الفلسطيني والسردية الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي
يشكّل صمود الفلسطينيين، وإبقاء قضية الاستقلال والحقوق الوطنية في صدارة الخطاب، أداة استراتيجية لموازنة النفوذ الإسرائيلي في الغرب.
-
الخطوة الفلسطينية الأساسية هي إعادة تعريف المقاومة في الخطاب الإعلامي الدولي.
منذ عقود طويلة، أدركت "إسرائيل" بذكاء موقعها في الوعي الغربي، وكيفيّة استثماره لصالح سرديّتها السياسية. فهي وعت تماماً عقدة الصورة النمطية التي يحملها الغرب تجاه الشرق بشكل عامّ وتجاه الإسلام بشكل خاصّ، تلك العقدة التي شرحها إدوارد سعيد باستفاضة في كتابه الاستشراق، حيث صوِّر الشرقي باعتباره متخلّفاً، بربرياً، أسيراً للظلام، في مقابل الغرب "المستنير" و"المتحضّر". هذه الثنائية ـــــ النور الغربي في مواجهة الظلام الشرقي ـــــ شكّلت أرضية خصبة للسياسة الدعائية الإسرائيلية التي لعبت على خوف الغرب من "المسلم الإرهابي"، وربطت المقاومة الفلسطينية بهذا القالب الجاهز.
لكنّ "إسرائيل" لم تكتفِ بذلك، بل دمجت هذه الصورة مع عقدة أوروبية أخرى أكثر حساسية: معاداة السامية. فالتاريخ الأوروبي حافل بصراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية مع اليهود، تكلّلت في القرن العشرين بالمحرقة النازية (الهولوكوست)، لتصبح معاداة السامية جرحاً غائراً في الذاكرة الجماعية الأوروبية. هنا وجدت "إسرائيل" فرصتها الاستراتيجية: أيّ عداء لسياساتها الاستعمارية أو لممارساتها في الأراضي المحتلة يتمّ تسويقه ليس كخلاف سياسي مشروع، بل كامتداد لمعاداة السامية التاريخية، وكتهديد مباشر لاستقرار "العقدة الأوروبية" تجاه اليهود.
وبذلك قامت الدبلوماسية الإسرائيلية على استراتيجية دمج ثلاث معادلات كبرى في وعي الرأي العامّ الغربي:
1. معاداة السامية ـــــ باعتبار أيّ نقد لـ "إسرائيل" امتداداً للكراهية التاريخية لليهود.
2. "الإرهاب الإسلامي" ـــــ تصوير حركات المقاومة الفلسطينية كجزء من منظومة جهادية عالمية تهدّد الغرب.
3. وجود "إسرائيل" ـــــ بوصفها خط الدفاع الأول عن الغرب في مواجهة هذا "الخطر الشرقي الإسلامي".
بهذا المنطق، لا يُنظر إلى الفلسطيني كمقاتل ضدّ احتلال أو كباحث عن حرية وطنية، بل يُختزل في صورة "إرهابي متعصّب" يكره اليهود. وهنا بالذات كما ذكر الكاتب الإسرائيلي "نير كيبنيس" في مقاله: "حتى الكوالا ترقص السامبا: الأخبار السيئة لدولة إسرائيل".
"وفّرت حماس ـــــ في الخطاب الإسرائيلي ـــــ مادة دعائية مثاليّة: فهي تنظيم ديني مسلّح، ما يجعل من السهل دمج النضال الوطني الفلسطيني مع الصورة النمطية التي يخشاها الغرب عن الإرهاب الديني. ولهذا لم يتردّد بعض قادة اليمين الإسرائيلي في وصف حماس بأنها "رصيد"، لأنّ وجودها يسهّل تسويق الرواية الإسرائيلية أكثر بكثير من التعامل مع قيادة مثل محمود عباس بربطة عنق وخطاب عن حلّ الدولتين.
لكنّ هذه السياسة ليست مرتبطة بحركة حماس، كما يطرح "كيبنيس" فمنذ سنوات طويلة تحاول "إسرائيل" وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وبالأخص ربطها بـ "الإرهاب الإسلامي". فعندما تزامنت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 مع ذروة انتفاضة الأقصى، عملت الدعاية الإسرائيلية على إلصاق تهمة "القاعدة" و"الإرهاب العالمي" بفصائل المقاومة الفلسطينية. وازدادت هذه الاستراتيجية وضوحاً بعد فوز حركة حماس في انتخابات 2006، التي شهد لها المجتمع الدولي بأنها كانت حرّة ونزيهة.
غير أنّ الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على غزة اعتُبرت في "إسرائيل" فرصة سياسية كبرى لتعزيز روايتها: أنّ المقاومة الفلسطينية ليست سوى حركات إرهابية إسلامية لا تختلف عن القاعدة أو لاحقاً "داعش". ولذا لم يكن غريباً أن يكون أوّل توصيف سياسي إسرائيلي لعملية السابع من أكتوبر أنها "أعمال داعشية"، وهو خطاب واصلت "إسرائيل" تكريسه إعلامياً وسياسياً في كلّ المحافل الدولية.
