غيتو رفح: نموذجٌ عصري لإنتاج الجحيم... معبّأ في صناديق مساعدات

مشروع "مدينة رفح الإنسانية" يبدو في ظاهره مبادرة للخلاص، لكنه في تفاصيله اليومية يحمل ملامح الغيتو النازي أكثر مما يشبه أيّ مخيم إغاثي إنساني تقليدي.

  • رفح كغيتو حديث: البشرية تستعيد
    رفح كغيتو حديث: البشرية تستعيد "حسها الإنساني المرهف".

في تصريح بدا للوهلة الأولى وكأنه مبادرة خلاص، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، في مطلع تموز/يوليو الجاري، عن مشروع "مدينة رفح الإنسانية" كحلّ عاجل لأزمة سكان قطاع غزة، بعد أشهر من التدمير الشامل والتهجير القسري الذي حوّل الجغرافيا إلى أنقاض والبشر إلى أشباح. 

المدينة المقترحة، بحسب البيان الرسمي، ستكون "مأوى آمنًا" لحوالي 600 ألف فلسطيني، حيث يمكن إيصال المساعدات وتقديم الخدمات الطبية والغذائية "بشكل منظم"، مع ضمانات "أمنية" تمنع تسلل عناصر "حماس" أو تجدد القتال.

لكن تحت هذا الغلاف اللغوي المصقول، تتكشّف ملامح أخرى أكثر قتامة: منطقة مغلقة لا خروج منها، مراكز مراقبة شديدة، غياب أي أفق سياسي، وتدمير ممنهج للبنية التحتية خارجها. 

فهل هي "مدينة إنسانية"؟ أم غيتو عصري يُعاد إنتاجه بذريعة التنظيم والرحمة؟

الغيتو النازي: إجراء انتقالي ومنظم لحماية السكان

حين بدأت السلطة النازية بإنشاء الغيتوهات في المدن البولندية المحتلّة، لم تُقدّم الأمر كخطوة نحو الإبادة، بل كإجراء "انتقالي" و"منظم" لحماية السكان، وللحفاظ على "النظام العام".

قيل حينها إن تجميع اليهود في أحياء مغلقة سيسهّل توزيع الغذاء، ويحدّ من التوترات بين اليهود وغير اليهود، وسيضمن عدم انتشار الأمراض. بل ذهب بعض المسؤولين إلى اعتبار الغيتو "مساحة ذاتية الإدارة" يستطيع فيها اليهود تسيير شؤونهم اليومية ضمن شروط "الطوارئ".

لكن خلف هذه الأقنعة الإدارية، كان الوجه الحقيقي يظهر ببطء وصرامة. 

لم يكن الغيتو إلا محطة أولى في سلسلة الموت: تجويع ممنهج، إغلاق محكم، منع للدواء، تكديس بشري غير إنساني، وانهيار كامل لكل مظاهر الحياة. كلّ ذلك جرى بقرار مركزي، وبتخطيط حسابي دقيق. كانت الغيتوهات تعمل كفلاتر زمنية، تُستنزف فيها الأجساد، وتُكسر فيها الإرادات، تمهيداً للترحيل النهائي نحو معسكرات الإبادة.

ولم تكن هذه العزلة مجرد نتيجة عسكرية أو عَرَضاً من أعراض الحرب، بل كانت جزءاً من رؤية أيديولوجية ترى في الإنسان اليهودي "عنصراً فائضاً"، خارج التصنيف الاجتماعي، وترى في المسألة اليهودية" حلاً واحداً فقط: الحذف. 

لذلك لم يكن العزل لأجل التنظيم، بل لأجل التفكيك، ولم يكن الهدف من "الإدارة" سوى تقنين الفناء.

رفح كغيتو حديث: البشرية تستعيد "حسها الإنساني المرهف"

مشروع "مدينة رفح الإنسانية"، كما تصفه الحكومة الإسرائيلية، يبدو في مظهره مبادرة خلاص: منطقة مؤقتة، منظمة، مُراقبة، يُنقل إليها المدنيون الفلسطينيون لتلقي المعونة والخروج من دائرة النيران. لكنها، في تفاصيلها اليومية، تحمل ملامح الغيتو النازي أكثر مما تشبه أي مخيم إغاثة إنساني تقليدي.

فالسكان فيها يُمنعون من الخروج، وتُراقب تحركاتهم بدقة، وتُوزّع عليهم المساعدات وفق شروط وضوابط أمنية مشددة، ولا يُسمح بدخولها إلا لمن "تتحقق فيه الشروط". المدينة محاطة بجدار من الدمار، ولا تملك بوابة تؤدي إلى أي مستقبل سياسي، بل تبدو كفضاء انتقالي مفتوح المدى، بلا سقف زمني ولا ضمانات. لا عودة إلى المناطق الأصلية، ولا خطة لإعادة الإعمار، ولا تعهّد قانونياً بحماية الحقوق.

