عملية القرن الاستخباراتية: كيف تحوّل الكيان الصهيوني لكرة زجاجية شفافة بيد إيران

العملية الاستخبارية الإيرانية تُعدُّ خرقاً كاملاً لبنية أمنية عالية الحصانة، محاطة بدعم استخباراتي غربي يمتد من واشنطن إلى "تل أبيب" مروراً بعواصم أوروبية.

  • العملية الإيرانية ضد الكيان الصهيوني تجاوزت حدود الإنجاز الأمني التقليدي.
    العملية الإيرانية ضد الكيان الصهيوني تجاوزت حدود الإنجاز الأمني التقليدي.

في عالم الاستخبارات، نادراً ما تخرج عمليات كبرى إلى العلن، ونادراً ما تعترف الأطراف المعنية بها، سواء خاسرة أو رابحة، بطبيعتها الحقيقية.

لكن بين الصمت الرسمي الإسرائيلي المخزي، وإعلان الانتصار الإيراني المنضبط، تكشف العملية الاستخباراتية الأخيرة التي نفّذتها طهران ضدّ الكيان الصهيوني عن حدث يتجاوز المفهوم التقليدي للاختراق. نحن أمام ما يمكن وصفه من دون تردّد بـ"عملية القرن الحقيقية"، لا من حيث الجرأة والتقنية فقط، بل من حيث النتائج الاستراتيجية التي أعادت هندسة معادلة الأمن في الشرق الأوسط برمّته.

لطالما كانت عملية "البيجر" الإسرائيلية ضد حزب الله تُقدّم في الأوساط الأمنية والدعائية الغربية كرمز للعبقرية الاستخباراتية.

غير أنّ الحقيقة، أظهرت أنّ معظم تلك الأجهزة كانت بأيدي مدنيين لبنانيين، وكان استخدامها في الغالب يهدف للتنبيه من الغارات الإسرائيلية لا للعمليات القتالية.

وبالتالي، فإنّ "عملية البيجر" لم تكن سوى استثمار ظرفي في فجوة تكنولوجية، لا أكثر. بل وهي موجّهة نحو المدنيين العزّل، وهذا ما عرف به هذا الكيان تاريخياً وآنياً في غزة.

لكنّ العملية الإيرانية الأخيرة، وعلى نقيض ذلك تماماً، تُعدُّ خرقاً كاملاً لبنية أمنية عالية الحصانة، محاطة بدعم استخباراتي غربي يمتدّ من واشنطن إلى "تل أبيب" مروراً بعواصم أوروبية.

لم تنجح إيران فقط في الوصول إلى "كنز استراتيجي" من المعلومات الدقيقة التي تخصّ المنشآت النووية الإسرائيلية، بل تعدّت ذلك إلى البنى التحتية الاقتصادية، وشبكات الطاقة، ومقار القيادة والسيطرة، وأنظمة الدفاع، ووثائق التعاون الدولي السرّي بين الكيان المحتل وعدد من الحكومات والمؤسسات الدولية، بما فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

الصدمة الكبرى، والتي لم تُناقَش بعد بالقدر الكافي، هي أنّ هذه الوثائق تُشير إلى تواطؤ سري بين "تل أبيب" والغرب في تطوير القدرات النووية الإسرائيلية، وهو ما يُقوّض بشكل مباشر الخطاب الغربي الذي يدّعي الحياد في ملف الانتشار النووي، ويفضح ازدواجية المعايير السائدة في المؤسسة الدولية للطاقة الذرية، التي أغمضت عينيها عن "تل أبيب" لعقود، فيما كانت تضع طهران تحت المجهر في كلّ شاردة وواردة.

إذا كان الاختراق المادي للمراكز الأمنية والنووية في "إسرائيل" بحدّ ذاته إنجازاً، فإنّ القيمة الحقيقية لهذه العملية تكمن في بعدها الاستراتيجي العقائدي. إذ لم تَعُد إيران، كما كانت في مراحل سابقة، تحصر صراعها مع الكيان الصهيوني في الردود الصاروخية، أو الحسابات السياسية، أو استهداف سفن الكيان الصهيوني في البحار. نحن اليوم أمام تحوّل نوعي، ينقل المواجهة إلى مستوى "التفوّق الاستخباراتي المنهجي"، بما يعنيه ذلك من قدرة مستدامة على جمع المعلومات، تحليلها، وتسخيرها في وقت دقيق لتحقيق اختلال ميداني ومعنوي لدى الطرف الآخر.

الوثائق المسرّبة التي حصلت عليها طهران لا تُعدّ مجرّد بيانات ساكنة، بل هي ذخيرة استراتيجية تُستخدم لبناء بنك أهداف دائم ومتحرّك، يغطي مواقع لا يعرفها حتى الرأي العام الإسرائيلي. فقد كشفت هذه الوثائق تفاصيل دقيقة عن مواقع منشآت لم تكن معروفة حتى لبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، كما أظهرت تعاوناً مع شركات دفاعية أوروبية، وتمويلاً خفياً من مؤسسات أميركية لمشاريع تندرج رسمياً تحت بند "الأبحاث المدنية"، فيما هي في جوهرها تغذّي المشروع النووي العسكري الإسرائيلي الخبيث.

