سوريا.. انقسامات سياسية وتحدّيات خارجية
معالجة الواقع الاقتصادي المتردّي والعمل على رفع العقوبات عن سوريا، يحتّم أن يكون في الحكومة المقبلة عدد من الشخصيات الاقتصادية المعروفة على مستوى العالم، وأن تكون الحكومة حكومة تكنوقراط.
-
سوريا والمرحلة المقبلة.
يبدو أنّ حالة الهدوء والاسترخاء الأمني التي عاشتها سوريا منذ سقوط النظام قد انتهت، فكانت أحداث الساحل ناقوس خطر ينبئ ببداية مرحلة جديدة قد لا تكون مبشّرة للسوريين جميعاً. الاتفاق الذي وقّع بين الحكومة الانتقالية وقوات قسد لم يكتب له النجاح أيضاً، فجاء "الإعلان الدستوري" والذي قوبل بالرفض من قبل الكرد وغيرهم من الأقليات ليضع نهاية لهذا الاتفاق.
تلك الأحداث وغيرها انعكست سلباً على حالة الانفتاح الدولي على سوريا، وبات التعويل على مؤتمر بروكسيل ليشكّل علامة فارقة في مسار رفع العقوبات عن سوريا أمراً يبدو أنه مستبعد. خاصة وأنّ التوقّعات وصلت حدّ التشكيك بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في المؤتمر، ومن ثمّ جرى الإعلان عن تلك المشاركة، بعد تدخّل إحدى الدول الخليجية الداعمة للحكومة في دمشق.
وجاء الإعلان عن أنه سيتمّ توجيه الدعم المالي الأوربي البالغ 2.5 مليار يورو إلى المنظّمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة التي تعمل داخل سوريا وفي دول الجوار التي تستضيف اللاجئين السوريين، بمعنى أنّ هذه الأموال لن يتمّ منحها إلى الحكومة السورية بشكل مباشر. مع الإشارة إلى أنّ هذا الرقم يعدّ صغيراً مقارنة بما تمّ تقديمه العام الماضي والذي بلغ 7.5 مليارات يورو.
كان هذا المؤتمر قد عقد بنسخته التاسعة، وهي المرة الأولى التي تكون فيها سوريا حاضرة في المؤتمر، إلى جانب العشرات من الوزراء الأوروبيين والعرب وممثّلي المنظمات الدولية.
أحداث الساحل وانعكاستها الداخلية والخارجية
لم يكن ما وقع في منطقة الساحل حدثاً مستغرباً، لكننا اعتقدنا أننا قد تجاوزنا وقوع مثل تلك المجازر، والتي كان من المتوقّع حدوثها يوم سقوط النظام. أسباب كثيرة تقع خلف تلك الأحداث يمكن تلخيصها بحالة "اللا أمل" التي أصبح يعيشها عدد كبير من أبناء تلك المنطقة، نتيجة لتدهور أوضاعهم الاقتصادية بعد فقدانهم لوظائفهم. حالة الخوف والملاحقة لما يسمّى بـ "فلول النظام"، أدّت دوراً كبيراً في ذلك، خاصة وأنّ غالبية هؤلاء من أبناء تلك المناطق.
المشكلة في مصطلح "فلول النظام" أنه مصطلح فضفاض، يمكن تفصيله على قياس الشخص المستهدف، بينما الفلول الحقيقيون أو كبارهم على الأقل، كانوا قد فرّوا إلى خارج سوريا، وقام البعض منهم بتسوية أوضاعه رغم تورّطه بقتل السوريين، وفقاً لشهادة المواطنين الذين تظاهروا في عدّة مناطق احتجاجاً على مثل تلك التسويات.
استبدال هذا المصطلح بمصطلح "الخارجين عن القانون"، أو "قتلة الشعب السوري"، يبدو أنه أفضل وأقرب للواقع، ويرسل رسائل طمأنة لمن لم يرتكب مثل تلك الجرائم.
الحديث عن العدالة الانتقالية يثير قلق الكثيرين، ليس من أبناء الساحل وحدهم، فقوات قسد على سبيل المثال كان بعض عناصرها قد ارتكب جرائم موثّقة بحقّ أبناء العشائر في تلك المناطق، فهل الحكومة قادرة على التصريح بأنّ العدالة ستطال هؤلاء.
