قصف ونزوح معاكس وتكاليف باهظة.. إلى أين يذهب الغزّيون؟
مع تصعيد الاحتلال عدوانه وفرضه خطة لتهجير نحو مليون فلسطيني من غزة، يجد الأهالي أنفسهم أمام معادلة مستحيلة: النزوح بتكاليف باهظة وسط انعدام المأوى، أو البقاء تحت القصف والموت المحقق.
-
قصف ونزوح معاكس وتكاليف باهظة.. إلى أين يذهب الغزّيون؟
-
مع تصعيد الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على غزة ضمن خطة لتهجير نحو مليون مواطن جنوباً، يواجه الأهالي خيارين قاسيين: البقاء تحت القصف أو النزوح بتكلفة باهظة لا يستطيع معظمهم تحملها وبلا مأوى في الجنوب المكتظ.
وفي الأيام الأخيرة تصاعدت وتيرة القصف ونسف الأبراج، واستُخدمت طائرات مسيّرة لإسقاط مواد حارقة على الخيام والمنازل، فيما وجّه الاحتلال إنذاراً بإخلاء المدينة رغم عجز الجنوب عن استيعاب نازحين جدد.
ويعيش الغزيون حالة من الحيرة والقلق بعد إعلان المدينة "منطقة قتال خطيرة" وبدء الهجوم البري، مع تدمير رفح وخانيونس وتكدس مئات آلاف الأسر في المخيمات وتهديد الوسطى بالقصف، ما يجعل السؤال الأبرز: إلى أين يذهب الغزيون بعد إغلاق كل الطرق؟.
معاناة النزوح الباهظ
أصبحت تكلفة النزوح عبئاً يفوق قدرة السكان المنهكين اقتصادياً، فاستئجار شاحنة لنقل العائلات من غزة إلى المواصي يتجاوز 1500 شيكل (نحو 500 دولار)، وهو مبلغ لا يملكه معظم الأهالي بعد سنوات من الحصار والدمار وانهيار الاقتصاد.
الشاب إبراهيم أبو شكيان (35 عاماً)، نازح من مخيم جباليا إلى حي الشيخ رضوان، يقول إنّ هاجس النزوح يطارده يومياً بعدما أعلن الاحتلال منطقته "حمراء"، مضيفاً: "كل ليلة نسمع دوي الانفجارات ولا أستطيع النوم، وأفكر دوماً ماذا لو اضطررنا للنزوح مجدداً؟ المشكلة ليست في القرار، بل في تكلفته الباهظة".
ويشير أبو شكيان للميادين نت إلى أنّ نزوحه الأول كلّفه 900 شيكل استدانها من قريب، واليوم لا يملك ما يكفي لنزوح جديد، مبيّناً أنّ "كل مكان نلجأ إليه يصبح هدفاً للقصف، والنزوح لم يعد انتقالاً فقط، بل استنزافاً مالياً ونفسياً متواصلاً".
رفض النزوح
وفي ظل التصعيد بمدينة غزة، تبين نبيلة عودة من حي الصفطاوي للميادين نت، أنّ "النزوح مكلف جداً، إذ لا تملك العائلات ثمن النقل أو تكاليف الخيام التي تجاوزت ألفي شيكل (600 دولار)، فضلاً عن الطعام والماء والدواء".
وتلفت عودة إلى أنّ "النزوح يفرغ ميزانية الأسرة ويتركنا مثقلين بالديون، لذلك اخترنا البقاء في بيوتنا برغم الخطر، فهو أهون من معاناة النزوح".
ظاهرة النزوح العكسي
في مقابل ذلك، برزت ظاهرة النزوح العكسي مع عودة أكثر من 12 ألف نازح من الجنوب إلى الشمال هرباً من التكاليف الباهظة والاكتظاظ، بحسب بيانات رسمية.
الفلسطيني ماجد سلمان، الذي غادر غزة ثم عاد، يروي في حديثه للميادين نت تجربته القاسية مع النزوح القسري، قائلاً: "الخيام ملتصقة ببعضها، لا خصوصية ولا أمان، والحر خانق والمرافق معدومة"، مضيفاً: "دفعنا تكاليف النقل ولم نحصل حتى على خيمة، وكل شيء يفوق الاحتمال".
ويتابع سلمان: "عدنا إلى المدينة برغم الخطر لأننا لا نستطيع تحمّل تكاليف النزوح، الرحلة كانت مرهقة؛ الناس خائفون وغاضبون، والأطفال يبكون من التعب والحرّ، والنساء يشعرن بالعجز، ولا أحد يعرف أين الملاذ الآمن"، مشيراً إلى أنّ "النزوح ليس انتقالاً فقط، بل معاناة يومية من الرعب والفقر واليأس، لذا كانت العودة خيارنا الوحيد".
من جانبه، يقول علاء البرعي (50 عاماً) من غزة للميادين نت: "فقدت عملي منذ عامين ولا أستطيع تحمّل تكاليف نزوح تتجاوز ألفي دولار، فبقينا في مكاننا وحياتنا أصبحت أرخص من النزوح"، مؤكداً أنّ "غزة كلها خطيرة، والاحتلال يسيطر على معظمها، بينما الجنوب مكتظ ويفتقر لأساسيات الحياة ويُقصف باستمرار، فلماذا أخرج لتحمّل مشقة لا طاقة لي بها؟".
