سوريا و"إسرائيل".. أي اتفاق ينتظر السوريين؟
ينتظر السوريون نتائج الاجتماعات التي تعقد في نيويورك في مقبل الأيام، ويحاولون تتبع المصادر الغربية والإسرائيلية لمعرفة مصير الاتفاق الذي يعمل عليه بين سوريا و"إسرائيل"، وإن كان سيعيد لهم حقوقهم أم ينتج مزيداً من التفريط بالسيادة والأرض؟!
-
سوريا و"إسرائيل".. أي اتفاق ينتظر السوريين؟
لا شك في أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى "اتفاق أمني" بين حكومة أحمد الشرع في دمشق و"إسرائيل"، بحسب المعلن من التصريحات، وخصوصاً في ظل ضغط أميركي لإنجاز الأمر بالتزامن مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، التي يشارك فيها الشرع كأول رئيس سوري منذ 6 عقود، ويحكى عن إمكانية عقد لقاء بينه وبين بنيامين نتنياهو برعاية ترامب.
هذا الضغط الأميركي تقابله مسارعة من الشرع وحكومته للاستجابة، ما يؤشر على أهمية المفاوضات بالنسبة إليه، وهو الذي تذرع بأنه لم يرد على قصف "إسرائيل" للقصر الرئاسي وتدمير مبنى هيئة الأركان للحفاظ على هذه المفاوضات، التي تحقق له أهدافاً خفية تتجاوز حدود وقف الهجمات الإسرائيلية والتوغلات.
التسريبات الكثيرة حول تفاصيل التفاوض والتنازلات ترسم حدوداً فضفاضة بين ما تريده أميركا في سوريا والمصالح الإسرائيلية، والمصلحة الشخصية للرئيس الانتقالي السوري وزمرته الحاكمة، كما تكشف عن مسار تفاوضي بالغ الحساسية قد يغير وجه سوريا لعقود قادمة.
جديد هذه التسريبات هو الخريطة التي نشرت منذ أيام، والتي قيل إنها تشكل أرضية للاتفاق الذي يتم العمل عليه، وهي تحدد مناطق النفوذ في الجنوب السوري، لكنها ليست خريطة لترسيم الحدود أو الاتفاق على النفوذ، بقدر ما هي تنازل عن الجولان السوري والإقرار بسيطرة "إسرائيل" على بعض المناطق التي احتلتها منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وخصوصاً في جبل الشيخ والقنيطرة، وكذلك منع أي حكومة سورية من فرض سلطتها على الجنوب السوري من حيث نشر الأسلحة الثقيلة والتحليق الحربي أو الاستطلاعي، وخصوصاً فوق السويداء، ما يشكل إقراراً سورياً بالتقسيم الذي يُعمل عليه.
أيضاً فإن الخريطة، في حال كانت صحيحة وتم التوصل إلى اتفاق على أساسها، ستعني أن الشرع تنازل عن الشرط الذي أعلنه للتفاوض وهو العودة إلى تفاهمات "فض الاشتباك عام 1974"، وتنازل، ليس عن الجولان فقط، بل أيضاً عن الأراضي التي استعادتها سوريا في القنيطرة عقب حرب 1973 أيضاً، وأقر بما تريده "إسرائيل" من سوريا بشكل كامل، برغم تصريحه بأن موضوع الجولان متروك لوقت لاحق.
أهداف التفاوض: ضمان السيطرة الإسرائيلية وتبييض تاريخ الشرع
بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي، يبدو من الشروط المعلنة أنه لا يستعجل التوصل إلى اتفاق مع حكومة الشرع إلا إذا كان يضمن له الاعتراف السوري بالسيادة على الجولان، ويحقق له ضمانات أمنية تشمل الجنوب السوري كاملاً وضمان خلوه من السلاح، وهو يرى في اللحظة الراهنة فرصة تاريخية لترتيب المشهد السوري وفق مصالحه، فسوريا في أضعف حالاتها بعد 14 عاماً من الحرب الأهلية، وهي من دون جيش أو أسلحة استراتيجية، بعدما قضت عليها "إسرائيل" عقب سقوط النظام السابق، ناهيك بالعنجهية الإسرائيلية نتيجة الحروب التي خاضتها في العامين الأخيرين وفائض القوة الذي يشعر نتنياهو أنه يملكه.
لكن نتنياهو، وإن كان لا يتعجل التوصل إلى اتفاق، إلا أنه لا يرغب في إزعاج ترامب، وما المانع من المضي في مفاوضات إن كانت تحقق له ما يريد، وخصوصاً أن الطرف الآخر لا يملك أي أوراق للتفاوض، وهو في أضعف حالاته!
