عام من اللوعة؛ واليقين ... الاستشهاد يكرّس عقيدة أمة مقاومة

بين لوعة الفقد ويقين العقيدة تتشكل المعادلة التي ستصوغ الفصول المقبلة، ومن يقرأ سنن التاريخ يدرك أن الثورات التي تُبنى بالعقيدة الحقة وتُسقى بدم الشهداء، تبقى عصية على الاغتيال.

  • استشهاد السيد حسن نصر الله ليس نهاية (أرشيف).
    استشهاد السيد حسن نصر الله ليس نهاية (أرشيف).

ليس ما نقرأه في الكتب هو الذي يصنع التاريخ بل ما تكتبه الأفعال على الأرض، وما يُودِعهُ الشهداء في ضمير الامة من قيم.

عام كامل؛ مرّ على جرح المحور المقاوم، استشهاد السيد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، جرح خلّف لوعة فقد واشتياقاً يعصر القلوب، ويقيناً يثبت الخطى، فالحكاية ليست حدثاً عابراً تقرأه نشرات الأخبار، بل هي مسار متصل يبدأ من وعد بلفور، وينعطف في عام 1979، ثم يمضي عبر الجنوب اللبناني وغزة وبغداد وصنعاء حتى يومنا هذا.

والكتابة هنا ليست تحليلاً سياسياً جافاً ولا مرثية عاطفية تنطفئ بانطفاء الدمع، بل هي محاولة لربط الحقيقة بعصب الواقع، لتثبيت أن ما يبقى هو ما تصدقه الوقائع حين تتكلم.

في العام 1917 منحت بريطانيا ما لا تملك لمن لا يستحق، فبدأ قرن من الفواجع على فلسطين وأهلها، وقرن موازٍ من الاختبارات على ضمير العرب والمسلمين، حين تحولت فلسطين من جغرافيا محدودة إلى مركز ثقل روحي وعقائدي وقومي، وصارت بوصلة يظهر انحرافها كلما غلبت الحسابات الصغيرة للسياسة على المبدأ الكبير للعقيدة.

 لم ترتقِ الأمة العربية إلى مستوى الحدث، نعم تحركت جيوشها لكنها توقفت على حدود الهزيمة، فزاد الشتات وزادت مرارة المخيمات التي صارت جغرافيا بديلة عن الوطن؛ لكن سنن التاريخ لا تقف عند هزيمة، ففي 1979 تبدلت المعادلة بثلاثة أحداث مفصلية:

 الأول / انتصار ثورة إسلامية كان ناتجها ولادة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي رفعت شعار نصرة المستضعفين من مرتبة الشعار إلى مرتبة التكليف الإلهي والواجب الأخلاقي والإنساني، فعادت فلسطين إلى مركز الدستور والقرار. 

والثاني / صناعة أميركية لميليشيات إرهابية عابرة للحدود في أفغانستان، تحت لافتة ظاهرها الجهاد ضد السوفيات، وباطنها تحويل الدين المُحرّف إلى أداة لهندسة الخرائط والمجتمعات، بما يخدم مشروع الهيمنة الصهيونية.

 والثالث / تمكين المجرم صدام حسين المقبور، حاكماً للعراق ليجرّ المنطقة إلى حرب دامت ثماني سنوات ضد إيران، تستنزف الدم والمال والوقت، والهدف منها إطفاء جذوة الثورة وشغل المنطقة عن القدس.

ففي الأسبوع الأول بعد انتصار الثورة أُغلقت سفارة للكيان في طهران وفُتحت أبوابها اسماً ووجوداً لدولة فلسطين.

 ذلك التحول لم يكن رمزياً، بل فعلاً يحدد أن القدس هي البوصلة وأنها لن تكون بعد اليوم زينة خطاب ولا بنداً تفاوضياً، بل موضع القلب من الجسد، وفي الجهة الأخرى كان الاحتلال يصعّد في لبنان، من اجتياح إلى اجتياح، حتى بلغ قلب بيروت في 1982.

