الحرب تحرم آلاف السودانيين من شهادة الثانوية العامة.. أوجاع يرويها الطلاب

انطلقت امتحانات الشهادة الثانوية يوم السبت 28 كانون الأول/ديسمبر الماضي، في الولايات السودانية التي يسيطر عليها الجيش، بينما غابت، ولأول مرة في تاريخها، عن مناطق تخضع إلى سيطرة قوات الدعم السريع.

  • الحرب تحرم آلاف السودانيين من شهادة الثانوية العامة.. أوجاع يرويها الطلاب
    الحرب تحرم آلاف السودانيين من شهادة الثانوية العامة.. أوجاع يرويها الطلاب

تحت نيران القصف الجوي والمدفعي في مدينة نيالا في إقليم دارفور غربي السودان، كان الطالب عبد المنعم آدم يُمسك بكرّاسته بين الحين والآخر لمراجعة المواد الدراسية، تأهباً للجلوس إلى امتحانات الشهادة الثانوية، والتي كان يتوقع انطلاقتها في أي وقت بعدما تأجلت لأكثر من مرة بسبب الحرب الدائرة في البلاد، وبعد طول انتظار واجتهاد تفاجأ بأن الامتحانات ستعقد في أماكن محددة في البلاد، ليس من بينها منطقته، فحلت الصدمة عليه وعائلته. 

ومع قرع الأجراس إيذاناً بانطلاق امتحانات الشهادة الثانوية، وهي المؤهلة إلى المرحلة الجامعية في السودان، بدأ عبد المنعم جولة جديدة مع الألم، تفوق عناؤه من جراء الحرب وما يصاحبه من نقص مستمر في الخدمات الأساسية بما في ذلك الأكل والشرب والأمن، فازدادت أوجاعه، بعدما وجد مستقبله الأكاديمي على حافة الضياع، في الوقت الذي كان فيه متحمساً، ويراوده حلم أن يصبح طبيباً في المستقبل، بحسب ما يرويه بحزن إلى الميادين نت

وتبددت أحلام هذا الطالب بعد طول انتظار للوصول إلى لحظة امتحانات الشهادة الثانوية، مع دخوله وعائلته في حالة من اليأس تجاه استئناف مشواره الأكاديمي في ظل استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع لما يقارب العشرين شهراً، وعدم وجود أفق للحل، بينما لا يستطيع الانتقال إلى المناطق الآمنة أو خارج السودان لمواصلة تعليمه نسبة لتحديات أمنية واقتصادية.

ولم يكن عبد المنعم آدم سوى واحد من 200 ألف طالب وطالبة بحسب وزارة التربية والتعليم في السودان، لم يتمكنوا من الجلوس إلى امتحانات الشهادة الثانوية نتيجة لبقائهم في مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وهي غير آمنة لتخصيص مراكز تعليمية فيها، وفق تقدير الحكومة التي يقودها الجيش من مدينة بورتسودان شرقي البلاد.

وانطلقت امتحانات الشهادة الثانوية يوم السبت 28 كانون الأول/ديسمبر الماضي، في الولايات السودانية التي يسيطر عليها الجيش، والتي تقع شرق وشمال البلاد، مثل البحر الأحمر، وكسلا، والقضارف، ونهر النيل، والشمالية، وجزء من مدينة أمدرمان، والنيل الأبيض، بينما غابت ولأول مرة في تاريخها عن مناطق تخضع إلى سيطرة قوات الدعم السريع، وهي إقليم كردفان ودارفور والخرطوم والجزيرة وجزء من ولايتي النيل الأبيض والأزرق، والتي تقع في غرب ووسط وجنوب السودان.

خيبة أمل

والنسخة التي تجري الآن من الشهادة الثانوية هي في الأصل مؤجلة عن العام 2023 نتيجة اندلاع الحرب والتي أدت إلى توقف كامل للعملية التعليمية في البلاد، لكن الدراسة اُسْتُؤْنِفَت بعد أشهر قليلة في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، وظلت مجمدة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في غرب ووسط السودان.

وبرغم توقف العملية التعليمية في منطقتها إقليم كردفان غرب السودان، كانت رقية عبد الله تتوقع بعض المعالجات تُمكّنها من الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية الذي انتظرته طويلاً، ولم تكن مطلقاً تتوقع أن ينطلق هذا القطار حاملاً بعض الطلاب، وترك زملاء آخرين لهم، وهي بادرة غير مسبوقة في تاريخ الحدث الأكاديمي الأبرز في السودان.

تروي رقية إلى الميادين نت، وهي مليئة بخيبة أمل لعدم تمكنها من الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، بعدما آثرت الاجتهاد في منزلها عقب إغلاق المدارس بسبب الحرب، فقد راجعت دروسها بالاستعانة بمعلمين متطوعين في بلدتها، وسط سند كبير من عائلتها، وفي النهاية وجدت نفسها تحصد السراب، بينما يمضي زملاؤها في مناطق سيطرة الجيش في مشوار الالتحاق بالجامعة.

وتقول: "كان حلمي الجلوس إلى امتحانات الشهادة الثانوية؛ ومن ثم الدخول إلى الجامعة والتخرج فيها، وبعدها العمل لمساعدة عائلتي التي عانت في تربيتي وتعليمي. أشعر بإحباط وألم شديد بسبب انقطاع مسيرتي التعليمية، ولا نملك المال الكافي للسفر إلى خارج السودان بغرض الدراسة، وأملي الوحيد المتبقي هو أن تتوقف الحرب ونعود إلى المدرسة".

