شمال شرق سوريا: حين يكتب الناس عقدهم الاجتماعي وسط النار
كيف يمكن لمجتمع خرج من حرب أن يكتب عقده الاجتماعي بنفسه؟ وكيف يعيد بناء مؤسساته من دون أن يعيد إنتاج سلاسل القهر القديمة؟
-
جدل العلاقات والتحالفات والأسئلة المؤجلة.
لم أدخل شمال شرق سوريا زائرًا عابرًا، ولا عيّنت نفسي شاهدًا من بعيد؛ بل دخلتها كمن يتلمّس طريقًا إلى فكرة تولد وسط الخراب.
هناك، بين هدير الحرب وصمت القرى التي تتشبث بالحياة، شعرت أنني أطأ أرضًا تُعيد اختراع ذاتها؛ أرضًا تُنبت مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا جديدًا رغم أنف الحصار، ورغم جراح السنوات التي لا تزال طرية.
في إحدى زياراتي، بدعوة من مركز "روج آفا" للدراسات الاستراتيجية، جلست مع باحثين وقادة محليين نتأمل سؤالًا بدا أكبر من الجغرافيا:
كيف يمكن لمجتمع خرج من حرب أن يكتب عقده الاجتماعي بنفسه؟ وكيف يعيد بناء مؤسساته من دون أن يعيد إنتاج سلاسل القهر القديمة؟
ومنذ تلك الزيارة الأولى، أدركتُ أنني لا أراقب تجربة إدارية، بل أشهد ولادة فكرة كبرى؛ فكرة تحاول – وسط النار – أن تمنح الناس قدرة على تقرير مصيرهم، وأن تجعل من التعدد قوة، ومن المشاركة قاعدة، ومن المرأة شريكًا كاملًا في القرار.
تجربة تتنفس رغم الحصار
في قلب حرب طويلة، وتحت حصار اقتصادي خانق، تُبنى الإدارة الذاتية كما لو كانت تتحدى المنطق ذاته.
الموارد قليلة، التهديدات كثيرة، والظروف أبعد ما تكون عن مواتية لقيام نموذج جديد.
ومع ذلك، في المدن والبلدات التي زرتها، رأيت مؤسسات تعمل رغم الشحّ، ومجالس محلية تنظّم اليوميات الثقيلة، وقدرًا من الاستقرار ينشأ من قناعة الناس بأن انهيار التجربة يعني انهيار الحياة نفسها.
هذه القدرة على البقاء ليست قرارًا سياسيًا فقط، بل إرادة مجتمعية تسند التجربة وتؤمّن لها مقومات الاستمرار.
شراكة واسعة تتجاوز ضيق الهوية
أكثر ما يلفت النظر أن كل المكونات ممثلة في بنية الإدارة: الكرد، العرب، السريان، الآشوريون، الأيزيديون...
هنا، لا تُصنع السلطة على مقاس مكوّن واحد، ولا تُحجب عن الآخرين.
بل يُعاد تصور المجتمع بوصفه لوحة متعددة الألوان، يتقاسم أفرادها القرار والمسؤولية.
إنها محاولة واعية للتخلص من النموذج القومي المغلق، واستبداله بنموذج يضع التنوع في قلب السياسة لا في هامشها.
المرأة.. حضور يغيّر شكل السلطة
في كل مؤسسة زرتها، من البلديات إلى المجالس المدنية، كان مبدأ الإدارة المشتركة حاضرًا: رجل وامرأة في رئاسة كل هيئة.
ليس ذلك شعارًا أو تجميلًا، بل ركيزة بنيوية تنبع من رؤية ترى أن تحرير المجتمع يبدأ بتحرير المرأة، وأن أي مشروع لا يعطي النساء دورًا مركزيًا سيبقى ناقصًا مهما بدا منفتحًا في عناوينه.
في وحدات حماية المرأة، وفي المؤسسات السياسية، وفي تفاصيل الحياة اليومية، لمست أن المرأة ليست مجرد مشارك، بل هي شريك كامل، وأن هذا التحوّل ليس تفصيلًا بل نقطة انعطاف عميقة في بنية المجتمع ذاته.
