"إسرائيل" ونقطة الذروة: تقدير موقف استراتيجي شامل

الصراع المستمر على جبهات متعددة يجعل استمرار التفوق الإسرائيلي محفوفاً بالمخاطر. فكيف يكون ذلك بداية نهاية حقبة الهيمنة الإسرائيلية؟

  • دبابة لـ
    دبابة لـ"جيش" الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة

يصف كارل فون كلاوزفيتز في كتابه الشهير عن الحرب لحظة "نقطة الذروة" بأنها: "النقطة التي عندها يفقد المهاجم قدرته على التقدم، ويتحول من المبادرة إلى الدفاع، ويصبح استمراره في الهجوم أكثر خطورة من التوقف".

هذه اللحظة تعكس ذروة القوة العسكرية للدولة، لكنها في الوقت نفسه تكشف حدود إمكانياتها، بحيث يتحول التفوق إلى عبء. "إسرائيل" اليوم تبدو على حافة هذه النقطة الحرجة، حيث بلغت قدراتها العسكرية والاستخباراتية ذروتها، لكنها تواجه استنزافاً مستمراً على المستويات البشرية والاقتصادية والسياسية، ما يهدد تماسكها الداخلي ويضعف قدرتها على المناورة.

الصراع المستمر على جبهات متعددة يجعل استمرار التفوق الإسرائيلي محفوفاً بالمخاطر، فيما خصومها يزدادون تنظيماً وقوة، ويعملون وفق استراتيجية محكمة لإيصال "إسرائيل" إلى هذه اللحظة الفاصلة.

خلال السنوات الأخيرة، لم تكن المواجهات الإسرائيلية مع جبهات المقاومة مجرد أحداث عشوائية، بل جزءاً من خطة استراتيجية متكاملة لإرغام "إسرائيل" على استنزاف مواردها وصولاً إلى نقطة الذروة.

في اليمن والبحر الأحمر، طوّر اليمنيون قدراتهم الصاروخية والطائرات المسيّرة بعيدة المدى، مستهدفين خطوط الإمداد والملاحة البحرية المرتبطة بـ"إسرائيل"، ما أجبرها على تخصيص موارد هائلة لحماية الملاحة التجارية الحيوية، وأضعف تركيزها العسكري على جبهات أخرى.

في لبنان، أثبتت حرب الاستنزاف الطويلة والمواجهة المفتوحة لمدة 66 يوماً قدرة حزب الله على الصمود وإعادة بناء منظومته بسرعة، بينما استنزفت "إسرائيل" قدراتها العسكرية والاستراتيجية دون تحقيق أهدافها الكبرى.

المواجهة القصيرة مع إيران التي امتدت 12 يوماً كشفت هشاشة منظومة الدفاع الإسرائيلية وأظهرت محدودية قدرتها على تعطيل البرنامج النووي الإيراني أو قلب النظام، فيما استفادت إيران من كشف الثغرات لتعزيز ترسانتها الصاروخية والدفاعية.

الجبهة السورية استنزفت "إسرائيل" باستمرار، وسط نظام هش قادر على خلق جبهات غير متوقعة، بينما التوتر غير المباشر مع تركيا يضيف بُعداً دبلوماسياً وسياسياً يزيد من ضغط الحصار على "إسرائيل" ويحد من قدرتها على تحريك تحالفاتها الإقليمية.

غزّة تمثل الاختبار الأكبر لاستراتيجية الاستنزاف. رغم التفوق الإسرائيلي الناري والاستخباراتي، تظل المقاومة متماسكة وقادرة على إيقاع خسائر بشرية فادحة  بالقوات الإسرائيلية المتوغلة في القطاع، ما يفرض استنزافاً مستمراً للموارد البشرية والمالية الإسرائيلية.

