ترامب و“إسرائيل”: هندسة الخراب في غرب آسيا تحت غطاء التحالف الأبدي
العلاقة المشبوهة بين واشنطن و "تل أبيب" لم تعد مجرد تحالف مصالح، بل تحولت إلى شراكة في صناعة الأزمات وتكريس الهيمنة، على حساب مستقبل وأمن شعوب المنطقة.
-
العلاقة بين الولايات المتحدة و“إسرائيل” نموذجاً لتحالف استثنائي يتجاوز المصالح التقليدية.
تُعد العلاقة بين الولايات المتحدة و“إسرائيل” نموذجاً لتحالف استثنائي يتجاوز المصالح التقليدية بين الدول، ويتحول إلى شراكة عميقة ذات أبعاد استراتيجية وسياسية وأمنية واقتصادية.
في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، تعمقت هذه العلاقة بشكل غير مسبوق، حيث اتخذت واشنطن خطوات جريئة لدعم “إسرائيل”، لم تقتصر على المواقف السياسية أو الدعم العسكري، بل شملت إعادة رسم خريطة المنطقة وتغيير قواعد اللعبة الإقليمية، بما يخدم المصالح الإسرائيلية أولاً وأخيراً، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار وأمن شعوب غرب آسيا.
منذ وصول ترامب إلى السلطة، اتسمت السياسة الأميركية تجاه “إسرائيل” بانحياز مطلق، تجلى في قرارات مصيرية مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بضم الجولان السوري المحتل، وتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي غير محدود لـ”إسرائيل” في المحافل الدولية. لم تكن هذه الخطوات مجرد رسائل رمزية، بل كانت تعبيراً عن رؤية استراتيجية تهدف إلى تثبيت “إسرائيل” كقوة إقليمية مهيمنة، وضمان تفوقها العسكري والسياسي، وإضعاف أي قوة إقليمية منافسة، سواء كانت إيران أم حتى بعض الدول العربية.
من أبرز تجليات هذا التحالف، الدعم الأميركي اللامحدود للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث وفرت واشنطن غطاءً سياسياً ودبلوماسياً لـ”إسرائيل”، ورفضت أي ضغوط دولية لوقف العمليات أو فرض تسوية لا تتوافق مع الرؤية الإسرائيلية. بل إن إدارة ترامب ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين ناقشت بشكل جدي خطة لترحيل ما يصل إلى مليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا بشكل دائم، في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير الجماعي، متجاهلة القانون الدولي وحقوق الإنسان ومصير ملايين المدنيين.
في الملف الإيراني، تبنّت إدارة ترامب موقفاً متشدداً، حيث أعلن المبعوث الخاص للرئيس أن واشنطن لن تسمح لطهران بامتلاك حتى 1% من قدرتها على تخصيب اليورانيوم.
هذا التصعيد لم يكن فقط لمنع إيران من تطوير برنامجها النووي، بل كان يهدف أيضاً إلى عزلها إقليمياً ودولياً، وتقويض أي نفوذ لها في المنطقة، بما يخدم الأمن الإسرائيلي أولاً وأخيراً. وقد أوصت مراكز الدراسات الأميركية بزيادة الضغط على حلفاء إيران في أميركا اللاتينية، واستهداف المؤسسات الثقافية والدينية الإيرانية هناك، في إطار سياسة شاملة لاحتواء كل من يشكل تهديداً لمصالح “إسرائيل”.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد سعت إدارة ترامب إلى إعادة تشكيل التحالفات العربية، ودفع بعض الدول الخليجية إلى التطبيع مع “إسرائيل”، في إطار بناء نظام أمني إقليمي جديد يدمج “إسرائيل” تدريجياً في منظومة الأمن الإقليمي. هذه السياسة لم تراعِ المصالح العربية أو تطلعات الشعوب للحرية والعدالة، بل ركزت على ضمان تفوق “إسرائيل” وتثبيت دورها كحارس لمصالح واشنطن في المنطقة. وفي الوقت نفسه، مارست الإدارة ضغوطاً اقتصادية وسياسية على الدول التي تربطها علاقات وثيقة بإيران، ودعمت العقوبات والعزل كوسيلة لإضعاف أي قوة إقليمية قد تخلّ بتوازن القوى لمصلحة “إسرائيل”.
انعكست هذه السياسات بشكل مباشر على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في غرب آسيا. استمرار الدعم العسكري غير المحدود لـ”إسرائيل” أدى إلى تدمير البنية التحتية في غزة، وخلق أزمات إنسانية متفاقمة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانهيار الخدمات الأساسية. كما أن الحصار المفروض على القطاع، والذي تشارك واشنطن في شرعنته، أدى إلى تدهور غير مسبوق في الأوضاع المعيشية لملايين الفلسطينيين. وفي المقابل، أدت سياسات العقوبات والعزل إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في دول أخرى مثل سوريا ولبنان والعراق، وزادت من حدة النزاعات الطائفية والمذهبية، وخلقت بيئة خصبة للتطرف والعنف.
