إعادة إعمار غزة.. مسؤولية الدول الغربية

إلى جانب الجهد السياسي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، تأتي عملية إعادة إعمار القطاع كأولوية ملحّة وموازية، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار في ظل ركام المدن والبلدات التي دمّرتها آلة الحرب.

0:00
  •  إعمار غزة اختبار حقيقي لضمير العالم.
    إعمار غزة اختبار حقيقي لضمير العالم.

وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وفقاً للخطة الأميركية يجب ألا ينسينا أن ذلك تم بعد عامين من المجازر والجرائم، التي لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ أكثر من نصف قرن.

ومع أن وقف القصف بدا للوهلة الأولى خطوة نحو التهدئة، إلا أن الحراك الأميركي لم يأتِ لحقن دماء الفلسطينيين أو حماية من تبقى من المدنيين، بل لوقف الحصار السياسي والأخلاقي الذي بدأت تتعرض له "إسرائيل" عالمياً، وإنقاذ جيشها المنهك عسكرياً ونفسياً. فلو كان الهدف إنسانيّاً فعلاً، لما انتظرت إدارة ترامب عشرة أشهر منذ تسلمها مهامها بينما كانت الخسائر الفلسطينية تزيد عن 25 ألف شهيد، وهو الفرق بين الخسائر البشرية المسجلة نهاية العام 2024 وتلك المسجلة بداية شهر أكتوبر الحالي.

إن وقف الإبادة الجماعية التي ارتُكبت بحق المدنيين في القطاع يمثل الخطوة الأولى فقط، ويجب أن تتبعها خطوات لا تقل أهمية في ضوء ضخامة الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بالقطاع خلال العامين السابقين.

فإلى جانب الجهد السياسي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، تأتي عملية إعادة إعمار القطاع كأولوية ملحّة وموازية، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار أو سلام في ظل ركام المدن والبلدات التي دمّرتها آلة الحرب.

ورغم تجارب ما بعد النزاعات التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، فإن التجربة الفلسطينية تبدو أكثر تعقيداً، لأن الدول الغربية التي تتصدر مشهد "الدعم الإنساني" اعتادت التنصل من مسؤولياتها في إعادة الإعمار، والاكتفاء بالتصريحات والمساعدات الرمزية. غير أن الحالة الغزية تختلف، إذ إن هذه الدول تتحمل – وفق القانون الدولي – مسؤولية مباشرة وغير مباشرة عن الدمار، سواء بسبب مشاركتها في تسليح الجيش الإسرائيلي أو سكوتها الممنهج عن جرائمه. فالمسؤولية غير المباشرة، كما يعرّفها القانون الدولي، تشمل كل دولة تعلم بوقوع جرائم أو انتهاكات جسيمة وتقدم، رغم ذلك، الدعم المادي أو السياسي أو العسكري لمنفذيها. وبالتالي، فإن الدول التي واصلت خلال الحرب على غزة تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر وقطع الغيار والدعم اللوجستي، تتحمل جزءاً من المسؤولية الأخلاقية والقانونية عما جرى ويجري هناك.

وتتضاعف فداحة الموقف الغربي عند مراجعة ما نشره المكتب الإعلامي في غزة بمناسبة مرور عامين على بدء العدوان. فخلال كل ساعة من تلك الفترة، كان أكثر من أربعة مدنيين فلسطينيين يستشهدون بنيران الجيش الإسرائيلي، بينهم طفل واحد على الأقل. وكل ثلاثة أيام كانت الأسرة الصحفية في غزة تفقد أحد أفرادها في استهداف مباشر، محاولةً إسكات الصورة والكلمة. ومع تجاوز عدد الشهداء حاجز الستة والسبعين ألفاً، تكتمل أمامنا مأساة إنسانية تُظهر حجم الدمار الذي لحق بالقطاع المحاصر والمقطّع الأوصال.

هذه الأرقام الصادمة تكفي لتثبيت أحقية المطالبة بمحاسبة الدول التي أسهمت في الحرب، ليس فقط أخلاقياً، بل من خلال إلزامها بتعويض الضحايا والمشاركة في إعادة إعمار ما دمّرته الأسلحة الغربية. إذ تشير تقديرات أولية إلى أن كلفة الدمار تجاوزت 70 مليار دولار، تشمل البنية التحتية والسكن والقطاعات الإنتاجية والخدمية.

