الحرب وتراجع الخصوبة.. ارتفاع اللجوء إلى تقنيات مساعدة للإنجاب في لبنان
كان للحرب الإسرائيلية على لبنان آثاراً صحيّة ستتجلّى مع مرور الوقت، إذ لا تزال الأضرار الناتجة عن الروائح المنبعثة من المواد المتفجرة، كما قنابل الفسفور الأبيض غير معروفة حتى الآن، لكن بالتأكيد لها آثار سلبية على الإنجاب، وفق أطباء.
أكثر من أيّ وقت مضى، يستحوذ تراجع الخصوبة على اهتمام عالمي متزايد في القطاعات والمؤسسات الصحية. إذ تشهد عدد كبير من دول العالم، منذ أكثر من نصف قرن، تناقصاً مستمراً في عدد الأطفال المولودين لكل امرأة لاسيما في أوروبا وشرق آسيا، كما يشير المركز الوطني الأميركي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، وهو ما يمكن ردّه إلى تفاعلات اجتماعية واقتصادية غير جديدة، لكن المستحدث هو استشعار صعوبة متزايدة في الحمل عند عدد من الأزواج، الذين ليست لديهم مشكلات مباشرة متعلقة بالإنجاب، ناهيك عن تأثّر مستويات الخصوبة بعوامل قسرية، كالحروب، ومآلاتها على الصحة الإنجابية.
في هذا السياق، توقعت مجلة "لانسيت" الطبية أن يصبح 97% من دول العالم بحلول عام 2100 غير قادرين على الحفاظ على أعداد سكانهم الطبيعي. وفي العالم العربي، أظهرت دراسة قام بها باحثان من جامعة الشارقة أن معدلات الخصوبة انخفضت بنسب تراوحت بين 24.3% و3.8% بين عامي 2011 و2021، باستثناء الجزائر التي لم تشهد أي انخفاض. أما في لبنان، فيبدو أن حاجة الأزواج إلى التقنيات المساعدة للحمل، وفقاً لما أفاد به أطباء للميادين نت، باتت تتصاعد. فأصبحت التقنيات المساعدة للحمل كعلاجات الإخصاب الاصطناعي، وتجميد البويضات لأسباب اجتماعية مثل التأخر في سن الزواج، أكثر شيوعاً برغم تكلفتها العالية. وهي ظاهرة تصفها البروفيسورة في علم الأنثروبولوجيا مارسيا سي إنهورن في جامعة "يال" في كتابها حول الإنجاب في العالم العربي والإسلامي بأنها إحدى الثورات "الصامتة". فما هي الأسباب من ورائها في لبنان، خصوصاً أن البلاد تعرضت لعدوان إسرائيلي عام 2006 تلاه العدوان الأخير.
تزايد الحاجة إلى تقنيات مساعدة للإنجاب
كحال العديد من دول العالم، كانت أواخر ستينات القرن الماضي في لبنان مرحلة مفصلية بدأ عندها العد العكسي للخصوبة. إذ كانت فترة الستينات اللبنانية أقرب ما يكون إلى الستينات الأوروبية، التي ظهرت فيها عدة متغيرات اجتماعية دخلت معها المرأة إلى سوق العمل، وانتشرت معها بشكل كبير وسائل منع الحمل. في تلك الفترة، كان متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم كل امرأة في لبنان 4.84، ثمّ تدنّى المعدّل إلى النصف بحلول عام 2020، وزادت الأزمة الاقتصادية من تراجعه.
وبحسب إحصاءات المديرية العامة للأحوال الشخصية في لبنان، يُلاحظ انخفاض بنسبة 24% تقريباً في عدد الولادات مقارنةً بالفترة التي سبقت الأزمة الاقتصادية. ريم (اسم مستعار)، فشلت كل محاولاتها للإنجاب خلال السنوات الخمس الأولى من زواجها. وتقول للميادين نت: "بدأت بزيارة عدة أطباء، فأكدوا في البداية عدم وجود مشاكل". بعد فترة من التحاليل والمراجعات، أخبرها أحد الأطباء أنها تعاني من تكيّسات على المبيض. وبرغم العلاج، لم تتمكن ريم من الحمل، فقررت اللجوء مباشرة إلى علاج الإخصاب الاصطناعي (طفل الأنبوب).
