فيضانات سد النهضة.. كارثة إنسانية تضرب مزارعي دلتا مصر

تسبّب تصريف مفاجئ لمياه سدّ النهضة الإثيوبي في فيضان واسع اجتاح قرى مصرية وسودانية، مخلّفاً خسائر فادحة في الأراضي الزراعية والمنازل. وبينما تحمّل القاهرة أديس أبابا مسؤولية "فيضان صناعي"، يعيش المزارعون مأساة النزوح وضياع المواسم.

  • فيضانات سد النهضة.. كارثة إنسانية تضرب مزارعي دلتا مصر
    فيضانات سد النهضة.. كارثة إنسانية تضرب مزارعي دلتا مصر

وضعت الكارثة التي حلّت بالمزارع المصري فتحي محمود، ومئات الأسر المصرية الأخرى، بعد أن طمرت مياه النيل محصوله الزراعي من القمح والأزر، في مأساة ووضع اجتماعي غير مسبوق، ودفعته للتساؤل بشأن كيفية سداد ديونه التي ضمنها ما تمّ استدانته للإنفاق على مستلزمات زراعة تلك المحاصيل من أعمال الحرث والري والتسميد والبذور وغيرهما. 

لم يكن محمود، الذي يقطن قرية دلهمو بمحافظة المنوفية، دلتا مصر شمال القاهرة، هو الوحيد من أبناء قريته، إذ ألحق فيضان النيل أضراراً بمئات العائلات من قريته وسكان عشرات القرى المجاورة، بينها في محافظة البحيرة، إذ غمرت المياه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمحاصيل الموسمية، ووصلت إلى شوارع القرى ومنازل الفلاحين.

وتسبّب تصريف مفاجئ لأكثر من 7 مليارات متر مكعب من مياه النيل من جانب إثيوبيا، خلال عشرة أيام فقط، في أزمة إقليمية واسعة، بعدما تمّ من دون أي إخطار مسبق لمصر أو السودان.

فقد أدّى التدفق الهائل إلى تهديد آلاف القرى في أربع محافظات مصرية هي: المنوفية، والبحيرة، والمنيا، وقنا، حيث أُعلنت حالة الطوارئ، بينما كانت المياه قد غمرت أولاً مساحات واسعة في نحو 16 ولاية سودانية، مخلّفة أضراراً جسيمة بالمحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، والمناطق السكنية.

ويعكس هذا الحادث حجم التأثير العابر للحدود لمشروع السدّ الإثيوبي، وما يمكن أن يسببه من اضطرابات بيئية وإنسانية في دولتي المصبّ.

إخلاء مئات المنازل وخسائر فادحة للفلاحين

يقول محمود فتحي، وهو رجل خمسيني وأب لخمسة أطفال جميعهم في مراحل التعليم، إنّ الزراعة هي مصدر رزقه الوحيد. يروي لـلميادين نت: "مياه الفيضان أتلفت محاصيل القمح والأرز والفاصوليا، كنت أترقّب موسم الحصاد لأتمكّن من سداد ديوني والإنفاق على أسرتي، فالفلاحة مهنتي الوحيدة، أعمل بها في أرضي وأحياناً بالأجرة اليومية لدى الغير".

بسبب المياه التي غمرت منزله الملاصق لأرضه الزراعية الواقعة في منطقة تُعرف باسم "طرح النهر" - وهي أراضٍ منخفضة على ضفاف النيل تكوّنت بفعل ترسّبات الطمي - اضطر فتحي إلى إخلاء منزله خشية انهياره فوق رؤوس أفراد أسرته. يقول بأسى: "تركت المنزل حفاظاً على أرواح عائلتي بعد أن تحوّل إلى بحيرة من المياه، فهو مهدّد بالانهيار في أي لحظة. لجأت إلى عِشّة مؤقتة عند مدخل القرية، مثل عشرات العائلات الأخرى. لقد خسرت موسماً زراعياً كاملاً، وضاع جهدنا طوال العام هباءً".

