رئاسة الجمهورية اللبنانية.. مسار تاريخي من التأسيس إلى التحديات المعاصرة

رئاسة الجمهورية اللبنانية كانت ولا تزال تمثل حجر الزاوية في النظام السياسي اللبناني. على الرغم من التحديات التي واجهتها منذ التأسيس، تبقى هذه الرئاسة محورية في تحديد ملامح السياسة اللبنانية.

  • تأسيس دولة لبنان الكبير ورئاسة الجمهورية.
    تأسيس دولة لبنان الكبير ورئاسة الجمهورية.

منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في عام 1920، شهدت رئاسة الجمهورية اللبنانية تطورات هامة تعكس تطور النظام السياسي اللبناني وظروفه الإقليمية والدولية.

لعبت رئاسة الجمهورية دوراً محورياً في توجيه البلاد وسط التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، ولطالما شكلت رأس الجسم الذي يضم في داخله جميع شرائح المجتمع وأطيافه المتعايشة مع بعضها تحت مظلة الوطن النهائي لجميع أبنائه وبنيه.

تأسيس دولة لبنان الكبير ورئاسة الجمهورية

تأسست دولة لبنان الكبير في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1920، بعد أن قرر الانتداب الفرنسي إنشاء دولة جديدة تضم المناطق اللبنانية الحالية. وقد أُعلن عن الاستقلال اللبناني من الانتداب الفرنسي عام 1943 بعد تشكيل حركات وطنية اعتراضية من جميع شرائح المجتمع اللبناني، و كان أبرزها المقاومة المسلحة التي قادها سياسياً السيد عبد الحسين شرف الدين وعسكرياً أدهم خنجر وصادق حمزة و مجموعة من أبناء الوطن الذين بذلوا حياتهم من أجل استقلال لبنان، وبعد إعلان الاستقلال تم الاتفاق على إنشاء النظام الطائفي الذي يوزّع المناصب السياسية بين الطوائف الرئيسية.

منذ ذلك الحين، أصبحت رئاسة الجمهورية اللبنانية عرفاً مقعداً للطائفة المسيحية - من أبناء المذهب الماروني، وتم تثبيته في اتفاق الطائف الذي تم التوصل إليه بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وهو اتفاق ينص على أن يكون رئيس الجمهورية من المسيحيين الموارنة، بينما يكون رئيس الحكومة من المسلمين السنة ورئيس البرلمان من المسلمين الشيعة.

رؤساء الجمهورية اللبنانية منذ التأسيس

1. أول رئيس جمهورية لبناني: شارل دباس (1926 - 1934)

- الظروف السياسية: تم انتخاب شارل دباس أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد إعلان دولة لبنان الكبير. كانت تلك فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، حيث كان رئيس الجمهورية يتم اختياره بموافقة السلطات الفرنسية.

- الاقتراع: لم يكن هناك اقتراع عام مباشر، بل تم انتخابه من قبل المجلس النيابي الذي كان تحت تأثير الانتداب الفرنسي.

2. إميل إده (1936 - 1941)

- الظروف السياسية: تولى إميل إده رئاسة الجمهورية في فترة صعبة حيث كان لبنان تحت تأثير الانتداب الفرنسي، وتزامنت ولايته مع بداية الحرب العالمية الثانية.

- الانتخاب: تم انتخابه من قبل المجلس النيابي اللبناني، وكان من الشخصيات التي دعمت الاستقلال اللبناني.

3. بشارة الخوري (1943 - 1952)

- الظروف السياسية: كان بشارة الخوري أول رئيس منتخب بعد الاستقلال اللبناني. ساهم في تعزيز سيادة لبنان بعد الحرب العالمية الثانية.

- الانتخاب: تم تنصيبه إثر انتخابات ديمقراطية بعد الاستقلال، وكان من أبرز الشخصيات التي ساهمت في بناء النظام السياسي اللبناني الجديد.

- الكتل النيابية: حصل على دعم من الحزب الوطني الحر والكتل المسيحية.

4. كميل شمعون (1952 - 1958)

- الظروف السياسية: تولى كميل شمعون رئاسة الجمهورية في فترة كانت تشهد توترات إقليمية ودولية بسبب الحرب الباردة. لم تكن ولايته خالية من التحديات، حيث شهد لبنان في عام 1958 أزمة سياسية وأمنية أدت إلى التمرد العسكري.

- الانتخاب: تم انتخابه في انتخابات ديمقراطية، وكان قد حصل على دعم من الكتل السياسية المسيحية وبعض القوى السياسية الأخرى.

5. فؤاد شهاب (1958 - 1964)

- الظروف السياسية: تولى فؤاد شهاب الرئاسة في فترة صعبة، حيث كانت المنطقة في حالة من عدم الاستقرار بسبب التوترات الإقليمية.

- الانتخاب: تم انتخابه بعد أزمة 1958 التي أدت إلى تدخل الجيش اللبناني في السياسة. كان له دعم من القوى السياسية الكبرى في لبنان.

6. شارل حلو (1964 - 1970)

- الظروف السياسية: كانت فترة حكم شارل حلو فترة هادئة نسبياً، حيث بدأ لبنان يتمتع بمرحلة من الاستقرار النسبي.