وبخلاف الحصيلة الرسمية لوزارة التربية والتعليم، تقول لجنة المعلمين السودانيين "كيان نقابي" إن أكثر من 320 ألف طالب وطالبة حرموا من الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، حيث كان عدد المسجلين للجلوس لهذا الامتحان دفعة 2023 قبل اندلاع الحرب، 520 ألف طالب وطالبة، بينما تم تسجيل نحو 200 ألف فقط حالياً، ولم يتمكن جميع المسجلين من الوصول إلى المراكز للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية.

وتعارض هذه اللجنة النقابية عقد امتحان الشهادة الثانوية في مناطق محددة من السودان دون الأخرى، لما ينطوي عليه من ظلم، فضلاً عن أنها تشكل مدخلاً لتقسيم البلاد، فالشهادة الثانوية كانت أحد أهم مظاهر الوحدة الوطنية، - حسب رأي لجنة المعلمين، بينما تؤكد السلطات الحكومية ممثلة في وزارة التربية والتعليم ضرورة الخطوة لحفظ مستقبل الطلاب، مع السماح لمن هم في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع الانتقال إلى الولايات الآمنة، للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية.

مخاطر أمنية

لكن الانتقال إلى الولايات التي يسيطر عليها الجيش في شرق وشمال البلاد لم يكن بالمهمة السهلة، وتصاحبها مخاطر أمنية واسعة، فضلاً عن التكاليف المالية الباهظة، وهو ما دفع الصادق سليمان الذي يقيم في ولاية غرب كردفان إلى التراجع عن فكرة نقله ابنته إلى شرق السودان للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، واستسلم وبقي في دياره ينظر إلى المصير المجهول لمستقبلها الأكاديمي.

ويقول سليمان في حديثه إلى الميادين نت: "بخلاف المخاوف الأمنية، لم نتمكن من توفير الأموال اللازمة لنقل ابنتي إلى شرق السودان للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، والتي تحتاج إلى نحو ألفي دولار لدفع أجرة الحافلة والإقامة هناك؛ ومن ثم العودة مجدداً، فقد توقف عملي الرئيسي، وبالكاد نستطيع الحصول على قيمة الخبز من أعمال هامشية بسيطة نقوم بها".

ويشعر بألم شديد، وهو يشاهد ابنته سمية تذرف الدموع في اليوم الذي انطلقت فيه امتحان الشهادة الثانوية، ولم تكن بيده حيلة لتخفيف أحزانها، فكانت لحظات تساوي في القسوة نيران الحرب المشتعلة من حولهم.

وفرضت الحرب المستمرة في السودان لأكثر من 20 شهراً واقعاً قاسياً للتنقل بين أنحاء السودان المختلفة، إذ تنعدم المسارات الآمنة، كما أن الجيش وقوات الدعم السريع يستهدفان المواطنين القادمين من أماكن سيطرة الآخر، وتعريضهم إلى تضييق شديد.

وفي تشريمن الثاني/نوفمبر الماضي، اعتقلت السلطات التابعة للجيش الطالب عمر أحمد عبد الهادي في منطقة القولد في الولاية الشمالية، شمالي السودان، عندما كان في طريقه من ولاية غرب كردفان التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، إلى مدينة دنقلا بغرض الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، وقضت محكمة بسجنه 5 سنوات، بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، الأمر الذي أخاف آلاف الطلاب، ودفعهم للامتناع من السفر إلى حضور امتحان الشهادة الثانوية في مناطق القوات المسلحة.

نقل جماعي 

ويرى الخبير التربوي أحمد شرف الدين أن "عقد امتحانات الشهادة الثانوية في مناطق بعينها وحرمان آلاف الطلاب فيه ظلم كبير، ولن يحقق استقراراً أكاديمياً كما ترغب وزارة التربية والتعليم في إظهاره، فهو إجراء تعسّفي مرفوض".

ويقول شرف الدين للميادين نت "إن كانت وزارة التربية والتعليم ترغب في استمرار العملية التعليمية تحت ظروف الحرب القاسية، فإنه كان الأجدى أن تنقل جميع الطلاب إلى المرحلة الجامعية، بمنحهم درجات تقديرية، على أن يحدد اجتهاد كل طالب ومثابرته الاستمرار في الجامعة، لكن ما يجري الآن ظلم".

ولم تكن الشهادة الثانوية مجرد امتحان لدخول المرحلة الجامعة، لكنها تظاهرة أكاديمية ذات بعد اجتماعي عميق، فجميع العائلات تكون في حالة استنفار تام منذ بدء الامتحانات وحتى ظهور النتائج التي يتم ترقبها على نطاق واسع حتى الذين ليس لهم طلاب ممتحنون، وتتحول المنازل إلى ساحات لمراسم الفرح عن الطريق الزغاريد وتوزيع الحلوى، أو إلى سرادق عزاء بالبكاء والدموع للعائلات التي لم يحالف طلابها الحظ في النجاح والتفوق.

وكان الطالب عبد المنعم آدم وهو الابن البكر لوالده يُمنّي نفسه بكرنفال من الفرح في منزله للمرة الأولى خلال إعلان نتائج الشهادة الثانوية، فقد كان واثقاً من تحقيق نجاح وبتفوق في المساق العلمي الذي أحبه واجتهد فيه، حتى يصبح طبيباً في المستقبل، ليضمد جراحات الفئات الكادحة، وفق ما يقول إلى الميادين نت.

ويختم: "ذهبت أحلامي وشغفي في التعليم، وربما يتجاوزني الوقت نسبة للحرب المستمرة، والتي لا توجد أفق لحلها، ونتمنى ألا يواجه الجيل الذي من بعدنا كل هذا الألم. نتمنى أن تُحكّم الأطراف صوت العقل وتوقف هذا القتال، فالبلاد تشهد دماراً مستمراً، ودماء تسيل وجوعاً، ونقص في كل جوانب الحياة، والأكثر قسوة هو ضياع مستقبلنا التعليمي".