لكنّ هذه الخطة لم تنطلِ على العالم، إذ سرعان ما اصطدمت الرواية الإسرائيلية بمشاهد الحرب اليومية في غزة، وبحالة الإرهاب اليهودي الممنهج، وإرهاب "الدولة" الإسرائيلية، وبالوعي المتنامي في المجتمعات الغربية الذي بدأ يميّز بين مقاومة شعب يرزح تحت الاحتلال وبين جماعات الإرهاب العابر للحدود.
إلّا أنّ معادلة الدمج هذه التي بدت ناجحة نسبياً في الأيام الأولى لعملية السابع من أكتوبر، بدأت تتأكّل بفعل عاملين:
أولاً، المجازر المستمرة في غزة، التي جعلت الرأي العام العالمي يرى في "إسرائيل دولة" تمارس الإبادة الجماعية، لا مجرّد طرف في صراع.
ثانياً، إعادة التفريق بين معاداة السامية وانتقاد "إسرائيل"، وهو ما أخذ يتبلور في المواقف الرسمية والشعبية في الغرب. فدول مثل أستراليا وفرنسا والبرازيل باتت ترسم خطاً واضحاً: يمكن مواجهة الإرهاب الإسلامي ومعاداة اليهودية من جهة، وفي الوقت ذاته دعم حقّ الفلسطينيين في التحرّر الوطني.
ولم تعد السردية الإسرائيلية التقليدية، المبنية على هذا الدمج الثلاثي، قادرة على الهيمنة الكاملة على الرأي العامّ الغربي. ففي الجامعات، تصاعدت الاعتصامات الطلابية المطالِبة بسحب الاستثمارات من "إسرائيل" أو من الشركات المتعاونة معها، كما حدث في جامعة "براون" وجامعة "أونتاريو" الكندية، في حين تواجه جامعات أخرى مثل "كولومبيا" و"إدنبرة" جدلاً متصاعداً حول حدود تعريف معاداة السامية وحرية النقاش بشأن فلسطين. وفي قطاع التكنولوجيا، شهدت شركات كبرى مثل "مايكروسوفت" و"غوغل" احتجاجات واعتقالات موظفين رافضين لعقود التعاون مع "الجيش" الإسرائيلي.
أما على المستوى المالي، فقد اتخذ صندوق الثروة النرويجي (أكبر صندوق استثماري في العالم) قراراً ببيع حصصه في شركات أميركية وإسرائيلية مرتبطة بالانتهاكات في غزة، وهو تحوّل استراتيجي أثار نقاشاً سياسياً داخلياً واسعاً. وحتى منظمات حقوقية كبرى مثل العفو الدولية علّقت عمل فرعها في "إسرائيل" بسبب "العنصرية ضدّ الفلسطينيين"، ما يعكس إعادة تموضع عالمي في الموقف من "الدولة" العبرية.
هذه التطوّرات مجتمعة تكشف أنّ صورة "إسرائيل" في الغرب تنتقل تدريجياً من كونها "ضحية" و"خط دفاع" إلى كونها قوة استعمارية تمارس الإبادة، وهو تحوّل خطير يقوّض الأساس الذي بُنيت عليه دعاية "إسرائيل" لعقود.
مع تأكّل السردية الإسرائيلية التقليدية في الغرب، وعودة الحديث الدولي عن حلّ الدولتين وحملة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تواجه "إسرائيل" تحدياً دبلوماسياً ومعنوياً جديداً. فالمجتمع الدولي أصبح أكثر قدرة على التمييز بين معاداة السامية وانتقاد "إسرائيل"، وأدرك أنّ مقاومة الفلسطينيين ليست إرهاباً عالمياً، بل هي تعبير مشروع عن حقّهم في تقرير المصير.
في هذا السياق، تصبح الخطوة الفلسطينية الأساسية هي إعادة تعريف المقاومة في الخطاب السياسي والإعلامي الدولي، على أنها حركات تحرّر وطني تهدف إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. فكلّ خطاب فلسطيني يركّز على الهوية الوطنية والسياسية، بعيداً عن الحرب الدينية ومصطلحاتها، يضع "إسرائيل" أمام مأزق مزدوج: استمرار سياساتها الاستعمارية يصبح مرفوضاً أخلاقياً وقانونياً، بينما يزداد الضغط الدولي على قبول حلّ سياسي عادل.
وبذلك، يشكّل صمود الفلسطينيين، وإبقاء قضية الاستقلال والحقوق الوطنية في صدارة الخطاب، أداة استراتيجية لموازنة النفوذ الإسرائيلي في الغرب. فكلّ مرة ينجح المجتمع الدولي في الفصل بين المقاومة الوطنية وبين الإرهاب العابر للحدود، يتمّ تقويض الرؤية الإسرائيلية التي حاولت لسنوات ربط الفلسطينيين بالإرهاب الديني، ويصبح من الصعب عليها الحفاظ على السردية القديمة التي تربط الانتقاد لسياساتها الاحتلالية بمعاداة اليهود.
إنّ فهم هذا التحوّل، واستثماره الفلسطيني الصحيح، قد يجعل الخطاب الدولي الجديد أكثر إنصافاً ويعيد التوازن بين القوة الإسرائيلية والحقّ الفلسطيني، ويضع الأساس لمرحلة سياسية جديدة تكون فيها مقاومة الفلسطينيين حركة تحرّر وطني مشروع، وليس مجرّد تهديد أيديولوجي أو إرهابي للعالم الغربي.