الجانب الأكثر حساسية في هذا الكشف الإيراني ليس فقط ما كشفته الوثائق، بل أنّ الرسالة التي تحملها إيران باتت تقول: "نحن نعرف ما تخفون، ونعرف من يساعدكم، ونعرف أين نضرب ومتى، وهذا ما أكدته بيانات مجلس الأمن القومي الإيراني وقائد حرس الثورة الإيرانية اللواء حسين سلامي. هذه المعرفة تعني أنّ كلّ محاولة إسرائيلية للمناورة، سواء بضربة استباقية أو بعملية خداع استراتيجي، أصبحت محفوفة بالمخاطر الوجودية لـ "تل أبيب"، لأنّ الطرف الإيراني لم يعُد متلقّياً للضربة، بل ممسكاً بمفاتيح المشهد من خلف الستار.

ولعل ما يدعم عمق هذه النقلة النوعية، هو ما رأيناه خلال الأشهر الماضية من تكرار الإعلان عن تفكيك خلايا تجسس تعمل لصالح إيران في الداخل الإسرائيلي. كلّ أسبوع، تقريباً، كنا نشهد اعتقال إسرائيليين مدنيين أو ضباط احتياط أو متقاعدين، على خلفيّة تقديمهم معلومات لطهران، أو تواصلهم مع جهات يُشتبه في ارتباطها بالاستخبارات الإيرانية. لم يعد هذا أمراً هامشياً، بل أصبح ظاهرة بنيوية تقضّ مضاجع الشاباك والموساد معاً. والرسالة التي تتكرّر هي أنّ الثقة بين القيادة الإسرائيلية وجهازها الأمني بدأت تتأكّل، كما بدأ الشكّ يتسرّب في ولاء جميع مواطني الكيان.

وهذا التأكّل لا يُقاس فقط بعدد الاعتقالات، بل بما أحدثته من أثر نفسي داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي لطالما تغنّت بقدرتها على التحصين الداخلي والتفوّق الخارجي. اليوم، ومع كلّ عملية تجنيد جديدة تنجح فيها إيران، تصبح "إسرائيل" أشبه بكرة زجاجية شفّافة، لا تخفي شيئاً، ولا تستطيع أن تُباغت أو تُفاجئ، وهو ما يُفقدها أحد أهم مقوّمات الردع وهو الغموض.

ليس من المبالغة في شيء القول إنّ الكيان الصهيوني، اليوم، يقف في مواجهة أكثر لحظاته الأمنية هشاشة منذ تأسيسه. فعلى مدى عقود، بنى هذا الكيان أسطورته الكبرى على ثلاثة أعمدة: الردع النووي، التفوّق التكنولوجي، والاختراق الاستخباراتي. لكنّ العملية الاستخباراتية الإيرانية الأخيرة جاءت لتسحب البساط من تحت هذه الأعمدة جميعاً، عبر تفكيكها من الداخل، وضربها في الصميم، وتحويلها إلى وهمٍ معرّى أمام حلفاء "إسرائيل" قبل خصومها.

تجاوزت العملية الإيرانية ضدّ الكيان الصهيوني حدود الإنجاز الأمني التقليدي، لتتحوّل إلى بيان استراتيجي مفتوح موجّه لا إلى "إسرائيل" وحدها، بل إلى عواصم القرار الغربي، وفي مقدّمتها واشنطن. لخصوم طهران ممن ظلّوا يراهنون على أدوات الحصار، أو استراتيجيات "الضغط الأقصى"، أو حتى خيارات التدخّل العسكري، جاءت هذه العملية لتُسقِط كلّ وهم بالتفوّق أو القدرة على الإخضاع. لقد أثبتت طهران أنها، رغم القيود الاقتصادية، ورغم حرمانها من التكنولوجيا الغربية، ورغم كلّ محاولات العزل، قادرة على اختراق أعمق بنى الأمن الغربي - الإسرائيلي المشترك، وإعادة صياغة معادلة الردع من دون أن تمتلك سلاحاً نووياً.

وهنا يكمن جوهر الرسالة، أنّ معادلة الردع لا تُبنى على الرؤوس النووية فحسب، بل على الإرادة، والاستقلال، والقدرة الذاتية على إنتاج المعرفة الأمنية والمعلوماتية وتوظيفها بدقة. لقد تبيّن أن امتلاك بنك أهداف استراتيجياً، ومعرفة تفاصيل البنية النووية والعسكرية والاقتصادية للعدو، هو شكل أكثر واقعية وفعّالية من امتلاك قنبلة لا يمكن استخدامها من دون محرقة. إيران، ببساطة، تقول نحن لا نحتاج القنبلة لأننا نملك مفاتيح ردع أكثر دقة، وأقل كلفة، وأكثر إيلاماً للعدو.

وهذا الإنجاز لا يمكن عزله عن بنية السيادة السياسية والفكرية الإيرانية. فإيران لم ترهن قرارها لأيّ قوة دولية، ولم تستند في بنائها الأمني إلى تحالفات مصلحية عابرة أو قواعد أجنبية تحرسها، بل بنت منظومتها الدفاعية والاستخباراتية على قاعدة الاستقلال الكامل، والإنتاج الذاتي، وامتلاك زمام المبادرة بعيداً عن الإملاءات الغربية أو الضمانات الزائفة.

بهذا المعنى، لم تكشف إيران فقط مواقع "إسرائيل" الحسّاسة بل كشفت أيضاً عورات خصومها، وعمق الوهم الذي كانوا يعيشونه منذ عقود.