- الانتخاب: تم انتخابه بعد اتفاق سياسي بين مختلف القوى اللبنانية.

7. سليمان فرنجية (1970 - 1976)

- الظروف السياسية: تولى سليمان فرنجية رئاسة الجمهورية في بداية تصاعد التوترات السياسية في لبنان التي أدت إلى الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.

- الانتخاب: تم انتخابه في جو سياسي معقد، حيث حصل على دعم من الكتلة السياسية المارونية وبعض القوى السياسية الشيعية.

8. إلياس سركيس (1976 - 1982)

- الظروف السياسية: كانت فترة حكمه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تمتع منصب الرئاسة بسلطة محدودة نتيجة الانقسام السياسي.

- الانتخاب: كان انتخابه في أجواء من التوتر السياسي، وقد شارك في التفاوض على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية.

9. بشير الجميل (1982-1982)

- الظروف السياسية: تولى بشير الجميل رئاسة الجمهورية في عام 1982 في ظروف استثنائية للغاية. كان لبنان آنذاك غارقاً في الحرب الأهلية التي امتدت من 1975 إلى 1990، وكان البلد يعاني من انقسامات عميقة بين القوى السياسية والطائفية. في ظل هذه الظروف، تم انتخاب بشير الجميل بعد سلسلة من الضغوط الإقليمية والدولية، التي دعمت انتخابه خلال فترة وجودها العسكري في لبنان بعد اجتياح 1982. 

- عدد الأصوات التي نالها: تم انتخاب بشير الجميل في جلسة البرلمان اللبناني في 23 آب/أغسطس 1982، حيث حصل على 58 صوتاً من أصل 63 نائباً حضروا الجلسة. 

- الكتل النيابية التي دعمت انتخابه: دعم انتخاب بشير الجميل بشكل رئيسي من قبل الكتل المسيحية مثل حزب الكتائب و القوات اللبنانية، وقوى أخرى.

- الولاية: استمرت ولاية بشير الجميل لأيام قليلة فقط، حيث اغتيل في 14 أيلول/سبتمبر 1982، أي بعد 3 أسابيع فقط من انتخابه، في تفجير استهدفه في مركز حزب الكتائب بيروت. 

10. أمين الجميل (1982 - 1988)

- الظروف السياسية: بعد اغتيال بشير الجميل، تولى شقيقه أمين الجميل رئاسة الجمهورية في أيلول/سبتمبر 1982. كانت هذه الفترة مليئة بالتحديات السياسية والاقتصادية، حيث كان لبنان لا يزال غارقاً في الحرب الأهلية بوجود قوات سورية، و"جيش" الاحتلال الإسرائيلي. 

- عدد الأصوات التي نالها: في انتخابات 1982، حصل أمين الجميل على استمرار دعم الكتل النيابية المسيحية، وكان له تأييد من القوى التي كانت قد دعمت بشير الجميل، إضافة إلى بعض الكتل السياسية الأخرى التي وافقت على انتخابه في تلك الفترة.

- الولاية: استمرت ولاية أمين الجميل من 1982 حتى 1988. كانت فترة حكمه مليئة بالضغوط السياسية والأمنية، وانتهت ولايته في 1988 بعد انتهاء فترة ولايته القانونية من دون انتخاب رئيس جديد بسبب الفراغ الرئاسي.

11. رينيه معوض (1989 - 1989)

- الظروف السياسية: تولى رينيه معوض رئاسة الجمهورية في 1989 في ظروف كان فيها لبنان يمر بمرحلة صعبة للغاية، بعد فترة طويلة من الفراغ الرئاسي. جاء انتخابه في وقت كانت الحرب الأهلية اللبنانية في ذروتها، وكانت عملية اتفاق الطائف على وشك التوصل إلى نتائج. 

- عدد الأصوات التي نالها: في انتخابات 1989، حصل رينيه معوض على 58 صوتاً من أصل 64 صوتاً، في البرلمان اللبناني بعد اتفاق الطائف. 

- الكتل النيابية التي دعمت انتخابه: حصل معوض على دعم من الكتل السياسية اللبنانية التي كانت تسعى لإنهاء الحرب الأهلية، وكان له تأييد من الكتل المسيحية والكتل الإسلامية المتوافقة مع اتفاق الطائف. 

- الولاية: تولى رينيه معوض رئاسة الجمهورية في وقت كان لبنان يمر بمرحلة انتقالية، حيث كان قد تم التوصل إلى اتفاق الطائف الذي كان يهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية وتوحيد لبنان. ومع ذلك، كانت ولايته قصيرة، حيث تم اغتياله في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، بعد أشهر قليلة من انتخابه، في تفجير استهدفه في بيروت.

12. إلياس الهراوي (1989 - 1998)

- الظروف السياسية: تولى إلياس الهراوي رئاسة الجمهورية في فترة حساسة بعد اتفاق الطائف (1989) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية في ظل وجود القوات السورية في لبنان ومشاركتها في صناعة السياسة اللبنانية تحت غطاء دولي بعدما دخلت كقوات ردع خلال الحرب الأهلية. 

