غزة تعيد تعريف النصر

يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية حققت نصرًا استراتيجيًا بمعناه الخلدوني، فهي لم تحافظ على وجودها فحسب، بل فرضت شروطها على من يملك التفوق العسكري والتقني، وحوّلت الميدان إلى أداة إرادة وتحكم.

  • غزة تعيد تعريف النصر
    غزة تعيد تعريف النصر

يرى ابن خلدون أن الأمم تمرّ بدورات من القوة والضعف، تبدأ بالعصبية التي تولّد روح النهوض والمقاومة، وتنتهي حين تُستبدل روح التضحية بروح الترف. فالحضارة عنده ليست مجرد عمرانٍ أو تفوق عسكري، بل منظومة وعي جماعي تحفظ للأمة قدرتها على الصمود رغم التحولات. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة الصراع العربي–الإسرائيلي، وخاصة حرب غزة ٢٠٢٣ - ٢٠٢٥، كصدام بين مشروع فقد عصبيته الداخلية وآخر استعادها عبر إرادة جماعية مؤمنة بعدالة قضيته.

في هذه الحرب التي شكّلت ذروة الصراع المعاصر بين قوة عسكرية متقدمة وحركة مقاومة محدودة الموارد، ظنّت إسرائيل أنها ستوجّه الضربة القاضية التي تُنهِي المقاومة وتعيد رسم المشهد الإقليمي وفق تصوراتها. لكن مجريات الميدان أظهرت عكس التوقعات، إذ استعادت المقاومة زمام المبادرة بسرعة، وفرضت إيقاعها على سير المعركة، مؤكدة أن النصر لا يقاس بعدد الطائرات أو الدبابات، بل بقدرة الطرف الأضعف على التحكم بالمجريات وفق شروطه.

منذ البداية، شنّت إسرائيل حملة جوية كثيفة على غرار عقيدة "الصدمة والرهبة"، مستهدفة مراكز القيادة والبنية التحتية، في محاولة لإحداث شلل شامل في قدرات المقاومة. إلا أن وحدات المقاومة أظهرت تكيّفًا سريعًا، واستمرت في الاشتباك وتنفيذ عمليات دقيقة، ما منع العدو من تحقيق أهدافه الاستراتيجية. وبدل أن تُحدث الضربات الجوية الحسم المتوقع، تحوّل التفوق الإسرائيلي إلى عبء نفسي وسياسي، بعد أن ثبت أن الإرادة الفلسطينية قادرة على الصمود وفرض قواعد اشتباكها الخاصة.

أما على الأرض، فقد قدّمت المقاومة نموذجًا ميدانيًا متحركًا، قائمًا على مجموعات صغيرة تتحرك بسرعة وتنفذ كمائن محكمة وتستفيد من العبوات الناسفة والقنص ونيران الإغارة السريعة. لم يكن الهدف مجرد الدفاع عن مواقع محددة، بل تحويل بيئة غزة نفسها إلى شبكة ديناميكية من تهديدات متغيرة، تفرض على الجيش الإسرائيلي إعادة حساباته في كل لحظة. بهذه الطريقة، انتقلت المقاومة من موقع الدفاع التقليدي إلى موقع الفرض، وأجبرت العدو على خوض الحرب وفق شروطها هي، لا وفق قواعده.

مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن المقاومة لم تكن صامدة فحسب، بل قادرة على إدارة المعركة بطريقة استراتيجية. الميدان نفسه أصبح أداة قوة، إذ يمكن للمقاومة أن تتحكم بإيقاع القتال، وتحدّد أين ومتى وكيف يتم الاشتباك. هذه المرونة حوّلت التفوق العددي والتقني لإسرائيل إلى نقطة ضعف، وأجبرت القيادة الإسرائيلية على التعامل مع واقع ميداني مختلف تمامًا عن توقعاتها، حيث لم يعد للحجم أو التكنولوجيا وحدهما القدرة على فرض السيطرة.

تعتمد العلوم العسكرية في تحديد النصر على ثلاثة معايير: كسر إرادة القتال لدى الخصم، السيطرة على الأرض، وتدمير القدرات الأساسية للعدو. بتطبيق هذه المعايير، نجد أن إرادة المقاومة لم تُكسر، بل ازدادت صلابة، وأن السيطرة على الأرض ظلت في معظم المحاور متقلبة لصالح الفلسطينيين، بينما استمرت قدراتهم الميدانية مرنة وفعّالة طوال أيام الاشتباكات. بالمقابل، أظهرت الجبهة الداخلية الإسرائيلية تصدعات حادة، مع انقسامات سياسية واجتماعية، ما دلّ على اهتزاز ثقة المجتمع الإسرائيلي بمؤسساته وقدرتها على توفير الأمن والاستقرار.

النصر الاستراتيجي لا يظهر نتائجه فوريًا، بل تتجلى على المدى المتوسط والبعيد، سواء في وعي العدو أو على المستويين الإقليمي والدولي. غزة لم تُهزم لأنها بقيت قادرة على الصمود وحسب، بل لأنها نجحت في فرض شروطها في الحرب، وتحويل المعركة إلى اختبار سياسي وأخلاقي وعملي للعالم بأسره. على المستوى الإقليمي، ارتفعت مكانة محور المقاومة كفاعل استراتيجي مؤثر، فيما بدأت بعض الدول الغربية إعادة النظر في سياساتها تحت ضغط التحولات الإنسانية والسياسية. دوليًا، تغيرت صورة إسرائيل من دولة ضحية إلى قوة تمارس العدوان، ما أسهم في تقويض شرعيتها الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي.

داخليًا، لم تشهد إسرائيل هذه المرحلة من التحديات منذ سنوات. الانقسامات السياسية تعمّقت، الجبهة الداخلية اهتزت بفعل الخسائر والخوف، وموجات الهجرة المعاكسة كشفت هشاشة الشعور بالأمان الذي كان أساس المشروع الصهيوني. في المقابل، أثبت الفلسطينيون أن القدرة على فرض الشروط الميدانية، حتى بموارد محدودة، هي أداة القوة الحقيقية، وأن الصمود والإبداع التكتيكي قادران على قلب ميزان القوى.

بهذا المعنى، يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية حققت نصرًا استراتيجيًا بمعناه الخلدوني، فهي لم تحافظ على وجودها فحسب، بل فرضت شروطها على من يملك التفوق العسكري والتقني، وحوّلت الميدان إلى أداة إرادة وتحكم. وعندما يفرض الطرف الأضعف إيقاع المعركة ويجعل العدو يتفاعل بدل أن يقود، تتحقق الغلبة الحقيقية، وتُعيد تعريف النصر بمعناه التاريخي والاستراتيجي.

لقد خاضت إسرائيل حرب غزة لتثبت قدرتها على الحسم، لكنها خرجت منها وهي تواجه أسئلة وجودية عن مستقبلها وقدرتها على البقاء في محيط يرفضها. أما غزة، فقد خرجت مثقلة بالجراح، لكنها أكثر رسوخًا في الوعي العربي والدولي، وأثبتت أن النصر الحقيقي ليس في السلاح وحده، بل في القدرة على فرض الشروط وتحويل الإرادة إلى فعل تاريخي. هنا يصدق قول ابن خلدون: «المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب حتى إذا ضعفت عصبية الغالب زال سلطانه». وغزة اليوم، رغم الحصار والدمار، أثبتت أن من يحكم الميدان بإرادته يملك مفتاح المستقبل.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.