التحدّي الأكبر للعدالة الانتقالية من وجهة نظري هو مدى قدرتها على تبرئة من كان يعمل في الجيش والشرطة ولم يجرم بحقّ الشعب السوري، فالتعميم غير صحيح بكلّ تأكيد.
العامل الخارجي حاضر وبقوة في المشهد السوري، وما يزيد من قوته وفاعليته هشاشة الوضع الداخلي، وحالة الفوضى والانقسام السياسي إزاء ما يجري من أحداث.
المعالجة الأمنية وحدها ليست كافية، وهو ما تنبّهت إليه الحكومة، فبادرت إلى تحقيق تقدّم في المسار السياسي عبر إعلانها توقيع اتفاق مع قسد، ومن ثمّ جاء الإعلان الدستوري الذي زاد من توتر الأوضاع بدلاً من تهدئتها.
الاتفاق مع قسد لم يكن اتفاقاً بقدر ما كان "إعلاناً للمبادئ" التي جرى الاتفاق عليها بين الطرفين، لكنه كان هامّاً في توقيته بالنسبة للحكومة، حيث كان مجلس الأمن الدولي يناقش سياسة الحكومة السورية تجاه الأقليات، على خلفيّة ما حدث في الساحل، وبالتالي كان من المفيد الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق مع الأقلية الكردية.
الإعلان الدستوري يثير حفيظة البعض
جاء الإعلان الدستوري بصيغة أثارت حفيظة الكثير من السوريين، من مختلف المكوّنات والانتماءات، لأسباب كثيرة، أهمها الاستئثار بالسلطة والصلاحيات وحصرها بيد رئيس الجمهورية، وهي الفكرة التي يتشاركها غالبية المعارضين لهذا الإعلان.
ربما ظروف المرحلة الانتقالية وخصوصية الوضع السوري تتطلّب ذلك، لكنّ تلك الفكرة لم تتمكّن الحكومة ولا وسائل الإعلام من إقناع الشعب السوري بها، وبالتالي فإنّ الكثيرين بنوا مخاوفهم بالقياس على تجارب الماضي.
الحديث عن الفقه الإسلامي كمصدر من مصادر التشريع يثير حفيظة غير المسلمين، وعدد كبير من المسلمين العلمانيين المؤمنين بفكرة فصل الدين عن الدولة. "فصل الدين عن الدولة" فكرة جرى التسويق لها بشكل سلبي وخاطئ، لذا رأينا انقساماً حادّاً بين من يؤيّد تلك الفكرة وبقوة، ومن يعارضها بالمطلق. إنها أقرب ما تكون إلى فصل السلطات، لتمارس كلّ سلطة دورها بعيداً عن تغوّل سلطة على غيرها، مع التأكيد أنّ هذا الفصل هو فصل عضوي لا مطلق.
تأكيد عروبة سوريا أثار حفيظة الكرد وجعلهم يرفضون المضي في التوافقات مع حكومة دمشق، وهو أمر ربما مرحّب به من قبل تركيا التي لم تكن راضية على هذا الاتفاق، فهي ترى في القوات الكردية جماعات إرهابية يجب القضاء عليها.
ضعف لجنة كتابة الإعلان الدستوري في الدفاع عمّا ورد فيه من أفكار زاد الطين بلّة، وجعل الكثيرون يتساءلون عن آلية اختيار مثل هؤلاء، وهل تمّ اختيارهم وفقاً لمعيار الولاء لا الكفاءة. فالعديد منهم يتمتع بكفاءة أكاديمية، لكنهم جميعاً يفتقدون إلى الخبرة السياسية، وهي هامة ومطلوبة لمثل هكذا مهمة.
سيطرة الخطاب الشعبوي والافتقاد إلى الهدوء والفعل البنّاء هي السمة الأبرز للحالة السورية، وتشكّل عامل ضغط وتشويش على أداء الحكومة، وتحول دون قدرة المثقّفين وقادة الرأي على التعبير عن مواقفهم وآرائهم إزاء ما يحدث.