ويقدّر أن خسائر القطاع الإسكاني وحده تجاوزت 28 مليار دولار، في حين بلغت خسائر البلديات والخدمات الأساسية نحو 6 مليارات دولار، بينما وصلت قيمة الممتلكات الخاصة المنهوبة أو المدمّرة إلى أكثر من 4 مليارات دولار. هذه الأرقام تكشف أن تأمين مساكن بديلة للسكان وتوفير خدمات بلدية أولية سيحتاج إلى موازنات ضخمة لسنوات طويلة، قبل الحديث حتى عن إعادة تأهيل الزراعة أو الصناعة أو البنية التعليمية والصحية.

لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا: من هي الدول التي ستتحمل كلفة إعادة إعمار غزة فعلياً؟

من الواضح أن الولايات المتحدة لن تكون بينها، لأنها باتت تربط سياساتها الخارجية بالمصالح الاقتصادية المباشرة لا بالالتزامات الإنسانية.

أما أوروبا، التي تغرق في تداعيات الحرب الأوكرانية وتواجه صدمات اقتصادية متلاحقة، فلن تكون "سخية" هي الأخرى. والدليل هو تقليصها المستمر لمخصصات المساعدات الإنسانية في مناطق أخرى مثل سوريا والسودان، والاكتفاء بالدعم الرمزي أو الإعلامي. وبالتالي، من المرجح أن تتحول الأنظار مجدداً نحو الدول العربية النفطية لتتحمل العبء الأكبر من التمويل، رغم أن قرارها سيكون – كما في مرات سابقة – مرهوناً بالموقف الأمريكي من الإعمار ومن مستقبل حركة حماس في القطاع.

قد تقدّم بعض هذه الدول مساهمات مالية محدودة في إطار مبادرات إنسانية عامة أو عبر مؤسسات إغاثية، لكن من غير المتوقع أن تتبنى أيٌّ منها خطة شاملة طويلة الأمد ما لم تتوفر مظلة سياسية دولية تضمن الشفافية والنتائج. وهنا يبرز دور المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، في إدارة الأموال والإشراف على مراحل إعادة الإعمار بما يضمن عدم تحويلها إلى ورقة ضغط سياسية جديدة.

إنّ الخطة الأمريكية لإعادة الإعمار تبدو، حتى اللحظة، مجموعة وعود بلا ضمانات حقيقية. فالتجارب السابقة علمتنا أن التعهدات المالية التي تطلق في المؤتمرات الدولية غالباً ما تتبخر عند التطبيق، إما بسبب غياب الإرادة السياسية أو بفعل اشتراطات التمويل المعقدة. ولذا فإن أي حديث عن إعادة إعمار حقيقية يجب أن يُقرَن ببرنامج زمني واضح، وآلية تمويل شفافة، وموازنة تضمن استدامة المشاريع لا مجرد انطلاقها الرمزي.

إسرائيل لم تترك في القطاع مصدراً واحداً للدخل الوطني أو مورداً يمكن الاعتماد عليه، ما يجعل إعادة الإعمار تحدياً وجودياً لا مجرد عملية إنشائية. فالاقتصاد المحلي انهار بالكامل، والبطالة تجاوزت حدود الكارثة، والثروة الزراعية والصناعية أُبيدت عن بكرة أبيها. لذلك فإن أي محاولة لإعادة الإعمار يجب أن تنطلق من إعادة بناء الإنسان الغزي قبل الحجر، وتأهيل المجتمع ليستعيد القدرة على الحياة والإنتاج بعد سنوات من الموت والحصار.

ما سبق لا يعكس تشاؤماً بقدر ما يعكس واقعية سياسية مستندة إلى تجارب طويلة في طريقة تعاطي القوى الدولية مع مآسي الشعوب. فالتاريخ يقول إن العدالة لا تتحقق إلا حين تتحمل الدول الكبرى نصيبها من المسؤولية، لا حين تكتفي بإصدار البيانات والتعازي.

وحتى يحدث ذلك، سيبقى إعمار غزة اختباراً حقيقياً لضمير العالم، ولصدق ما يُرفع من شعارات عن الحرية والإنسانية وحقوق الإنسان.