الحدث المفصلي كان قصف "إسرائيل" لقطر، خطوة غير مسبوقة هدفت إلى توجيه رسالة ردعية إقليمية، لكن النتيجة كانت عكسية. أثارت العملية إدانات دولية واسعة، وزادت من عزلة "إسرائيل" السياسية، وأجبرت حلفاءها الغربيين على الدفاع عنها في ظروف صعبة أمام الرأي العام العالمي.

تأثير الاستنزاف على الردع الإسرائيلي أصبح واضحاً بشكل متزايد. فمع تآكل القدرة على الاستجابة الفورية للتهديدات، وارتفاع كلفة كل عملية عسكرية، أصبح الحفاظ على صورة الردع التقليدية صعباً.

الضغط النفسي على "الجيش" والمجتمع الإسرائيلي يزداد، ما يقلل من المصداقية الاستراتيجية لـ"إسرائيل" أمام خصومها الإقليميين، ويزيد شعورهم بالجرأة على اختبار حدود قوتها.

كل مواجهة، مهما كانت محدودة، تعمل على إعادة تشكيل التوازن النفسي والاستراتيجي، بحيث تتحول "إسرائيل" من القوة الهجومية المطلقة إلى التعامل مع التهديدات بتقدير شديد للمخاطر، ما يضعف قدرتها على المبادرة ويقربها أكثر من نقطة الذروة التي تحدث عنها كلاوزفيتز.

ما يحدث على الأرض ليس مجرد سلسلة مواجهات عشوائية، بل خطة استراتيجية متكاملة تشمل عدة أبعاد متوازية. على الصعيد العسكري، يتم توجيه الضربات بدقة إلى العمق الإسرائيلي والجبهات الرئيسية والثانوية لإبقاء "إسرائيل" في حالة تأهب دائم.

على الصعيد الاقتصادي، يتم استهداف خطوط الإمداد والملاحة البحرية لزيادة تكلفة العمليات العسكرية، وإجبار "إسرائيل" على إعادة توزيع مواردها بشكل يقلل مرونتها.

على الصعيد النفسي والمعنوي، تُستغل نتائج العمليات لإظهار قدرة المقاومة على الصمود، وزيادة الضغط على الجنود والإدارة السياسية.

أما على الصعيد الإعلامي والدبلوماسي، فتكشف الحملات عن الفظائع الإسرائيلية، مما يزيد من عزلة تل أبيب ويضعف شرعيتها الدولية.

من منظور مركز الثقل الاستراتيجي، يمكن القول إن محور المقاومة يخلق بيئة إقليمية تجعل "إسرائيل" عاجزة عن الاستفادة من تفوقها الناري بشكل كامل.

كل جبهة تعمل على استنزاف جانب محدد من قدراتها، بينما يتم الحفاظ على توازن القوة لمواجهة أي مفاجأة استراتيجية.

هذا النهج يعكس فهماً عميقاً لطبيعة الحرب الحديثة كما أشار كلاوزفيتز، حيث لا تكفي القوة العسكرية وحدها لضمان التفوق، بل يجب استغلال الموارد بشكل متكامل لإجبار الخصم على الانزلاق نحو نقطة الذروة، حيث يصبح الهجوم المستمر أخطر من التوقف.

الصورة النهائية تشير إلى أن "إسرائيل" تقف على أعتاب نقطة ذروة استراتيجية حاسمة. قدراتها الهجومية بلغت أقصى حد، لكن الضغوط الداخلية والخارجية تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي، فيما خصومها يزدادون قوة وتنظيماً، مستفيدين من كل مواجهة لتطوير قدراتهم.

ما كان يُعتبر سيناريو بعيد الاحتمال أصبح اليوم احتمالاً واقعياً: انهيار قدرة "إسرائيل" على الردع، وربما تآكل مشروعها كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط.

هذه اللحظة قد تمثل بداية نهاية حقبة الهيمنة الإسرائيلية وبزوغ مرحلة جديدة يعاد فيها رسم موازين القوة الإقليمية بشكل جذري، حيث تتحول جغرافيا الصراع وأدواته إلى عناصر حاسمة في تحديد مستقبل المنطقة.