تتحدث التسريبات أيضاً عن ترتيبات أمنية تتجاوز الحدود لتطال إدارة المعابر والتعاون الاستخباري، وكلها عبارة عن شروط ومطالب إسرائيلية تشمل محاربة الحضور الإيراني ومكافحة المنظمات الفلسطينية، وخصوصاً تلك التي لها وجود في المخيمات جنوب دمشق، وضمان السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات جبل الشيخ، وعدم وجود قوات عسكرية في القرى الدرزية، حتى تلك الموجودة في ريف دمشق…
أما الشرع، فيسعى – بحسب ما يرشح – إلى تثبيت نفسه في السلطة وحيازة الاعتراف الدولي بذلك، حتى لو كان ذلك عبر بوابة "إسرائيل"، وهذا يضمن له تبييض صفحته الجهادية السابقة، ورفع العقوبات بشكل فعلي عن سوريا، مع ضمان وقف الضربات الإسرائيلية على الداخل السوري، والتي يظهر أنها تحرج الشرع أمام الشعب السوري.
اقرأ أيضاً: الخلاف في الاتفاق الأمني مع سوريا يكمن في حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي
من الأسد الأب إلى أحمد الشرع.. هل تعلمنا كيف نفاوض؟
ليس جديداً أن تكون دمشق في موقع التفاوض مع "إسرائيل"، فقد سبق أن خاض حافظ الأسد جولات شاقة في التسعينيات، توقفت عند عقدة الانسحاب الكامل من الجولان. يومها، تمسّك الأسد بموقفه الصارم: "لا سلام بلا عودة الأرض كاملة". أما اليوم، فإن المشهد مختلف كلياً؛ الأرض ليست على الطاولة، والجولان يبدو كأنه خارج النقاش أصلاً.
خاض الأسد الأب مفاوضات صعبة مع الإسرائيليين ابتداءً من عام 1991 في مدريد، حيث يذكر وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر حينها أنه أمضى 3 أشهر كاملة حتى تمكن من إقناع الأسد بحضور مؤتمر مدريد، بينما وللمفارقة يسابق الشرع ووزير خارجيته الزمن للقاء الإسرائيلي والاتفاق معه، إذ لم يمر شهر على العدوان الإسرائيلي على قلب دمشق وقصف مبنى وزارة الدفاع والقصر الرئاسي في منتصف تموز/يوليو، حتى تم الاعتراف السوري بأول لقاء معلن بين أسعد الشيباني ووزير إسرائيلي في باريس منتصف آب/أغسطس، وكان سبق ذلك أشهر من اللقاءات السرية والمفاوضات غير المباشرة.
تمسك حافظ الأسد بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، وكان عنيداً في رفض أي تنازل عن أي شبر من الأراضي السورية المحددة بخط الرابع من حزيران 1967، وأي صيغة لتبادل أراض، وتذكر مذكرات المسؤولين السوريين والأميركيين الذين حضروا المفاوضات التي استمرت حتى ما قبل وفاة الأسد عام 1999، أن المفاوضات وصلت إلى نقاط حساسة وأن الأسد رفض التنازل عن أمتار قليلة في الجولان أو جبل الشيخ، وكان يطالب دائماً بضمانات أميركية وإقرار إسرائيلي بالانسحاب من الجولان كاملاً قبل المضي في أي اتفاق تطبيع للعلاقات أو بحث للملفات الأخرى من المياه إلى الترتيبات الأمنية.
حتى المفاوضات التي رعتها تركيا في عهد بشار الأسد ابتداءً من عام 2006، أو تلك التي توسط فيها المبعوث الأميركي فريدريك هوف قبل عام 2011، والتي شهدت مرونة سورية أكبر في التفاوض، لم يتم التنازل فيها عما سمّاه السوريون "وديعة رابين"، وهي الإقرار بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان، وبقيت الحد الأدنى للمضي بالتفاوض أو القبول بمناقشة المطالب الأميركية- الإسرائيلية من قبيل العلاقة مع إيران وحزب الله أو الترتيبات الأمنية والمياه في بحيرة طبريا ونهر الأردن.
كل ذلك وسوريا في عهد حكم عائلة الأسد متمسكة بهذه المبادئ برغم الضغوطات التي مورست عليها، وبرغم الظروف الإقليمية والدولية التي مرت بها والتي لم تكن في مصلحة دمشق، ابتداءً من توقيع مصر اتفاق تطبيع مع "إسرائيل" بعد حرب أكتوبر 1973، ولاحقاً توقيع اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية ووادي عربة مع الأردن، وانهيار الاتحاد السوفياتي، الحليف الأول لدمشق، وحتى غزو العراق واغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان.. كلها كانت محطات تضعف الموقف السوري، لكنه بقي متمسكاً بمبدأ استعادة الأرض قبل أي تفاهم أو اتفاق.
لكن التفاوض اليوم يحفل بتنازلات بالجملة مع كل لقاء بين الشيباني والوزير الإسرائيلي ديرمير، بحسب ما تسرب الصحافة الإسرائيلية والغربية، كيف لا وسوريا اليوم في أضعف حالاتها بجيش ومؤسسات أمنية منهارة، واقتصاد وبنى تحتية مدمرة، ووحدة شعبية ومجتمعية مفككة ومتداعية، ناهيك بضغوط دولية متعلقة بتجاوزات ومجازر قامت بها السلطة الجديدة في الساحل والسويداء ضد الأقليات!