تحذير من غرق 144 جزيرة

على حصيرٍ مهترئ، جلس مصطفى نصر فرحات، جاره في الأرض والمسكن، إلى جانب محمود فتحي، يتشاركان مرارة الخسارة. ملامح فرحات، المزارع الستيني، كانت تختصر مأساةً كاملة، بينما عبّر بصوتٍ يملؤه الغضب عن دهشته من تصريحات رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، التي أثارت جدلاً واسعاً في الشارع المصري، بعد أن ألقى باللوم على الفلاحين محمّلاً إياهم مسؤولية ما حدث، متهماً إيّاهم بالاستيلاء على أراضي "طرح النهر" المملوكة للدولة بلا سند قانوني، ومن دون أن يقدّم حلولاً عملية لإنقاذ المتضرّرين.

يقول فرحات بنبرةٍ غاضبة: "الأرض التي نزرعها نحن ومئات الفلاحين مؤجّرة بنظام حق الانتفاع من وزارة الري، وندفع إيجاراً سنوياً منتظماً. لديّ حيازة زراعية ووثائق رسمية تثبت ملكيتي، ولسنا معتدين على أراضي النيل كما تروّج الحكومة. ما جرى محاولة للتنصّل من المسؤولية وإعفاء نفسها من تعويض المتضررين ودعمهم كما ينبغي".

ويضيف، وهو أبٌ لستة أفراد يعيشون اليوم في مأوى مؤقت: "كان الأولى بالحكومة أن تُغيث المنكوبين وتوفّر لهم سكناً آمناً قبل أن تُلقي اللوم عليهم. نحن نعيش في عِشش بدائية بعد أن فقدنا بيوتنا، وكأننا لسنا مواطنين في هذا البلد. ما نحتاجه الآن هو الحماية لا الاتهام".

وطالب فرحات الحكومة بدعم الفلاحين المتضرّرين، وتوفير البذور ومواد الحراثة والتقاوي الزراعية لإعادة إحياء الدورة الزراعية بعد انحسار مياه الفيضان، الذي دمّر عشرات القرى في محافظة المنوفية - مثل دلهمو وجزّى وأبو داوود وجزيرة داوود - وكذلك مناطق واسعة في محافظتي البحيرة والمنيا.

وفي السياق نفسه، يقول كرم صابر، مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان، إن معظم الأراضي المشاطئة للنيل، المعروفة بـ"طرح النهر"، يستأجرها صغار الفلاحين بمساحات محدودة يزرعون بعضها ويقيمون على جزءٍ آخر منها مساكن بسيطة. ودعا الحكومة إلى الكفّ عن تحميل المتضرّرين المسؤولية، والبدء في تعويضهم ومساندتهم.

وبحسب التقديرات المبدئية، غمرت مياه الفيضان نحو 1261 فداناً في مدن الدلتا وقراها، منها ألف فدان في محافظتي البحيرة والمنوفية اللتين تعتمدان على الزراعة كمصدرٍ أساسي للدخل، إضافةً إلى طمر 131 منزلاً، برغم إعلان حالة الطوارئ وفتح مفيض توشكى قرب السد العالي لتصريف المياه الزائدة.

وحذّر نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، في حديثٍ للميادين نت، من احتمال غرق 144 جزيرة في نهر النيل يقطنها آلاف المواطنين، بينها جزر الزمالك والوراق والدهب في الجيزة، وجزيرة فيلة السياحية في أسوان، مشيراً إلى أنّ فتح مفيض توشكى لمنع الضرر أدّى إلى غمر مزارع المستثمرين وإتلاف آلاف المحاصيل الزراعية.

عشش للمتضررين والمياه تحاصر المنازل

عقب الأضرار غير المسبوقة التي خلّفها الفيضان في السودان، وجّهت السلطات المصرية تحذيرات إلى سكان 15 محافظة من خطر ارتفاع منسوب مياه النيل، داعية المزارعين وسكان أراضي "طرح النهر" إلى إخلائها فوراً كإجراء احترازي. وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر غمر المياه لمنازل وأراضٍ زراعية في عدد من القرى، فيما بدا بعض السكان وقد وصلت المياه إلى بيوتهم أو أثناء محاولتهم إنقاذ ما تبقى من ممتلكاتهم.

في قرية دلهمو بمحافظة المنوفية، فقدت 39 أسرة منازلها بالكامل، واضطرت إلى اللجوء إلى عِششٍ خشبية مؤقتة وسط دعم حكومي محدود، بينما تضررت منازل نحو 500 أسرة أخرى لجأت إلى أقاربها.

