كيف تُعيد المواسم الدينية تشكيل المجتمعات المكلومة؟

ألمٌ لا ينتهي تتجرعه عائلات ومواطنون وبلدات ومساحات واسعة في كلٍ من لبنان وغزة واليمن، يخفف شهر رمضان من بعض الحُرقة، أحيانًا يخفيها مؤقتًا، يستند المحزونون إلى بعضهم في تضامن لا يعرف طعمه إلا موجوع.

0:00
  • كيف تُعيد المواسم الدينية تشكيل المجتمعات المكلومة؟
    كيف تُعيد المواسم الدينية تشكيل المجتمعات المكلومة؟

على طاولة العديد من الأُسر المكلومة في غزة ولبنان واليمن، هُناك مساحة فارغة في القلب والمكان، لغائبٍ انتزعته يد الحرب ووحشية المحتل من بين أحبائه، وإن كان الأحبة والأصدقاء والعائلات يمارسون طوال أشهر طقس مواراة الألم، فإن التفاتة واحدة في رمضان أو صبيحة العيد، على مساحة الغائب الفقيد في الذاكرة و"اللمة" تنكأ ما ووري من جراح، وتُخرج ما تجاهله المُعذّبون من لوعة الشوق. 

ولأنّ الحرب التي تتسع حينًا وتنقبض حينًا آخر، حوّلت الألم إلى حالة جماعية عامة، كان للمواسم الدينية المؤسسة على الاجتماع الأسري والاجتماعي، خصوصية فريدة فيها، تتوازى مع خصوصية الألم وتُنافسه في شراسة الظهور وقوة الصمود، يبدأ ذلك عند اللحظة الزمنية الفارقة ما بين إعلان اليوم الأول من رمضان وبين حشد التهاني والتبريكات التي تنطلق في كل حدبٍ وصوب، مؤكدة بلا كثير عناء ما يفعله الغياب بأصحابها من يُتمٍ وثُكلٍ وألم.

ونتيجة لذلك، طوّرت المجتمعات المكلومة - والتي لم تكن الحرب الحالية أولى انبعاثات جراحها- أساليب وأنماطًا اجتماعية ودينية ونفسية، تتيح لها فرصة التخفيف عن الألم، والقدرة على تجاوز عتبته الأولى، وتمنحها مساحة التجدد والعزم في مواجهة أحد عشر شهرًا آخر على مدار العام.

لبنان: سنبقى ولو على الرُكام

ففي لبنان، وبرغم الدمار الكبير في البنية التحتية والمنازل والأرواح والقلوب، انتشرت موائد الإفطار الجماعية في المناطق المتضررة، لتتحول من مجرد اجتماعٍ على إفطار إلى تأكيدٍ للصمود والتكافل، ولتُرمم جزءًا من انكسار الأمكنة بغياب الشهداء والأحباب، من بلدة الخيام، وكفرشوبا والظهيرة، إلى النبطية والوزاني وغيرها، وفي كلٍ منها ظهرت معالم الجبر الاجتماعي والصمود الشعبي.

بعضها حمل عناوين تُعبّر عن رسالة العمل والمكان، مثل موائد بلدة النبطية التي حملت عنوان "السعداء حاضرون بيننا" وترافقت مع زينة عمّت الشوارع والمنازل، حتى المدمرة منها، وفي الوقت الذي محت الصواريخ الإسرائيلية معظم المعالم المدنية في المكان، جاءت مبادرة البلدية لوضع فانوس عملاق وسط ركام الحرب، في رسالة تعكس التمسّك بالحياة، وعودة الأمل، كما حافظ مدفع النبطية على دويّه الباعث للحياة في نفوس أهلها ومن حولهم من البلدات وسكانها.

وفي الخيام التي تعيش الدمار للمرة الثانية، حيث تجاوزت نسبة الدمار في منازلها 80%، ما حوّلها إلى مكانٍ غير صالحٍ للسكن، صمّم أهلها على إحياء عاداتهم وتقاليدهم الرمضانية فوق الركام، فاجتمعوا فوق الأنقاض في موائد مصطفّة تجمع أهل المكان حوله، وتؤسس لبداية أخرى.

لا يتوقف دور رمضان على موائد الإفطار، والفعاليات الدينية والرمضانية، بل يتجاوزه إلى ارتفاعٍ في مستويات التضامن الاجتماعي والروحي، دفعت سُكانًا من مختلف أنحاء لبنان للمشاركة في دعم موائد الإفطار ومساندة الأهالي المكلومين، بالتواصل والزيارة المكثفة، وبالتبرع السخي بما يساعدهم على البقاء والاستمرار والصمود.

وهو ما تُعبّر عنه نشاطات الجمعيات والمؤسسات والمبادرات الشبابية والمجتمعية، التي انطلقت في تفقّد حال المُهجّرين، والمكلومين، والمتضررين، بدءًا من تأمين وجبتي الإفطار والسحور، وحتى توفير المسكن والملبس والدعم المادي والفقرات الترفيهية للأطفال، والمساندة التشغيلية للتخفيف عن العائلات والأهالي، وجميعها تنطلق من مبدأ تكافلي واحد "وهو ألا يبقى أحد بدون وجبة دافئة عند مدفع رمضان".

اللافت أن عِظم الألم والخسارة، لم يمنع العائلات والأهالي من الاعتزاز بنضالهم وتحديهم والتأكيد على دعمهم للمقاومة وفخرهم بها، ففي كل اجتماعٍ رمضاني، على وجبة الإفطار أو السحور، أو في أمسية رمضانية بعد التراويح، كان الخطاب السائد هو الصبر والتمكين، وكانت صور الشهداء والقادة تُحيط المكان، وتؤكد مبايعته وأهله لنهجهم ومسيرهم.