- الانتخاب: تم انتخابه في جلسة انتخابية في عام 1989 بعد اتفاق الطائف، وكان انتخابه بمنزلة اتفاق بين مختلف القوى السياسية اللبنانية التي كانت قد شاركت في الحرب الأهلية. تمت الموافقة على انتخابه من قبل البرلمان اللبناني في ظل ظروف إقليمية ودولية دقيقة.

- الكتل النيابية التي دعمت انتخابه: في البداية، حصل إلياس الهراوي على دعم من الكتل السياسية الموالية لسوريا، بالإضافة إلى بعض القوى اللبنانية التي كانت قد شاركت في الحرب الأهلية. 

13. إميل لحود (1998 - 2007)

- الظروف السياسية: تولى إميل لحود رئاسة الجمهورية في فترة ما بعد الحرب الأهلية، حيث كانت القوى السياسية تسعى إلى إعادة بناء لبنان.

- الانتخاب: تم انتخابه في انتخابات نيابية حصلت تحت وصاية سياسية من سوريا في ذلك الوقت وتم التمديد له لثلاث سنوات.

- في عهده جرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

14. ميشال سليمان (2008 - 2014)

- الظروف السياسية: تولى ميشال سليمان رئاسة الجمهورية في فترة كانت لبنان يشهد فيها صراعات إقليمية، خاصة بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتزايد التوترات مع العدو الإسرائيلي بعد حرب تموز 2006.

- الانتخاب: تم انتخابه بعد فراغ رئاسي طويل، حيث تم التوصل إلى اتفاق الدوحة الذي أسفر عن انتخابه.

15. ميشال عون (2016 - 2022)

- الظروف السياسية: تولى ميشال عون رئاسة الجمهورية بعد فترة طويلة من الفراغ الرئاسي (عامين ونصف). كانت فترة حكمه مليئة بالتحديات الاقتصادية والسياسية، حيث انهارت العملة اللبنانية أمام الدولار الأميركي وحجزت المصارف أموال المودعين، وتوقف إنتاج الكهرباء وحصل انفجار كارثي في مرفأ بيروت وشهدت البلاد حراكاً ثورياً.

- الانتخاب: تم انتخابه في جلسة انتخابية استثنائية بعد توافق بين القوى السياسية الكبرى في لبنان، مع اعتراض كتلة رئيس البرلمان.

- الكتل النيابية: حصل على دعم من حزب الله والتيار الوطني الحر، المستقبل، القوات، والحزب القومي وحزب البعث، اعترضت انتخابه كتلة التنمية والتحرير وهي كتلة حركة أمل في البرلمان.

ظروف انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة 9 كانون الثاني/يناير 2025

بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، دخل لبنان في فراغ رئاسي استمر لأكثر من عامين. حتى بداية عام 2025، لم يتمكن البرلمان اللبناني من انتخاب رئيس جديد بسبب الانقسامات السياسية الحادة بين الكتل النيابية المختلفة، مع العلم أن رئيس البرلمان نبيه بري نادى جميع الكتل اللبنانية لضرورة عقد حوار وطني للاتفاق على اسمين يجري انتخاب أحدهما في جلسة عامة، إلا أن الكتل المسيحية لم تستجب للطلب.

هذا بالرغم من أن الظروف السياسية في لبنان بعد انتهاء ولاية عون شهدت تأجيل جلسات انتخابية عديدة بسبب الانقسام بين القوى السياسية، وعدم التوافق بين الكتل المسيحية والكتل الإسلامية حول اسم المرشح المناسب. ذلك بالإضافة إلى الضغوط الدولية التي تطالب بتسريع انتخاب رئيس للجمهورية من أجل استعادة الاستقرار السياسي في لبنان.

ينتظر لبنان في جلسة 9 كانون الثاني/يناير 2025، تحديات كبيرة في الوصول إلى انتخاب رئيس جديد بسبب:

- الانقسامات بين الكتل النيابية التي لم تتمكن بعد من التوصل إلى توافق حول مرشح واحد.

- الضغوط الاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان، ما يجعل من الضروري انتخاب رئيس يستطيع تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية.

- الإشراف على تطبيق القرار الدولي 1701.

- تنفيذ عملية إعادة إعمار المناطق والقرى المهدمة من جراء العدوان الإسرائيلي الأخير.

- تشكيل حكومة جديدة من خلال الدعوة إلى استشارات نيابية تؤدي إلى تسمية أول رئيس لحكومة العهد الجديد.

إن رئاسة الجمهورية اللبنانية كانت ولا تزال تمثل حجر الزاوية في النظام السياسي اللبناني. على الرغم من التحديات التي واجهتها منذ التأسيس، تبقى هذه الرئاسة محورية في تحديد ملامح السياسة اللبنانية. الظروف السياسية التي مر بها لبنان بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون تعكس التحديات المستمرة في إيجاد توافق سياسي بين القوى المختلفة.

ومع اقتراب جلسة انتخاب الرئيس في 9 كانون الثاني/يناير 2025، فإن لبنان يحتاج إلى رئيس قادر على إعادة الاستقرار السياسي و مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تهدد مصير البلاد.