 غير أن بذرة أخرى كانت تنمو في التربة نفسها، بذرة خط ممتد من كربلاء ومن صيحة هيهات منا الذلة، التقت بروح الثورة الإسلامية في إيران التي أعادت تعريف السياسة على معيار المستضعفين، من هذا التلاقي خرجت ثمرة مباركة جديدة ستنتج ظاهرة قيادية واجتماعية، تتجاوز حدود التنظيم إلى بناء مجتمع مقاوم.

وحين سقطت الواقعية السياسية على قلوب كثيرين كهزيمة حتمية، وحين تبدلت القواميس التي كانت تتكلم عن التحرير الشامل، إلى قواميس اتفاقات ثنائية وحل الدولتين مع تطبيع مذلّ متوسع، هنا تمدد الفراغ بين الوعد والواقع؛ كان فراغاً في القرار وفي الوجدان معاً، وفي تلك المساحة التي كانت غير مرئية، التقط الجنوب اللبناني أنفاسه ليبدأ صناعة معادلة مختلفة، قرى على تماسّ مع الاحتلال تحولت إلى رحم مقاوم، عمليات متفرقة تدرجت إلى مشروع مقاومة منظّم، ومع الزمن انتقل المشروع من تعريف نفسه تنظيماً إلى تعريف نفسه كهوية عقائدية.

وفي تلك اللحظة ظهر القائد الذي انتظرته الأمّتان العربية والإسلامية طويلاً؛ القائد الذي يجمع بين واقعية الميدان وعمق الإيمان ليمزج مدرسة كربلاء التي تقرأ التاريخ بعين انتصار الدم على السيف ببصيرة عقائدية ولائية، تعرف قدر القوة والوقت والبيئة المقاومة.

هنا ليس الحديث عن شخص منفصل عن الناس، بل عن السيد حسن نصر الله، القائد الذي ربط اللسان باليد، والقلب بالهدف، والعقيدة بالبوصلة، قائد يخاطب جمهوره بصدق، يرفض الوعد بما لا يملك ويثبت على ثوابت الواقع وطبيعة المواجهة، هنا وبوجود السيد حسن نصر الله، تحولت المقاومة من مجموعات إلى هوية عقائدية تتجاوز الطوائف، وتحولت غزة والضفة إلى مرآة ترى في تجربة الجنوب اللبناني المحرر مصداقاً للقول وإمكانية تكرار الفعل في فلسطين، وهنا صار اسم السيد حسن نصر الله مرادفاً لفكرة النصر الممكن بعد زمن طويل من واقع الهزائم.

ولادة هذه الظاهرة لم تكن صدفة أو عابرة لزمن محدود، بل كانت خطاباً عقائدياً يضع فلسطين في مقام العقيدة، لا مجرد قضية وكان عقلاً استراتيجياً يدير الردع على أساس الواقع، والقدرة التي تتحرك بالإيمان لا على مقامرة ولا على انكفاء، وكان حضوراً اجتماعياً صادقاً يبني البيئة المقاومة التي تحتضن المجاهد والأسرة معاً، وعند هذه النقطة تحديداً بدأ العدو يفهم خطورة قيادة السيد نصر الله وخطابه.

 فالمسألة ليست صواريخ تسقط على مستوطنات الشمال فحسب، بل هي خطاب قادر على تحويل كل بيت إلى قلعة صمود، وكل أم إلى حاضنة للثبات.

وفي أيار 2000 انقلب القاموس كله حين طُرد الاحتلال من الجنوب اللبناني بلا قيد ولا شرط، ومنذ ذلك اليوم، رُفعت رايتان، الأولى رايات الانكسار والهزيمة التي رُفعت على دبابات الميركافا، والثانية رايات المقاومة المنتصرة التي ارتفعت في بلدات وقرى الجنوب اللبناني المحرر.

ومنذ ذلك اليوم استفاق الوعي العربي والإسلامي على حقيقة عملية تقول إن جيش الكيان يمكن أن يُهزم إذا توافرت المعادلة الصحيحة، تلك المعادلة التي قامت على ثلاث ركائز:

أُولها... إيمان عقائدي يعتبر النصر وعداً مشروطاً بالثبات والصبر والبذل. وثانيها... بنية اجتماعية وبيئة حاضنة تمزج دم الشهيد بدمع الأم وبعرق العامل، فتتحول الأحياء إلى شبكة دعم اقتصادية ونفسية وتنظيمية.