يدعم الشرع مفاوضاته باحتضان شكلي فقط، أميركي وخليجي وتركي، لكن في الواقع لا تقوم واشنطن بالضغط على "تل أبيب" ولا حتى في وقف اعتداءاتها على سوريا أثناء التفاوض، فمع كل خبر عن لقاء جديد أو تقدم في المفاوضات نقرأ أخباراً عن توغلات إسرائيلية جديدة وخرق للسيادة السورية.
كما أن الدعم الخليجي لسوريا في هذا الملف لم يتعدَ، حتى اليوم، الإدانة الرسمية للخروقات الإسرائيلية ودعوتها إلى وقفها. وهو حال الموقف التركي أيضاً.
أسئلة مشروعة
-
صورة تجمع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون مع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك عام 2000
السؤال الأشد مرارة: لماذا يجب على السوريين وأبنائهم أن يدفعوا ثمن تبييض صفحة الشرع وجماعته؟ ماذا سنقول كسوريين لأبناء قرى الجولان السوري وهم يناضلون منذ عقود ضد السيطرة الإسرائيلية ويحلمون بالعودة إلى حضن وطنهم الأم؟ أليس من المعيب أن يُقدَّم اتفاق أمني مع العدو على أنه إنجاز، فيما هو في الحقيقة تنازل بالجملة عن الحقوق السورية السيادية، مقابل جلوس الشرع إلى طاولة العشاء مع ترامب ونتنياهو في واشنطن؟
لو أن الشرع أتى بحكومة انتقالية متنوعة وترك لها ملف التفاوض وفاوضت من موقع كونها حكومة سورية وليست ممثلة لجماعة مصنفة إرهابية تقدم التنازلات مقابل قبولها دولياً؟ أو لو أن الشرع أقام انتخابات تشريعية حرة ونزيهة، وترك لمجلس الشعب مهمة إقرار الاتفاقيات والمعاهدات، ألم يكن يمتلك ورقة احتمال رفض أي اتفاق لا يناسب الشعب السوري ولا يوافق عليه مجلسهم المنتخب وكان موقف سوريا أقوى من موقفها الحالي؟
الأهم من ذلك، كيف نخوض مفاوضات بهذه الأهمية بعدم وجود وفد تفاوضي متخصص، فقط وزير الخارجية الذي لا تتعدى خبرته الدبلوماسية العمل مع بعض المنظمات الدولية أيام كان مسؤولاً في حكومة الجولاني التي كانت تدير إدلب وميزته الوحيدة إجادته للغة الإنكليزية؟
ألا يجب أن يضم الوفد المفاوض قادة أمنيين ذوي خبرة، وقادة عسكريين يعرفون تفاصيل الأسلحة وقيمة المواقع العسكرية وأهميتها، ناهيك بخبراء في الجغرافيا والمياه؟
لماذا لا تتم الاستعانة أو طلب المشورة من فاروق الشرع مثلاً، وهو الوزير المخضرم الذي يحظى باحترام السوريين جميعاً، وله خبرة طويلة لعشرات السنوات بالتفاوض مع الإسرائيليين منذ اليوم الأول في مفاوضات مدريد عندما قارع اسحق شامير وأظهره كمطلوب للعدالة على مرأى العالم، ويعلم مدى خبث الإسرائيليين وكيف يجب التعامل معهم من أجل عدم التفريط في الحقوق.
الأخطر من ذلك: هل يحق لرئيس انتقالي لا يملك تفويضاً شعبياً كاملاً، أن يوقّع على تفاهمات استراتيجية بهذا الحجم، ستقيّد مستقبل سوريا لعقود؟
دروس التاريخ ومصالح المستقبل
التاريخ القريب يضعنا أمام مقارنة موجعة: الأسد الأب رفض أن يوقّع اتفاقاً ناقصاً لا يضمن حقوق سوريا في أرضها، فدفع ثمن ذلك عزلة سياسية، لكنه حافظ على موقفه. اليوم، تقف حكومة الشرع أمام خيار معاكس: توقيع اتفاق أمني يمنحها شرعية دولية سريعة، لكنه قد يورث السوريين قيداً جديداً على قرارهم الوطني وخسارة لجزءٍ عزيزٍ من أرضهم، من دون رجعة.
ما يجري اليوم على طاولة التفاوض بين حكومة الشرع و"إسرائيل" قد يُسوّق كخطوة نحو الاستقرار، لكنه في جوهره يعكس معادلة معقدة: "أمنٌ لإسرائيل مقابل شرعية انتقالية لنخبة سياسية وعسكرية تبحث عن تثبيت نفسها".
والسوريون الذين دفعوا أثماناً باهظة في العقود الماضية يواجهون اليوم سؤالاً مصيرياً: هل يُعقل أن تكون فاتورة إعادة إدماج "هيئة تحرير الشام" وزعيمها هي التفريط في حقوق وطنية والتوقيع على اتفاق أمني مع عدو تاريخي؟ إن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُرسم في خرائط مسرّبة ولا في صفقات ضيقة، بل في إرادة شعبية حرة تعيد تعريف الأمن والشرعية والسيادة بعيداً عن أي وصاية أو مقايضة.