وتعرض نحو مليوني غزي لأكثر من عشر موجات نزوح منذ أكتوبر 2023، شملت التحرك نحو الجنوب، خانيونس ورفح، والمناطق الإنسانية غرب خانيونس ودير البلح، مع استمرار النزوح المتعدد الاتجاهات حتى اليوم.
ازدحام المدينة ومخاطر صحية
وفي الإطار عينه، يؤكد رئيس بلدية دير البلح نزار عياش أنّ المدينة مكتظة ولم تعد قادرة على استيعاب نازحين جدد، في ظل انهيار البنية التحتية للمياه والكهرباء والصرف الصحي.
ويحذر عياش عبر الميادين نت، من أنّ موجات النزوح الجديدة قد تتسبب بأزمات صحية وبيئية خطيرة، مع رصد إصابات بالإسهال والتسمم والأمراض الجلدية وحتى شلل الأطفال، ما ينذر بكارثة إنسانية إذا لم يتم التدخل العاجل وتوفير ممرات آمنة ومساعدات للمدنيين، داعياً المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لتوفير المساعدات وفتح ممرات آمنة لحماية المدنيين.
البقاء كخيار أقل ضرراً
من جهته، يرى المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أن غالبية الفلسطينيين في غزة غير قادرين على تحمل أعباء النزوح القسري، برغم تهديد حياتهم، بسبب تكلفته العالية التي لا تقل عن 2000 دولار لكل أسرة.
ويقول أبو قمر في حديثه للميادين نت، إنّ البطالة والفقر المرتفعين، واعتماد نحو 95% من السكان على المساعدات، يجعل من النزوح خياراً شبه مستحيل، ما يدفع الكثيرين للبقاء في منازلهم المهددة بالقصف لتجنب المخاطر الاقتصادية والاجتماعية للنزوح، لافتاً إلى أنّ "الوضع الاقتصادي يجعل النزوح عبئاً مضاعفاً على المواطنين، فحتى إذا توفرت الأموال، فإن انعدام الخدمات الأساسية والمأوى يزيد المعاناة، ما يجعل البقاء الخيار الأقل ضرراً".
أسوأ كارثة إنسانية منذ عقود
بدوره، يؤكد مدير شبكة المنظمات الأهلية أمجد الشوا، أنّ غزة تعيش أسوأ كارثة إنسانية منذ عقود، مع تهديد الاحتلال بتهجير أكثر من مليون نسمة وسط القتل وانعدام الخدمات.
ويوضح الشوا للميادين نت أنّ انهيار القطاع الصحي ونقص الأدوية يهددان حياة آلاف المرضى، فيما يعاني 300 ألف طفل من سوء تغذية حاد، محذراً من أنّ استهداف الأبراج لفرض النزوح ومحدودية مناطق المواصي ينذران بمجاعة وشيكة ما لم يتحرك المجتمع الدولي فوراً.
كشف زيف "المناطق الآمنة"
وفي السياق، يبين رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، صلاح عبد العاطي، أنّ "أكثر من مليون فلسطيني ما زالوا في غزة وشمالها برغم القصف والتدمير، في إطار سياسة تهجير قسري تخالف القانون الدولي"، مشيراً إلى أنّ عودة آلاف النازحين بعد عجز مناطق الاحتلال، التي لا تتجاوز 12% من مساحة القطاع، عن استيعابهم، ما يكشف زيف "المناطق الآمنة".
ويحذّر عبد العاطي عبر الميادين نت من إبادة سياسية وإنسانية تستهدف غزة تمهيداً للضفة والقدس ضمن مخطط "إسرائيل الكبرى"، معتبراً المرحلة الأخطر منذ وعد بلفور، داعياً المجتمع الدولي للتدخل وفرض عقوبات ووقف التهجير القسري.
محدودية مناطق "الإيواء" وسياسة الحشر
من جانبه، يؤكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أنّ "أكثر من 1.2 مليون فلسطيني ما زالوا ثابتين في غزة وشمالها رافضين النزوح جنوباً برغم القصف وسياسة التهجير القسري، التي تُعد انتهاكاً للقانون الدولي وجرائم حرب".
ويلفت الثوابتة في حديثه مع الميادين نت، إلى أنّ "عدد سكان غزة وشمالها يتجاوز 1.3 مليون نسمة، بينهم 300 ألف نزحوا من الأحياء الشرقية إلى وسط وغرب المدينة"، مبيناً أنّ "ظاهرة النزوح العكسي، حيث عاد أكثر من 12 ألف نازح إلى مناطقهم الأصلية بسبب انعدام مقومات الحياة في الجنوب، فيما لا تتجاوز المساحات المخصصة من قبل الاحتلال كمناطق "إيواء" 12% من القطاع، محاولاً حشر 1.7 مليون نسمة فيها ضمن سياسة تهجير ممنهجة".