الشعب الإيراني يُسقط رهان الحرب: الوطن فوق الخلافات
في مواجهة العدوان الإسرائيلي، كشف الشعب الإيراني عن وحدة وطنية نادرة تجاوزت الانقسامات، ليؤكد أن الخلاف السياسي لا يبرر الاصطفاف مع "إسرائيل".
-
الشعب الإيراني يُسقط رهان الحرب: الوطن فوق الخلافات
في لحظة نادرة تتقاطع فيها المواقف وتذوب الخلافات، يقف الشعب الإيراني صفاً واحداً، ليردّ على دعوات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وتحريضه، حاملاً راية وطنية لا تُثنى برغم الحصار والعقوبات والضغوط الدولية التي تمتد لأكثر من أربعة عقود. في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ظهرت ملامح الهوية الإيرانية المتجذّرة بعمقها التاريخي والحضاري، لتعلن أن الخصوصية الإيرانية ليست مجرد هوية ثقافية، بل قوة جماعية لا تنكسر عند المحن.
مع الضربات الإيرانية الدقيقة التي تستهدف مواقع حساسة في كيان الاحتلال الإسرائيلي ضمن عملية "الوعد الصادق 3"، حاول بنيامين نتنياهو اغتنام الفرصة فخاطب الشعب الإيراني من ملجئه الأرضي، داعياً إلى "الثورة على النظام" تحت ذريعة أن الظروف باتت "مناسبة". لكن الردّ جاء مدوّياً، لا فقط من داعمي النظام، بل حتى من المعارضين الذين طالما انتقدوا سياسات الحكم الداخلية والخارجية.
الرد الإيراني الشعبي لم يكن سياسياً بقدر ما كان ثقافياً، وحضارياً، وإنسانياً. فالمعارضون أنفسهم أظهروا ولاءً غير مشروط للوطن. فتاة شابة، لطالما نادت بحرية اللباس، كتبت رداً على نتنياهو: "كنا نختلف حول قضايا كثيرة، لكننا اليوم نقف، بالحجاب أو من دونه، في خندق واحد دفاعاً عن إيران الغالية". فالاختلاف مع الحكومة لم يعد مبرراً للسكوت أمام العدوان، بل على العكس، بات دافعاً لتغليب حب الوطن على كل انقسام.
الردود على منصات الإعلام الفارسي المعارض، مثل حساب "بي بي سي" الفارسية في شبكات التواصل، كشفت عمق الوعي الشعبي، حيث تكررت عبارات مثل "لن نغادر الوطن"، و"لن نسمح بأن يستغل العدو خلافاتنا". فقوبل خطاب ترامب الذي حذر من البقاء في طهران وخطاب نتنياهو الذي هدد بحرق طهران، بسخرية وباعتبارهما جزءاً من حرب نفسية مفضوحة.
الهوية الإيرانية، بتركيبتها الخاصة، تجمع بين القومية التاريخية والانتماء الديني العميق. حضارة تمتد آلاف السنين لا تنكسر أمام تهديدات من كيان نشأ في ظل استعمار وسلاح. وهذا ما عبّر عنه أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام، المعروف بانتقاداته الحادة للنظام، حين قال: "أنا لم أهادن هذا النظام يوماً، لكنني أرفض أن أكون في خندق مع إسرائيل ضد وطني، هذه سقطة لا يُغفر لمن يقع فيها".
بل إن بعض السجناء السياسيين السابقين، جددوا موقفهم الواضح بأنهم لن يكونوا سوى جنود في صف الوطن في حال تعرضه لعدوان خارجي. وكتب أحد السجناء السابقين: "أنا سجين سياسي، لكنني أقف اليوم تحت راية وطني في وجه إسرائيل التي تعتدي على تراب بلادي".
في هذا السياق، يتجلى فشل رهانات نتنياهو المتكررة على تفكيك النسيج الوطني الإيراني. فبين العرب والفرس والكرد والبلوش، وبين الشيعة والسنة والمسيحيين والزرادشتيين، يتكوّن هذا البلد من فسيفساء قومية ومذهبية، لكنها، عند الحاجة، تتوحد تحت راية واحدة اسمها إيران.
شهرام، الطالب الكردي من محافظة كردستان، عبّر بدقة عن هذا المعنى بقوله: "يحاول كيان الاحتلال اتباع سياسة فرّق تسد، لكنهم لا يدركون أن حضارة كحضارتنا لا تُفكك بهذه السهولة. نحن نعيش اختلافاً، لا انقساماً، فحين يُهدد الوطن، نصبح شعباً واحداً".
وليست المسألة مجرد رد فعل وطني، بل هي أيضاً قضية إنسانية. فإيران، برغم كل ما تواجهه من تحديات، ظلت من أولى الدول التي تتخذ موقفاً صلباً ضد الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني. وبهذا المعنى، فإن وقوف الإيرانيين في وجه الاحتلال ليس دفاعاً عن أنفسهم فحسب، بل هو استمرار لخط حضاري وأخلاقي يتمسك بالحق في وجه من يسعى إلى مصادرة الأرض والكرامة.
إن محاولات تحويل الغضب الشعبي إلى فرصة سياسية لإسقاط النظام، كما فعل نتنياهو وترامب وبعض رموز المعارضة الإيرانية في الخارج، لم تكن سوى رهان خاسر. فالشعوب التي قدمت التضحيات من أجل ثورتها، والتي صمدت في وجه العقوبات، والتي تحملت صعوبات العيش في سبيل الاستقلال، لا تُغرى بالشعارات، ولا تسير خلف من كان عدواً لها بالأمس.
بهذه الروح، روح الخصوصية الإيرانية التي تمزج بين الهوية والمقاومة، تتجاوز إيران تهديدات الخارج، وتعيد تمتين وتعزيز جبهتها الداخلية رغم كل التباينات. ففي النهاية، يظل الوطن عند الإيرانيين خطاً أحمر، لا يُساوَم عليه، ولا يُختزل في نظام أو حزب أو فئة.