سياسياً، أضعفت إدارة ترامب فرص التسوية الشاملة، وعمّقت الانقسام العربي، ودعمت سياسات “إسرائيل” في فرض الأمر الواقع بالقوة، سواء عبر العمليات العسكرية أم عبر مشاريع التهجير والتغيير الديموغرافي. كما سعت إلى تهميش أي مبادرات للحوار أو التسوية العادلة، وأبقت المنطقة رهينة لصراعات مفتوحة وتوترات مستمرة، بينما ظلت واشنطن تفرض رؤيتها للحلول، متجاهلة تطلعات شعوب المنطقة للحرية والتنمية.
ومن أبرز مظاهر السياسة الأميركية الإسرائيلية في عهد ترامب، موضوع التطبيع العربي مع “إسرائيل”. فعلى الرغم من أن “إسرائيل” لم تكن بحاجة حقيقية لهذا التطبيع من الناحية الاستراتيجية أو الاقتصادية، إلا أن الإدارة الأميركية دفعت بقوة في هذا الاتجاه، واعتبرته إنجازاً سياسياً كبيراً. لكن الواقع يكشف أن “إسرائيل” استخدمت التطبيع كأداة لتعميق الانقسام العربي، وإضعاف الجبهة الرافضة لسياساتها، من دون أن تقدم أي تنازلات حقيقية في ملف السلام أو الحقوق الفلسطينية. بل إن “إسرائيل” أبقت ملف التطبيع في حالة "فتنة وتهدئة" في آن معاً؛ فهي تستثمر في حالة التوتر والانقسام بين الدول العربية، وتستخدم ورقة التطبيع للضغط على الأطراف الإقليميين والدوليين، من دون أن تغير من سياساتها على الأرض.
لقد أظهرت التجربة أن “إسرائيل” لا ترى في التطبيع هدفاً نهائياً، بل ورقة تفاوضية وعنصر ضغط سياسي، تستخدمه لتأمين مصالحها وتكريس تفوقها، من دون أن تتحمل أي التزامات تجاه القضية الفلسطينية أو الاستقرار الإقليمي. بل إن بعض المسؤولين الإسرائيليين أشاروا صراحة إلى أن “إسرائيل” قادرة على إدارة علاقاتها الإقليمية من دون الحاجة إلى تطبيع شامل، وأنها تفضل إبقاء بعض الدول العربية في حالة انتظار أو توتر، لاستثمار ذلك في المفاوضات مع واشنطن أو في مواجهة الضغوط الدولية.
وفي هذا السياق، يمكن فهم الموقف الإسرائيلي من التطبيع على أنه جزء من استراتيجية "إدارة الفتنة والتهدئة" في المنطقة. فـ”إسرائيل” تدرك أن التطبيع الشامل قد يفقدها ورقة ضغط مهمة، وقد يدفع بعض الأطراف العرب إلى المطالبة بتنازلات حقيقية في ملف السلام. لذلك، تفضل تل أبيب إبقاء ملف التطبيع مفتوحاً، تستخدمه عند الحاجة لتهدئة الأوضاع أو لخلق حالة من الفتنة والانقسام بين الدول العربية، بحسب مقتضيات المصلحة الإسرائيلية.
أما الولايات المتحدة، فقد وجدت في مشروع التطبيع فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، وتقديم نفسها كوسيط قوي وقادر على تحقيق اختراقات سياسية، من دون أن تضطر للضغط الحقيقي على “إسرائيل” أو فرض حلول عادلة للصراع. بل إن واشنطن استخدمت ملف التطبيع لتقوية التحالفات الإقليمية التي تدمج “إسرائيل” في منظومة الأمن الإقليمي، وتضعف أي جبهة مقاومة أو مشروع استقلالي في المنطقة.
في ضوء هذه السياسات، يتضح أن الولايات المتحدة، وتحديداً إدارة ترامب، تتحمل مسؤولية كبيرة عن تدهور الأوضاع في غرب آسيا، سواء من حيث استمرار الصراعات، أم تفاقم الأزمات الإنسانية، أو تعطيل التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذا النهج لم يحقق الاستقرار المنشود، بل أدى إلى مزيد من الفوضى والاضطراب، وأضعف فرص السلام العادل والشامل، وجعل المنطقة بيئة خصبة للتوترات والعنف، في ظل غياب العدالة وتكافؤ الفرص بين شعوبها.
وفي المحصلة، فإن العلاقة المشبوهة بين واشنطن و "تل أبيب" لم تعد مجرد تحالف مصالح، بل تحولت إلى شراكة في صناعة الأزمات وتكريس الهيمنة، على حساب مستقبل وأمن شعوب المنطقة. لقد أصبح التطبيع أداة لإدارة الفتنة والتهدئة، لا هدفاً لتحقيق السلام، بينما تظل الولايات المتحدة الضامن الأول لاستمرار “إسرائيل” في سياساتها، من دون رادع أو مساءلة حقيقية. ومع استمرار هذا النهج، ستبقى المنطقة رهينة لصراعات مفتوحة، وتوترات مستمرة، وأزمات إنسانية متفاقمة، في ظل غياب الأفق لأي حل عادل أو شامل.