غزة تُفطر على الألم

يشبه هذا الواقع، حال الفلسطينيين في غزة إلى حدٍ بعيد، فخلال الأسابيع الأولى من شهر رمضان انطلقت موائد متطاولة في مختلف مناطق قطاع غزة، تجمع الأهالي بين الركام والرماد، على وجبةٍ ساخنة، وتحقق لهم قليلًا من الدفء المجتمعي، في ظل الحصار والتجويع، والبرد الذي عصف بقلوب الأحياء بينما فقدت معظم الأبنية والمساكن قدرتها على تأمين الاحتواء لهم.

وإن كان حجم الدمار في قطاع غزة، والشهداء والجرحى، وفقدان المنازل والبنى التحتية، وعمومية الجوع والمرض والبرد، تجعل من الصعب لوجبة ساخنة أن تتجاوز ذلك كله، إلا أن المشاركين في الأنشطة وجدوا فيها فرصة للتشاركية الاجتماعية، تمنحهم القدرة على مشاطرة الألم ومشاركة الفقد في الوقت نفسه.

وانطلقوا من هذه الفكرة في إقامة موائد رمضانية ممتدة، برعاية مؤسسات خيرية تركية وكويتية وقطرية وأردنية، تموّل الإفطار الرمضائي لألوف العائلات، من مختلف الأعمار، وبالقليل من التنوّع الغذائي، الذي غالبًا ما ينحصر بالأرز وقطع الدجاج والقليل من الحساء.

وحتى بعد استئناف الإبادة، تقاطر الأهالي في شمال قطاع غزة، لتحويل وجبة الإفطار إلى حالة من التكافل والعزاء، يتم فيها إحاطة عائلة الشهيد "المستجد" بالجيران والأقارب "الفاقدين" تخفيفًا عنهم، ومشاركتهم ما قلّ وندر من الطعام والشراب، وبرغم أن التغطية الإعلامية غابت عن الفعل الاجتماعي التلقائي، إلا أن مُسيّرات الاحتلال وصواريخه لم تغب، بل وُثقت حالات عدة من قصفٍ لتجمع عائلات على وجبة الإفطار، من دون أدنى رادع إنساني أو أخلاقي.

الخوف من القصف والموت، دفع الأهالي خلال الأيام اللاحقة بعيدًا عن التجمعات، لا سيما وأن طيران الاحتلال عمد إلى استهداف أيّ تجمعٍ بهدف تحقيق أكبر قدرٍ من الضحايا، فتحوّلت موائد رمضان لطوابير سريعة التشتّت حول صنفٍ واحد هو الأرز، وقلّما كان يكفي الجائعين.

وبينما شهدت بداية رمضان اجتماعات تكافلية تحت عناوين "غزة تفطر على الأمل"، و"رمضان يجمعنا" و"باقون" و"بدنا نعمرها"، تحوّلت مع عودة المجازر إلى صراخات ترددها الأمهات الثكالى على أطفالٍ "راحوا جوعانين وما أفطروا"، وعلى رجالٍ خرجوا في طلب الفتات وما عادوا، وعلى نازحين قادهم قصف الاحتلال للموت لا للأمان.

اختلاف الحال ما بين بداية رمضان ونهايته لم يقتصر على وجبة الطعام، بل شمل توقف معونات كسوة العيد، وغياب تجمعات صلاة التراويح حتى في المساجد المهدمة والشوارع والزوايا، كما توقفت حلقات تحفيظ وتثبيت القرآن الكريم، وارتفعت الأسعار في الأسواق بشكلٍ مهول، ووقعت العائلات تحت محنة فقدٍ وتهجيرٍ وتجويعٍ قاتلة، فاقمت ألمها وقتلت ما بقي من بصيص الأمل لديها، بوجود نهايةٍ للحرب والألم.

اليمن: صدقة الفطر تُدفع بالإسناد

يشترك مع غزة في ذلك، اليمن الذي شنت عليه الإدارة الأميركية وحلفاؤها حربًا ضروسًا مفاجئة، استهدفت من خلالها المساكن والتجمعات المدنية، بحجج باهتة عن وجودٍ عسكري، لتوقع عشرات المدنيين ومعظمهم من الأطفال والنساء صرعى نيرانها، التي انطلقت خلال الأسبوع الأخير في حصد اليمنيين ما بين الإفطار والسحور، كعقوبة غربية لهم على إسناد غزة ودعمها خلال الحرب.

ونتيجة للصواريخ الأميركية، اضطرب الانتظام الاجتماعي في تشاركية مائدة الطعام في الأحياء والبلدات اليمنية، وتوقفت إفطارات أبناء الحديدة وذمار وصعدة وإب، التي كانت تمثل تكافلًا اجتماعيًا يخفف من وطأة الفقر والجوع والعوز.

بالنتيجة، يأتي رمضان بالأمل، وتأتي الأعياد بالخير، هذا هو المتوقع والمأمول والمعتاد، أما الواقع والحالي فهو ألمٌ لا ينتهي تتجرعه عائلات ومواطنون وبلدات ومساحات واسعة في كلٍ من لبنان وغزة واليمن، يخفف الشهر الكريم من بعض الحُرقة، أحيانًا يخفيها مؤقتًا، يستند المحزونون إلى بعضهم في تضامن لا يعرف طعمه إلا موجوع، ولا يقدمه إلا كريمٌ ومخلص، لكن المؤكد دائمًا أن الألم لا يُمحى، لكن قد يتجدد أملًا وعزيمةً وإصرارًا، يومًا ما.

اخترنا لك