 وثالثها... قدرة عسكرية واستخبارية تنمو من عمليات نوعية محدودة إلى منظومة صاروخية متماسكة ومهارات مضادة للدروع وتكتيكات حرب أعصاب طويلة.

 والسيد حسن نصر الله كان مصداقاً لهذه المعادلة الصحيحة، وحوّل ركائزها الثلاث إلى واقع بدأ من الجنوب ليغطي لبنان كله.

ثم جاءت حرب تموز 2006 كامتحان أقسى على العدو الذي ظنها حرباً خاطفة تعيد ترميم صورة الجيش الذي لا يقهر؛ ثلاثة وثلاثون يوماً من النار والحديد، فإذا بالمشهد ينقلب؛ فرقاطة تحترق، دبابات تتساقط، عمق يدخل دائرة النار وجبهة داخلية تعيش القلق ولا تتذوق الطمأنينة.

 عندها تكرست عقيدة الردع، قصف يقابله قصف، تهديد بالعمق يقابله تهديد مماثل، عملية بعملية وحدود تعيش حالة لا سلم ولا حرب، تدير استنزافاً بارداً ينهك الأعصاب عند جيش الاحتلال والمستوطنين، ويثبت اليقين عند البيئة المقاومة.

وسرعان ما جاء يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليعيد تعريف الزمن، فطوفان الاقصى قطع رتابة الحسابات الإسرائيلية وأخرجها من منطقة الأمان.

بالتزامن فتح الجنوب اللبناني جبهته على إسناد محسوب فأُفرغت المستوطنات وتزعزع الاستقرار النفسي لعشرات الآلاف من المستوطنين، أُسقطت مسيرات متطورة واتسع مجال الاستهداف ليشمل عمقاً عملياتياً عند الحاجة؛ لم تكن حرباً خاطفة بل حرب نقاط طويلة، تراكم الكلفة على العدو وتستدرجه إلى قلقه الوجودي الدائم.

وفي مساء السابع والعشرين من أيلول 2024 دوّى نبأ استهداف قلب الضاحية بثمانين طناً من المتفجرات أميركية الصنع؛ كان رهان العدو واضحاً: اضربوا الرأس ليُشلّ الجسد، أسكِتوا الصوت ليضيع الصدى، اكسروا القائد ليُهزم الجنود.

 انجلت الغبرة وهدأت الأصوات لينال السيد حسن نصر الله كرامة الله لآبائه وأجداده المعصومين؛ الشهادة... التي جمعت له الحُسنيين، النصر ومرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.

اما في الشارع فكان المشهد أبلغ من كل تفسير، لم تنطفئ جذوة الضاحية المقاومة بل اشتعلت بالجموع، رفرفت الرايات، والتقت المآذن والأجراس على نغمة واحدة، من بيروت إلى بغداد، ومن صنعاء إلى غزة وطهران.

 ارتفعت صور سيد المقاومة والشهيد الأسمى السيد حسن نصراالله، لا لتؤسس لتقديس أشخاص، بل لتجدد عهد العقيدة وتؤكد أن الغياب الجسدي لا يعني غياب الروح والرسالة واندثار العقيدة، هكذا تحولت اللوعة إلى يقين عملي، فالجمهور لم ينكسر، بل أعاد تنظيم نفسه، لم تتفكك بيئة المقاومة، بل زادت تماسكاً وانتقلت القيادة بانتظام، لتعكس أن المقاومة ليست رهينة كاريزما فردية، وأن حزب الله شُيّد ليبقى ما بقيت العقيدة، وعنوانه الدائم إنا على العهد ثابتون.

أما بنية المقاومة ذاتها، فقد أثبتت الأحداث أن المشروع بُني على هندسة عقائدية حوّلته إلى ثقة مجتمعية قبل أي شيء، وإلى صدق الخطاب الذي لا يعِدُ بما لا يملك، ووضوح البوصلة التي لا تساوم على المبدأ وشبكة مؤسسات وخدمات وتعليم وإعلام وثقافة، كلها عناصر صنعت تماسك بيئة المقاومة.