صدر إعلان الدستور وبشكل موسّع، لكنه خلا من الإشارة إلى كلمة "ديمقراطية"، وهو ما يشير إلى حساسية هذه الكلمة بالنسبة لحكّام سوريا الجدد، رغم أنها الطريق لمخاطبة الحكومات الغربية وخلق حالة من الاطمئنان لديها.
الأوضاع الاقتصادية الضاغطة في الداخل السوري
منذ وصول الحكومة الجديدة إلى الحكم في سوريا تمّ الإعلان عن أنه ستكون هناك زيادة في رواتب الموظفين بنسبة 400%، لكنه لم يتحقّق شيء من ذلك رغم أنّ الحكومة قد أنهت مدّتها الزمنية والمقرّرة بثلاثة أشهر.
حلّ جهازي الجيش والشرطة، وتسريح عدد كبير من العاملين، جعل مئات الآلاف من الأسر من دون مصدر رزق، خاصة وأنّ الحياة الاقتصادية مشلولة، والعمل الخاص غير ممكن في ظلّ الظروف الحالية. فزيادة أسعار الخبز والغاز وبعض الحاجات الضرورية للمواطن وبشكل كبير، زاد من حدّة الفقر، وباتت أسباب الجريمة كلّها متوفّرة، والحالة الأمنية مشجّعة على ارتكابها.
التحسّن الوهميّ في سعر صرف الليرة السورية نتيجة للمضاربة وغياب الشفافية في طريقة تحديد سعر الصرف، جعل الكثير من السوريين يفقد قسماً كبيراً من الحوالات التي ترسل إليهم من أبنائهم في الخارج.
مع الإشارة هنا إلى تمكّن الحكومة من تأمين الخبز والمحروقات والاحتياجات اليومية للمواطنين، وهو أمر إيجابي أنهى حالة الاحتكار والفساد التي كانت سائدة من قبل. فجميع السلع متوفّرة اليوم في سوريا وبسعر أرخص من قبل، لكن من يستطيعون شراءها أقلّ من السابق، ليصدق المثل القائل: "الجمل بليرة وما في ليرة".
الحكومة المنتظرة فرصة لإحراج الآخر
مرّت الأشهر الثلاثة المحدّدة للحكومة الحالية وبات من المنتظر الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة "شاملة ومتعدّدة"، وفقاً للوعود وتلبية للمطالب الدولية من دمشق. لكنّ فشل الحكومة في تحسين الواقع الاقتصادي يؤكّد عدم كفاءتها، أو على الأقلّ عدم قدرتها على الإيفاء بوعودها، وتصدّيها لعناوين عريضة ليست من اختصاصها، وبالتالي فإنّ قراراتها لن تكون ملزمة للحكومة المقبلة، خاصة وأنها لا تستند إلى أيّة مرجعية قانونية.
تأخّر الإعلان عن الحكومة المنتظرة، والذي كان من المقرّر أن يكون في بداية هذا الشهر (آذار/مارس)، بات من الواضح أنّ الهدف منه هو انتظار صدور "الإعلان الدستوري"، الذي ألغى منصب رئيس الحكومة وأعطى الرئيس صلاحية اختيار الوزراء.
معالجة الواقع الاقتصادي المتردّي والعمل على رفع العقوبات عن سوريا وجذب الاستثمارات إليها، يحتّم أن يكون في الحكومة المقبلة عدد من الشخصيات الاقتصادية المرموقة والمعروفة على مستوى العالم، وأن تكون الحكومة حكومة تكنوقراط.
هذا يتطلّب مواقف حاسمة وجريئة من الرئيس الشرع، وتفهّماً من قبل القوى المساندة له في الداخل، والقدرة على إرضاء الحلفاء في الخارج، أو عدم استفزازهم على الأقلّ. عندئذ يمكن إحراج الدول الأخرى وسدّ الذرائع أمامها، والمضي بمطالبتها برفع العقوبات عن سوريا، بعد أن زالت كلّ مسبّبات فرضها.
المهمة ليست سهلة بكلّ تأكيد، خاصة وأنّ فشلها قد يعني انفجار الأوضاع في سوريا، والتي بات من الواضح أنها لم تعد مستقرّة، وأنّ نشوة إسقاط النظام البائد قد انتهت، وبدأ التفكير بالواقع الصعب وسبل الخلاص منه.