هي مساحة خالية من الأمل، لكنها مملوءة بالتنظيم، وهذا ما يجعلها خطيرة. فهي لا تُبنى في لحظة هستيريا عسكرية، بل تُصاغ بيد بيروقراطية، محمية بخطاب إنساني، تُدار كما لو كانت مشروعاً لوجستياً لا بشرياً. وهذا بالضبط ما يجعل التشابه مع الغيتوهات النازية مرعباً: استخدام مفردات الرعاية لإخفاء سياسات الإقصاء، وتحويل الضحايا إلى ملف إداري يمكن ترحيله، محاصرته، أو حتى نسيانه.

الفرق الوحيد، ربما، أن الغيتو هذه المرة ليس موجهاً ضد اليهود، بل يُنفّذ باسمهم، باسم التجربة التاريخية التي كان يُفترض أن تُلهم حسّاً أعلى بالعدالة، لا أن تُعاد كمخطط استيطاني جديد مغطّى بطلاء الرحمة.

الدولة الحديثة: بين الترحيل والإبادة

حين تأمّل زيجمونت باومن في أهوال المحرقة، لم يَرَها انحرافاً عن العقلانية الحديثة، بل نتاجاً لها. فالدولة الحديثة، كما كتب في "الحداثة والهولوكوست"، لا تقتل بدافع الوحشية المنفلتة بل باسم التخطيط، لا بدافع الغضب بل من منطلق "إدارة الأزمات". تتحوّل الضحية إلى رقم، والمجزرة إلى ملف، والموت إلى عملية تشغيلية تُنجز على مراحل.

في السياق نفسه، يرى عبد الوهاب المسيري أن الإبادة ليست بالضرورة فعلاً دموياً مباشراً، بل قد تبدأ بلحظة "نزع إنسانية"؛ حين يُعرَّف شعب بأكمله كفائض عن الحاجة، كعقبة في طريق النظام، ككتلة قابلة للإزاحة لا للحوار. ومن هنا، فإن الغيتو ليس فقط مساحة مادية، بل تعبير عن خيار سياسي: أن نضع جماعة بشرية بين قوسين، مؤقتاً… إلى أجل غير مسمّى.

"مدينة رفح الإنسانية" لا تُعلن عن الإبادة، ولا تنفّذ ترحيلاً شاملاً، لكنها تُقيم في المنطقة الرمادية بين الاثنين: ترحيل من دون وجهة، عزل من دون توقيت، إغاثة مشروطة ببقاء الضحية في القفص. إنها لا تقتل الجسد مباشرة، لكنها تكسر الروح، وتُفرغ فكرة "الوطن" من معناها، وتحصر الإنسان في هوية المُحتاج المراقَب، الذي لا يُسأل عن مستقبله بل عن رقمه في طابور الخبز.

وهكذا تُعيد الدولة الحديثة إنتاج المأساة، لكن بآليات أنظف، وبمصطلحات أشد خضوعاً للشرعية الدولية. فالمجزرة لم تعد قصفاً فقط، بل إدارة...، لم تعد ناراً فقط، بل نظاماً.

لطالما زعمت "إسرائيل" أن الغيتو كان جرحها المفتوح، وأنها وُلدت من رماده لتمنع تكراره، ولِدت على أرض محروقة وأشلاء متناثرة لمنع تكرار الإبادة، في زمن "الذكاء الاصطناعي"، وعلوم النانو، نجد أنفسنا مضطرين لبذل الكثير من الجهد لإقناع "العالم" بعبثية وسخرية المقولة الإسرائيلية، وبأنها "دولة" قامت على التهجير والإبادة لمنع العالم من تكرار تجربة التهجير والإبادة.

 وفي آخر تجارب استنساخ النازية في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ما تغيّر اليوم ليس المنطق، بل الشكل: أسوار الغيتو لم تعد من حجارة، بل من كاميرات ومسح بيومتري. جدرانه لم تعد مرسومة بخط اليد، بل مرسومة على الخرائط بدقة الطائرات المسيّرة.

والقائمون عليه لا يصرخون بالأوامر، بل يوقّعون على تصاريح "دخول مساعدات إنسانية".

من رفح إلى وارسو، ليس الزمن وحده ما تغيّر، بل اللغة أيضاً.

فما كان يُسمّى "عزلاً" صار يُدعى "مأوى"، وما كان "ترحيلاً" صار "ممراً إنسانياً"، وما كان "غيتو" صار "مدينة إنسانية".

لكن الروح تعرف، والذاكرة تعرف، والوجوه الهاربة من القصف تعرف أن لا مدينة تُبنى فوق الركام باسم الشفقة.