ثقافة النقد الذاتي
في اللقاءات التي جمعتني بالمسؤولين والقادة والكوادر، لم أجد خطابًا منتشيًا بالإنجازات، ولا تبريرًا للمشكلات.
بل وجدت ثقافة نقد ذاتي واضحة: اعتراف بالأخطاء، وإصرار على تصحيحها، ووعي بأن التجربة في طور التكوين، وأن قوتها لا تأتي من ادعاء الكمال، بل من قدرتها على المراجعة.
الأمة الديمقراطية كمنهج لإدارة التعدد
لفهم عمق التجربة، عدت إلى جذورها الفكرية كما صاغها المفكر عبد الله أوجلان في "مانيفستو الحضارة الديمقراطية".
هناك تتبلور فكرة الأمة الديمقراطية:
مجتمع لا يقوده مركز قاسٍ، بل شبكة من المجالس المحلية، وإدارة تشاركية تمنح كل مكوّن صوتًا وفعلًا.
فكرة ترى أن التعدد ليس عبئًا، وأن الدولة القومية ليست قدرًا، وأن السلطة حين تنفصل عن المجتمع تتحوّل إلى أداة قمع.
في شمال وشرق سوريا، رأيت محاولة – رغم التعقيدات كلها – لتحويل هذا التصور الفلسفي إلى ممارسة يومية.
تحديات تحاصر التجربة
ورغم أن الإدارة الذاتية نجحت في تثبيت ملامح مشروع ناشئ وسط بيئة مضطربة، فإنها ما تزال تتحرك داخل معادلة معقدة تتقاطع فيها حسابات الداخل بضغوط الخارج، وتتداخل فيها اختبارات الحياة اليومية مع الرهانات السياسية الكبرى.
هذه التحديات، في جوهرها، ليست عوائق منفصلة، بل طبقات متراكبة ترسم حدود الحركة وتحدد شكل السياسة الممكنة.
أولًا: اقتصاد محاصر يتحوّل إلى عامل حاكم للقرار السياسي
فالحصار ليس مجرد ظرف اقتصادي، بل هو أداة لإعادة تشكيل الخيارات السياسية.
الندرة الدائمة في الموارد تدفع الإدارة إلى إعادة ترتيب أولوياتها، والبحث عن توازن بين تلبية حاجات الناس والحفاظ على قدرة المؤسسات على العمل.
وهكذا يصبح كل قرار اقتصادي - من الخبز والكهرباء إلى الرواتب - قرارًا سياسيًا، يرتبط مباشرة بثقة المجتمع، وبصورة الإدارة كفاعل قادر.
ثانيًا: تنظيم إداري يتشكل… والرهان على ألا يعيد إنتاج أمراض الدولة المركزية
يتوسع البناء المؤسسي طبيعيًا مع اتساع التجربة، لكن التحدي الحقيقي هو ضمان ألا تتحوّل هذه البنى إلى بيروقراطية مغلقة تضرب روح المشاركة واللامركزية.
فالسياسة هنا ليست مجرد إدارة يومية، بل محاولة لبناء نموذج حكم جديد، وأي انزلاق نحو الممارسات التقليدية قد يهدد الفكرة التي وُلد المشروع على أساسها.
ثالثًا: بناء الثقة بين المكونات… مسار سياسي بطيء لكنه حاسم
الثقة ليست مسألة اجتماعية فحسب، بل هي مفتاح سياسي لاستدامة التجربة.
ومع أن تمثيل العرب والكرد والسريان أصبح أمرًا واقعًا داخل المؤسسات، إلا أن الذاكرة السورية المثقلة بالتمييز والصراع تجعل بناء الثقة عملية تحتاج إلى وقت، وإلى عدالة ملموسة في القرارات والممارسات، لا إلى شعارات.