 لذلك لم يكن الاستشهاد خسارة، بل كان اختباراً كشف صلابة البنية والبناء الذي لا يقوم على فرد، ولا يسقط بالاستشهاد، وخط المقاومة يشدّ بعضه بعضاً، كل لبنة فيه تحمل الأخرى إذا غابت.

 العبرة الذهبية التي يثبتها العام الماضي؛ هي أن السلاح ليس سبب وجود المقاومة واستمرارها، بل الجمهور المؤمن بعقيدتها هو الذي يمنح السلاح معناه وحدوده، فالسلاح يحمي ولا يحكم، يقف حيث يجب أن يقف، لا حيث تميل الرغبة، وكلما نضجت هندسة العقيدة الحقة والثقة بين المجتمع ومقاومته ازدادت الحصانة في وجه اختراقات العدو ومحاولاته لدفع الداخل إلى صراع داخلي.

عند السيد القائد الشهيد حسن نصر الله؛ لم تكن اللغة زخرفة لخطاب، بل جزءاً من القتال نفسه، فالتوقيت سلاح، والنبرة سلاح، والمفردة سلاح، لكن كل سلاح يحتاج إلى ميزان العقل لذا ظل الخطاب يراجع التكتيك من غير أن يمس المبدأ، يعترف بحجم الكُلفة ولا يبيع جمهوره وهماً، ويعلي من قيمة الصدق لأنه أساس الثقة.

 بهذه المعادلة تحولت كاريزما السيد حسن نصر الله من حالة إعجاب عاطفي إلى عقد عقائدي عقلاني أخلاقي بين قيادة وجمهور المقاومة، فإذا غاب القائد بقيت العقيدة والعهد، وإذا غاب الصوت بقي الصدى الذي صار أصواتاً كثيرة.

عام من اللوعة مرّ، لكنه لم يكن عام الانكسار بل عام الانبعاث؛ غاب السيد عنا جسداً وبقيت روحه المقاومة في كل بيت يرفع راية، وفي كل يد تبني، وفي كل عين تسهر على ثغر.

أراد العدو أن يكتب بالاغتيال نهاية فصل، ففتح بذلك أولى صفحات كتاب جديد، كتاب يقول إن المقاومة لم تعد حدثاً موسمياً يُختبر في معركة ثم يُطوى، بل صارت بنية جماهيرية كاملة تُقاس بقدرتها على توليد الضغط على العدو الصهيوني، وحماية المجتمع من داخله.

واليوم حين ننظر إلى الشمال الفلسطيني المحتل المهجور من المستوطنين، نفهم معنى الجملة التي صارت عنواناً لمعيار الحكم على الوقائع؛ الخبر ما ترونه لا ما تسمعونه، فما نراه يثبت أن "إسرائيل" لم تنتصر، وأن أميركا لم تحسم المعركة، وأن المقاومة لم تنكسر، وأن الجماهير لم تتراجع.

 وبين لوعة الفقد ويقين العقيدة تتشكل المعادلة التي ستصوغ الفصول المقبلة، ومن يقرأ سنن التاريخ يدرك أن الثورات التي تُبنى بالعقيدة الحقة وتُسقى بدم الشهداء، تبقى عصية على الاغتيال، وأن الأمة متى وثقت ببوصلة الحق عرفت السبيل، حتى لو غاب دليل الطريق لحظة في العتمة.

وما كشفته التجارب على مدى قرن من الزمن، من وعد بلفور حتى طوفان الأقصى، ومن ثورة الإمام الخميني حتى استشهاد السيد حسن نصر الله؛ النتيجة واحدة، وهي أن التاريخ لا يُكتب بالقرارات بل بالتضحيات، ولا يُقاس بالخرائط، بل بالقدرة على تحويل العقيدة إلى واقع.

لذلك، استشهاد السيد حسن نصر الله ليس نهاية، بل هو انتقال في نوع الموجه، إذ أكدت وقائع العام الماضي أن بيئة المقاومة التي صنعها أقوى من أن تتصدع، وأن المشروع الذي بناه أعمق من أن ينهار، وأن الصدق الذي التزم به صار معياراً لزمن ما بعده، ولذا سيبقى اسم السيد حسن نصر الله مرادفاً لا لحدث تاريخي عابر، بل لعقيدة تحولت إلى هوية أمة مقاومة.