعة. هكذا ببساطة مؤلمة تُختصر الحكاية. لا حديث عن رفاهية، ولا حتى عن الكفاف؛ فالموائد خلت، والأسواق تشهد عزوفًا جماعيًا، والعيون تلاحق الأرغفة كما لو كانت كنزًا مفقودًا. لم تعد المجاعة مجرد احتمال، بل واقعٌ يزداد قسوة، يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، ويعيد تشكيل المشهد الإنساني تحت وطأة الحصار والجوع. 

ينام الأطفال على بطون خاوية، والأمهات يعددن الأمل لا الوجبات. صوت المعدة الفارغة بات أبلغ من كل نداء، والبحث عن الطعام تحوّل إلى معركة يومية يخوضها مليوني إنسان بأسلحة مهترئة من الصبر والدمع.

المجاعة ليست بالمعنى المجازي، بل كما تُعرّفها منظمات الصحة العالمية: نقص غذائي حاد، انهيار منظومات الإمداد، وانعدام الأمن الغذائي، أما الأسواق، فليست أكثر من مسرحٍ لبضاعة لا يقدر عليها أحد، أو رفوف خاوية تنعي زمن الوفرة. 

مؤشرات المجاعة في غزة

تعكس البيانات الأخيرة تدهورًا حادًا في الأمن الغذائي بقطاع غزة، بما يقترب من معايير المجاعة الرسمية وفق نظام تصنيف الأمن الغذائي المتكامل (IPS). تقرير (IPS)، الصادر في أيار/مايو 2025 يشير إلى أن 470 ألف شخص، أي نحو 22% من السكان، يعيشون "في حالة كارثية، ويمثل ذلك أعلى مستوى منذ بدء التصنيف عالميًا. كما أن النسبة الإجمالية ممن يعانون أزمات غذائية حادة فاقت 90% من السكان".

وقد حذرت منظمة "الأمم المتحدة" ومؤسسات مثل WFP وUNICEF من ارتفاع نسبة سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون الخامسة، إذ قفزت من 5.5% في أذار/مارس إلى 10.2% في حزران/يونيو 2025، ما يعني أن نحو 6,000 طفل في حاجة ماسة إلى علاج الطوارئ.

كما أظهرت بيانات برنامج الأغذية العالمي أن 70 ألف طفل و17 ألف أم بحاجة فورية لعلاج سوء تغذية حاد، وأكثر من 86 حالة وفاة تم رصدها خلال شهرين فقط بسبب سوء التغذية والجوع، إلى جانب 72 شهيد أثناء محاولتهم الحصول على الطعام في نقاط التوزيع.

وحسب وزارة الصحة فقد وثقت 851 شهيد أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز المساعدات منذ 27 أيار/مايو 2025.

ومن الجدير ذكره أن الوضع تدهور بشكل حاد منذ بداية العدوان الإسرائيلي في تشرين أول/أكتوبر 2023، بالتزامن مع الإغلاق الكامل للمعابر، ومنع دخول الإمدادات الغذائية، وتدمير منشآت البنية التحتية. كل هذه العوامل مجتمعة تدفع بغزة إلى حافة المجاعة، وفقًا للتعريف الرسمي المعتمد دوليًا.

المجاعة تتجاوز الفقر: غياب الغذاء لا المال

في هذا السياق، يصبح من الضروري التمييز بين المجاعة وأزمة السيولة النقدية. فالمجاعة لا تعني فقط عجز الناس عن شراء الطعام، بل انعدام وجوده من الأساس.

ووفق التعريف المعتمد دوليًا، فإنّ المجاعة تُعلن عندما يُفقد الغذاء بسبب الحصار، أو انهيار الإمدادات، أو تدمير سلاسل التوزيع، ما يؤدي إلى وفيات وسوء تغذية حاد، بغض النظر عن القدرة المالية. على النقيض، أزمة السيولة تحدث حين تتوفر السلع ولكن بأسعار تفوق قدرة الناس.