تأخر سن الزواج
في مقابلته مع الميادين نت، أكد الطبيب زياد مسعد، رئيس مركز "أي في أف ليبانون" والمتخصص في الجراحة النسائية والتوليد - معالجة العقم وأطفال الأنابيب، أنّ هناك زيادة في الطلب على علاجات طفل الأنبوب في المركز. على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة، إلا أن الإقبال على المركز يشمل أزواجاً في مختلف الفئات العمرية، بدءاً من أعمار متقدمة إلى الأصغر سناً. وبحسب مسعد، فإنّ السبب الأساسي وراء اللجوء إلى التقنيات المساعدة للإنجاب هو تأخر سن الزواج عند النساء، ولذلك فإن أغلب السيدات اللواتي يقررن الزواج في بداية الثلاثينات يدركن أنهنّ يملكن قليلاً من الوقت، لأن خصوبتهن ستبدأ بتراجع كبير بعد سن الـ35، بحسب مسعد، لذلك فإنهن يلجأن مباشرة إلى علاج طفل الأنبوب. إلى جانب تأخر سن الزواج، يشير الطبيب إلى أن عدد البويضات عند النساء الأصغر سناً قد يتراجع أيضاً، "لكن الأسباب لا تزال غير معروفة".
التلوث ونمط الحياة على صحة الخصوبة
قبل 30 عاماً تقريباً، كانت الأبحاث تشير إلى أن شخص واحد من أصل 5 سيحتاج في زواجه إلى تقنيات مساعدة للحمل، يقول الطبيب توفيق نكد، المتخصص في الجراحة النسائية والتوليد - العقم وطفل الأنبوب، ورئيس مركز طفل الأنبوب في مستشفى "بيلفيو" الجامعي. "لكن اليوم فإنّ نسبة العقم تخطت 20%، إضافة إلى تأخر سن الزواج"، الذي يعتبره نكد، السبب البديهي والأكبر وراء زيادة حالات العقم في لبنان. ويلفت الطبيب في حديثه للميادين نت، إلى أسباب أخرى مثل انتشار الأمراض نتيجة العلاقات الجنسية غير المحمية. كما يعزو تفاقم المشكلة إلى "تأثير نمط الحياة على جودة البذرة عند الرجال. وتفيد الدراسات في هذا المجال بانخفاض حاد في مخزون البذرة لدى الرجال مقارنة بالقرن الماضي".
وبحسب ورقة بحثية نشرتها مجلة "ناتشورال كوميونيكايشن"، فإن حالات العقم عند الرجال تشكل نصف حالات العقم في العالم. لكن يحظى تراجع الخصوبة عند الرجال باهتمام إعلامي أقل، برغم أن البعض وصفه "بالأزمة المخفية". وبحسب كتاب نشرته جامعة "أوكسفورد"، فإن الرجال باتت تخسر في كل سنة 2.6% من منسوب الخصوبة منذ عام 2000. ويشير نكد إلى أن التلوث في الهواء والمواد الغذائية.
تأثير الحرب الإسرائيلية على الصحة الإنجابية
كان للحرب الإسرائيلية على لبنان آثاراً اجتماعية وصحيّة ستتجلّى مع مرور الوقت، إذ لا تزال الأضرار الناتجة عن الروائح المنبعثة من المواد المتفجرة، كما قنابل الفسفور الأبيض التي يقصف بها الجيش الإسرائيلي المدنيين، غير معروفة حتى الآن. ومع ذلك، تشير دراسة نشرها معهد تحالف أطفال الشرق الأوسط إلى وجود علاقة قوية بين العيوب الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة وتعرّض الوالدين لهجمات الفسفور الأبيض. إذ أوضحت الدراسة أن 27% من عيّنة الأزواج التي شملها البحث، ولديهم أطفال يعانون من مشاكل خلقية، أكدوا تعرّضهم للفسفور الأبيض بشكل مباشر.
وفي ورقة بحثية أخرى نشرتها أكاديمية العلوم الطبية الإيرانية، تبيّن أن الحرب قد تؤثر سلبًا على مستويات الخصوبة لدى الرجال والنساء. إذ يؤدي تعرّض الجنسين للصدمات النفسية والجسدية، بالإضافة إلى استنشاق غاز الخردل الكبريتي السام المستخدم في الأسلحة، إلى ضعف جودة الحيوانات المنوية لدى الرجال. أما لدى النساء، فقد يتسبب ذلك في اضطراب الدورة الشهرية وضعف انتظامها.