ماذا يعني تعيين "الكابتن إيلا" خلفاً لـ "أدرعي" في سردية العدو الإسرائيلي؟
نهاية حقبة أدرعي تثير علامات استفهام كبيرة في العالم العربي حول مدى نجاح مفهوم "الدعاية الذكية" ضدّ الشعوب؟ وإلى أيّ مدى نجحت في اختراق الوعي العربي؟
بعد ما يقرب من عشرين عاماً في صفوف المتحدّثين باسم "جيش" الاحتلال في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية قد يغادر أفيخاي أدرعي منصبه الذي كان أكثر من مجرّد نهاية خدمة عسكرية؛ بل هو فصل من فصول الحــرب الاستراتيجية المعنوية التي خاضها الاحتلال ضدّ الوعي العربي طوال سنوات، كأداة كبرى في تفعيل آلات الدعاية النفسية الإسرائيلية، وخلال عقدين من الزمن بنى رمزية إعلامية استطاعت اختراق بعض الحواجز اللغوية والثقافية بين خطاب الاحتلال وجمهور العرب، إذ تعلّم اللغة العربية بخبرة عميقة واستخدم كلمة مثل "إخلاء الآن" لإصدار تحذيرات قبل الضربات، وهو ما أسماه البعض بتهديدات "الموت" وقد يَسِمُها بدبلوماسيّة ظاهرة، لكن جوهرها مُسوغ للعمل العسكري وتطبيع لفكر العدوان في التغلّب على الضحية من خلال لغة إنسانية مزعومة مضمرة بالإبادة والوحشية والقسوة والاحتلال.
إنّ المسار المهني لأدرعي بدأ في وحدة الاستخبارات 8200 وهو ما يمنحه خلفيّة معلوماتية عميقة، ثم انضمّ إلى وحدة المتحدّث باسم "الجيش" عام 2005، وهذه الخبرة سمحت له بأن يصيغ خطاباً موجّهاً إلى العالم العربي، ليس كعدو مباشر بل كموجّه ذكيّ للرسالة الإعلامية الاستراتيجية، وقد وظّف في ذلك مزيجاً من التهديدات والتطمينات والإشارات الدينية بحيث يبدو أنّ ما يقوله من "تحذيرات" هو من أجل حماية المدنيين، لكنه في الوقت نفسه يستغلّه كغطاء لمهمات وأجندات عسكرية.
جمع أدرعي من خلال منصاته الاجتماعية مئات الآلاف من المتابعين من خلال (أكس وإنستغرام وتيك توك) واستثمرها في إعادة هندسة نوع من "الحرب الناعمة" التي تمزج بين البنية الدينية والثقافية والسياسية، فخطابه لم يكن تقليدياً عسكرياً فقط؛ بل كان يتضمّن أحياناً إشارات إلى نصوص دينية مما يسهّل عليه شرعنة ما يقوله في أذهان بعض الجمهور العربي كذريعة لعمليات الإبادة والتهجير والضربات المكثّفة، فضلاً عن أنّ هذا الشكل من الخطاب كان جزءاً من استراتيجية إعلامية عملياتيّة، لكنها ليست نفوذاً أو اختراقاً وحسب.
فعلى الرغم من أنّ بعض الرسائل وصلت لملايين، فإنّ السواد الأكبر من الجمهور العربي لم يغفل ترويجاته، فبعض متابعيه وحتى خصومه يعدّونه رمزاً لإثارة الاحتقان والخصومة، ومثالاً لسردية الكذب والخداع، ولم يكن خطابه مقبولاً ليس فقط لأنه لم يكن حيادياً؛ بل لأنه يحمل توجّهاً عدائياً واضحاً وفي بعض الحالات تحوّل إلى أداة تهديد وترهيب للإنسان وجغرافيّته.
الاسم المطروح كخليفة لأدرعي هو "الكابتن إيلا" وهي ضابطة عربية مسلمة داخل وحدة الإعلام العربي في "الجيش" الإسرائيلي الذي يقدّم وجهاً احتلالياً "منفتحاً" من الناحية البصرية والثقافية، لكن من الناحية الاستراتيجية رسالتها ستبقى مرتبطة بتبرير القتل والانتهاكات مهما اختلفت خلفيّتها أو لغة الخطاب، فالوظيفة الإعلامية التي ستتولّاها "إيلا واوية" ليست مجرّد وظيفة علاقات عامّة ووجه دعائي؛ بل هي جزء من منصة الضغط النفسي والرسالة الاستراتيجية التي تصوغها المؤسسة العسكرية من خلال "#السردية" نفسها ولكن من المنظور الأمني والاستراتيجي الذي تمّت إعادة هيكليته بعد الخسارات المتلاحقة للكيان في ملفاته التوسّعية، وقد يكون جزءاً من تطوّرها لكنه ليس خروجاً من اللعبة الإعلامية بوجه جديد أكثر تأثيراً واستمالة.
ومن هنا فإنّ نهاية حقبة أدرعي تثير علامات استفهام كبيرة في العالم العربي حول مدى نجاح مفهوم "الدعاية الذكية" ضدّ الشعوب؟، وإلى أيّ مدى نجحت في اختراق الوعي العربي؟، وهل تراجعه يعني فشلاً في مشروع الاستمالة الإعلامية؟ أو أنه مجرّد إعادة تغليف للأيديولوجيا العسكرية بعد خسارة الحروب الصلبة مع محور المقاومة في (طوفان الأقصى ـــــ الفتح الموعود ـــــ أولي البأس ـــــ 12 يوماً).
خلاصة القول: إنّ رحيل أفيخاي أدرعي هو نهاية فصل مهمّ من الحرب الإعلامية النفسية التي خاضها "جيش" الاحتلال ضدّ العالم العربي واستخدم آلات متعدّدة لبثّ روايته، وبداية انتقال من الدعاية الناعمة إلى الاستراتيجية النفسية التي تعتمد على قوة الصورة والرمزية والمزارع الرقمية والذكية، من خلال رسائل قصيرة وسريعة الانتشار وصناعة محتوى مصوّر يستهدف "جيل زد" من خلال لغة دارجة لا تثير الجدل وتكون أكثر واقعيّة في المظهر، وهي محاولة لإعادة ترميم صورة "الجيش" الإسرائيلي بعد سلسلة من الهزائم والانتقادات العالمية، وأنها ستواصل المهمّة الاستراتيجية نفسها في تسطيح وتزييف الحقائق مما يدعو المتابع العربي إلى اليقظة أكثر من أيّ وقت مضى تجاه هذه الرسالة المركّبة التي تمزج بين الدعاية والتطبيع والذرائع والإبادة الجماعية في آنٍ واحد.