في غزة، الأزمة تتجاوز هذه الحدود. الطحين، الحليب، الزيت، والسكريات، والحلويات، وأغذية الأطفال، وحتى مياه الشرب، إما غير متوفرة بالكامل أو تصل بكميات محدودة لا تفي بالحاجة، وهذا ما يجعل الوضع أقرب إلى حالة مجاعة، وليس فقط أزمة في السيولة النقدية.

بدوره، بيّن برنامج الأغذية العالمي (WFP) في تقاريره الصادرة في تموز/يوليو 2025 أن "الناس في غزة لا يفتقرون فقط للمال، بل للطعام نفسه"، مع وجود آلاف العائلات التي لا تجد ما تأكله، حتى عندما تمتلك المال.

غزة تدخل مرحلة الانهيار الكامل

من جهتها أكدت جهات صحية وميدانية في غزة، أن الأوضاع دخلت مرحلة غير مسبوقة من الخطر، وقد أعلن مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، أن الوضع الإنساني والغذائي في القطاع المحاصر بلغ مستويات "بالغة الخطورة"، مشيرًا إلى أن القطاع يمر بـ"أخطر مراحل المجاعة"، حيث بدأت تظهر مشاهد مروعة لأشخاص يتساقطون في الشوارع نتيجة الجوع وسوء التغذية.

وشدد البرش على أن حالات الوفاة الناجمة عن الجوع في تزايد مستمر، وأن أعداد المصابين بأعراض ناتجة عن سوء التغذية، خاصة بين الأطفال وكبار السن، تتضاعف يوميًا وسط عجز تام في المنظومة الصحية عن الاستجابة.

ونبّهت شبكة المنظمات الأهلية في غزة إلى أن الساعات المقبلة قد تكون حاسمة في مصير آلاف المدنيين، في ظل استمرار غياب أي مساعدات غذائية عاجلة، وحصار يحرم السكان من الحد الأدنى من مقومات البقاء، محذّرة من انفجار إنساني وشيك في حال استمر الوضع على حاله.

"المجاعة كسلاح".. اتهامات دولية لـ"إسرائيل"

لم تعد التحذيرات مقتصرة على المؤسسات المحلية، إذ حذّرت هيومن رايتس ووتش مؤخرًا من استخدام المجاعة كسلاح حرب ضد المدنيين في غزة، واعتبرته انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي.

في المقابل، لا تزال إسرائيل تمنع دخول المساعدات بشكل منظم، إلا القليل منها والتي لا تكفي 1% من السكان، وتفرض قيودًا على مرور شاحنات الغذاء والدواء، وتستهدف بالقصف المنتظم مناطق التوزيع، كما حصل أكثر من مرة في مناطق الجنوب والشمال.

صراع البقاء اليومي

في ممرات المستشفيات ومراكز الإيواء، وفي الشوارع التي باتت خالية إلا من آثار الجوع، تتردد شهادات سكان غزة كصرخات مكبوتة، المواطن حسن سامي زيادة، وهو أب ومعيل لثلاثة أطفال، أحدهم رضيع، ينقل صورة قاسية للواقع المعيشي الذي يزداد تدهوراً يوماً بعد يوم.

أوضح زيادة أنّه منذ أسابيع يواجه صعوبة بالغة في الحصول على المواد الغذائية الأساسية، مؤكداً أن توفر السلع في الأسواق لا يعني القدرة على شرائها، بسبب الارتفاع الحاد في الأسعار وانعدام القدرة الشرائية لدى معظم الأهالي.

وأشار إلى أن بعض الأصناف، مثل الطحين بشكل أساسي، باتت شبه مفقودة بشكل تام، بينما تُعرض الخضروات بأسعار باهظة ولا تصمد لأكثر من يومين بسبب ارتفاع حرارة الخيام، وعدم توفر وسائل التخزين.