وبرغم إعلان حالة الطوارئ وانتشار فرق الهلال الأحمر المصري وفرق ميدانية أخرى لتقييم الأوضاع، يؤكد الأهالي أن المساعدات لا تزال غير كافية.

يقول عيسى محمد، وهو مزارع يعول ثلاثة أبناء، لـلميادين نت وهو يقف أمام أرضه الغارقة: "ابتلع النيل أرضي ومنزلي معاً. نطالب الحكومة بمسكن مؤقت أو إعانة عاجلة، فالأهالي لا ينتظرون الطعام والشراب، بل سقفاً يأويهم بعد أن فقدوا كل شيء".

ويضيف الشاب الأربعيني بأسى: "أنفقت مدّخراتي كلها على زراعة الأرض، وبعد تعب عامٍ كاملٍ أخذها النيل في لحظة. تركت بيتي بعدما غمرته المياه وهربت بأولادي، والآن نعيش عند أقاربنا، بينما تحوّلت أرضي ومنزلي إلى بحيرة".

وفي موازاة الكارثة الإنسانية، أبلغت القاهرة مجلس الأمن الدولي مطلع أيلول/سبتمبر الماضي رفضها ما وصفته بـ"محاولة إثيوبيا إضفاء شرعية زائفة" على سد النهضة، فيما اتهمت وزارة الموارد المائية والري المصرية أديس أبابا بارتكاب "تصرفات أحادية ومتهوّرة" تسببت في ما سمّته القاهرة فيضاناً صناعياً مفتعلاً.

قوارب الصيد وسيلة للعالم الخارجي

في إحدى العِشّات الخشبية التي أُقيمت على عجل على أطراف القرية، جلست مجموعة من العائلات المتضرّرة تتبادل القلق والحكايات. تقول فاطمة راضي، التي غرق منزلها بالكامل، لـلميادين نت بلهجة مصرية بسيطة: "غرقنا من الميّه، فجينا هنا إحنا والمواشي، ولما الميّه تنزل هنرجع بيوتنا".

أما هالة عبد الله، فقد اختارت البقاء في منزلها برغم ارتفاع منسوب المياه في الطابق الأرضي. تروي: "لجأنا للدور العلوي، ما لقيناش حتى عِشّة نخرج فيها، إحنا عايشين وسط الميّه"، مشيرة إلى أن أسرتها تستخدم مركباً خشبياً صغيراً لقضاء احتياجاتها اليومية، سواء لشراء السلع أو لإيصال الأطفال إلى المدرسة.

وفي قرية جزيرة مغنين بمحافظة البحيرة، يعيش أحمد سالم، وهو صياد في الأربعين من عمره، تجربة مشابهة. يقول لـلميادين نت: "قارب الصيد بقى وسيلة النقل الوحيدة اللي بتربط بيتنا بالعالم بعد ما الميّه حاصرتنا من كل ناحية".
ويضيف بحسرة: "الفيضان طمَر محصول الأرز والفاصوليا، وبقينا من غير شغل ولا دخل. دلوقتي بدوّر على أي عمل أقدر أصرف منه على عيالي ومصاريف البيت والتعليم".

من جانبه، يوضح عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، أن الفيضان الأخير ناتج عن تصريفٍ يوميٍّ يتراوح بين 750 و800 مليون متر مكعب من المياه، وهي كميات ضخمة تفوق المعدلات الطبيعية. ويؤكد أن ما حدث "ليس فيضاناً طبيعياً، بل نتيجة سوء تشغيل سد النهضة".

وفي خضم الأزمة، صرّح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام النهج غير المسؤول الذي تتبعه إثيوبيا في إدارة السد"، مؤكداً أن مصر "ستتخذ كل التدابير لحماية مصالحها وأمنها المائي".

يُذكر أن الخلاف بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، قائم منذ بدء بناء سد النهضة عام 2011، إذ تطالب القاهرة والخرطوم باتفاقٍ قانونيٍّ ملزم ينظّم عمليّات ملء وتشغيل السد، بينما ترفض أديس أبابا ذلك، مؤكدة أنها لا تعتزم الإضرار بمصالح دولتي المصبّ. ومع إعلانها في تموز/يوليو الماضي إنجاز السد على النيل الأزرق، تجمّدت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة منذ نحو أربعة أعوام.

اخترنا لك