كل خطوة في هذا المسار تشكّل حجرًا في بنية العقد الاجتماعي الذي تسعى الإدارة لترسيخه.
رابعًا: ضغط إقليمي يعيد صياغة الخريطة السياسية باستمرار
المحيط الإقليمي ليس عنصرًا خارجيًا، بل هو فاعل مباشر في تحديد مسار التجربة.
فالتهديد التركي المستمر، والتذبذب في الموقف الأميركي، والمشهد السوري الذي لم يستقر على معادلة سياسية واضحة، كلها عوامل تفرض على الإدارة الذاتية أن تتحرك ضمن هوامش ضيقة، وأن تعتمد على القدرة على المناورة أكثر من اعتمادها على ثبات التحالفات.
هذه التحديات مجتمعة لا تنزع عن التجربة معناها، لكنها تكشف طبيعتها الحقيقية:
مشروع سياسي يتكوّن داخل صراع مفتوح، ويختبر أدواته وسط ظروف لا تساعده، لكنه يصرّ على البقاء والتطور.
وأن قيمته الأساسية تكمن في قدرته على التكيف، وعلى مراكمة الخبرة، وعلى تحويل الصمود إلى رؤية سياسية أشد وضوحًا ونضجًا.
جدل العلاقات والتحالفات والأسئلة المؤجلة
يدور الكثير من الجدل حول علاقة مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية بالولايات المتحدة، وهي علاقة تتراوح توصيفاتها - في خطاب الخصوم والأنصار - بين شراكة اضطرارية فرضتها الحرب على الإرهاب، وبين ارتباط سياسي يتجاوز حدود الضرورة العسكرية. وبموازاة ذلك، تتصاعد نقاشات حول مواقف بعض مؤسسات الإدارة من القضية الفلسطينية، في ظل محاولات متعمدة لتوظيف هذا الملف لإرباك التجربة وتشويه خياراتها.
ولا يتوقف الجدل عند هذه النقاط، بل يمتد إلى الاتهامات المتكررة بالسعي إلى الانفصال أو إنشاء كيان مستقل. وهي اتهامات تُستخدم، في جانب واسع منها، كورقة ضغط سياسية؛ بينما تعلن الإدارة - في وثائقها ومؤتمراتها - أن مشروعها يقوم على اللامركزية الديمقراطية ضمن سوريا موحدة، وأن نموذجها هو نموذج إدارة ذاتية لا دولة بديلة.
لكن غياب حل سياسي شامل، وتراكم الشكوك التاريخية، وتعدد قراءات المشهد السوري، كلها عوامل تُبقي هذا الجدل مفتوحًا، وتسمح لقوى إقليمية ودولية بالاستثمار فيه بحسب مصالحها.
هذه الملفات - بما تحمله من تعقيدات وتشابكات - سأفرد لها مقالًا مستقلًا قريبًا، أتناول فيه ما عرفته من مصادر مباشرة، وما رأيته بأم العين خلال لقاءاتي المتكررة في المنطقة، وما يحتاج فعليًا إلى تفكيك هادئ ونقاش أعمق.
مشروع يولد في العراء… لكنه يكتب أملًا جديدًا
الإدارة الذاتية ليست نموذجًا مكتملًا، لكنها محاولة نادرة لإعادة توزيع السلطة، ولصياغة معادلة جديدة تُعيد للمجتمع موقعه المفقود.
هي تجربة تتشكل ببطء، لكنها تتقدم في اتجاه واضح: أن الناس قادرون على بناء نموذجهم الخاص، حتى لو كان ذلك وسط النار.
وإذا كانت هذه التجربة لا تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة، فإن ما هو ثابت فيها هو أنها مشروع يبحث عن عدالة وحرية ومشاركة حقيقية في زمن تصادر فيه الأنظمة كل شيء.
والإنصاف يقتضي أن نقرأها كما هي: محاولة شجاعة، تُخطئ وتصيب، لكنها لا تتراجع عن الإيمان بأن المجتمع قادر على أن يكون صانع مصيره، لا متلقيه.