وشدد زيادة على أن الفروقات في الأسعار مقارنة بفترة ما قبل الحرب "غير مسبوقة"، موضحًا أن أسعار بعض الأصناف الأساسية ارتفعت إلى أكثر من خمسين ضعفاً، إذ يقول: "كيلو البندورة الذي كان يُباع بسعر 2 شيكل، أصبح يُعرض بـ100 شيكل، والبصل الذي كنا نشتريه بكميات كبيرة بـ10 شيكل، وصل سعر الكيلو منه إلى 170 شيكل. حتى البقوليات، التي أصبحت الغذاء الرئيسي بعد انعدام الطحين، ارتفع سعر الكيلو منها من 4 و5 شيكل إلى أكثر من 90 شيكل".

وبيّن أن غياب مصادر الغذاء المنتظمة أجبر العائلات على الاعتماد على وجبة واحدة فقط في اليوم، وغالباً ما تأتي هذه الوجبة من التكيّات الخيرية أو المبادرات الإنسانية المحدودة. وأفاد بأن بعض الأيام تمر بدون توفر الطعام إطلاقاً.

كما أعرب عن قلقه البالغ تجاه أطفاله، لاسيما الرضيع، في ظل انعدام حليب الأطفال أو بيعه بأسعار تعجيزية، موضحًا أن العلبة التي كانت تباع بـ15 شيكل قبل الحرب، تجاوز سعرها الآن 250 شيكل، ومعظم العائلات ببساطة غير قادرة على شرائها.

ولفت إلى أن معظم المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب، السكر، الحلويات، وحتى اللحوم، اختفت بشكل شبه كامل من الأسواق، وهو ما انعكس على الصحة العامة للسكان. وأوضح أن كثيراً من الأشخاص باتوا يعانون من الإرهاق والدوار المستمر، نتيجة سوء التغذية وعدم توفر ما يسد رمقهم.

وفي ختام حديثه، أكد زيادة أن المال لم يعد وسيلة للعيش الكريم، قائلاً: "ما نعيشه اليوم لم يعد صراعًا من أجل حياة كريمة، بل هو صراع يومي من أجل البقاء فحسب".

من جهته، بيّن المواطن محمد أبو القمصان أن نوعية الطعام التي يتناولها هو وأسرته اليوم تغيّرت بشكل جذري مقارنةً بما كان عليه الحال قبل تفاقم الأزمة. وأوضح أن ظروف الحصار والحرب أجبرتهم على الاقتصار على وجبة واحدة أو وجبتين في اليوم، غالبًا ما تكون وجبات بسيطة تعتمد بشكل رئيسي على الحبوب والبقوليات، وذلك نتيجة نقص المواد الأساسية مثل اللحوم والخضروات والحليب.

وأشار إلى أن العائلات تعتمد بشكل كبير على المساعدات الغذائية التي تصلها من بعض المؤسسات الخيرية، مؤكداً أن هذا الوضع السلبي انعكس بشكل مباشر على صحة الأطفال وكبار السن في المنزل.

وفي سياق متصل، أوضح أبو القمصان أن قضاء يومه وسط هذه الظروف الصعبة أصبح تحديًا يوميًا يثقل كاهله وعائلته. ولفت إلى أن أغلب الوقت يقضيه في البحث المستمر عن المواد الغذائية والمساعدات، مع محاولات دائمة للتكيف مع الظروف القاسية التي فرضتها الأزمة.

وأضاف أن الإرهاق النفسي والجسدي باتا من سمات الحياة اليومية، مشددًا على أن تراجع فرص توفير احتياجات الأسرة الأساسية يزيد من معاناتهم ويجعل البقاء على قيد الحياة أولوية قصوى.

هذه الشهادات تتكرر بصور مختلفة في كل حي ومخيم. لا تتعلق المعاناة بسوء الظروف، بل بانعدام الحد الأدنى للحياة. ومع غياب الكهرباء والماء والطعام، تتحول كل دقيقة إلى اختبار قاسٍ لقدرة الإنسان على الصمود.

اخترنا لك