لا نصر إسرائيلياً "مطلقاً"، لا في الميدان ولا على موائد التفاوض

العجز عن انتزاع "النصر المطلق" في الميدان، يصاحبه بحكم الضرورة، عجز آخر، عن انتزاع "نصر مطلق" على موائد التفاوض... هذه المرة، يبدو أن المفاوض الفلسطيني ليس من النوع المتساهل.

  • غزة لا تحتمل
    غزة لا تحتمل "السيناريو اللبناني"، أو "لبننة غزة".

أجاز الرئيس الأميركي لحكومة نتنياهو أمر "الانتقام" لمقتل جندي إسرائيلي في رفح، فقام الجيش بتنفيذ عشرات الهجمات الجوية والمدفعية، ضد أهداف زعم أنها لحماس، وأكد الغزيّون أنها مدنية خالصة... ربما كان بنيامين نتنياهو يريد الذهاب أبعد من ذلك، بما يتخطى "الانتقام" إلى الفكاك من الاتفاق نفسه، لكن دونالد ترامب، أراد للاتفاق الذي حمل اسمه وتوقيعه، أن ينجو من الضربات العسكرية الإسرائيلية، وأن يعود الجانبان لاستكمال تنفيذه، مرحلة في إثر أخرى.

الأميركيون في تسريباتهم، قالوا إن حماس لم تقترف خرقاً جسيماً للاتفاق، يستوجب ردّ فعل مبالغاً فيه، قد يفضي به إلى الانهيار بعد ترنح...  لكنهم مع ذلك، لم يترددوا في "مجاراة" نتنياهو، و"تفهم" حساباته الحزبية والشخصية الضاغطة، حتى وإن كان الثمن، دماراً فوق دمار في غزة، وأسماء جديدة تُضاف إلى قوائم الشهداء والجرحى التي لامست الثلاثمِئة ألف غزّي منذ السابع من أكتوبر 2023.

الرئيس الذي وعد بالتزام "ميزان العدالة" في التعامل مع طرفي اتفاق إنهاء الحرب، يثبت مرة أخرى، أن ميزان "عدالته" مختلٌ تماماً... هو قلق على مصير دزينة من الجثث الإسرائيلية، ولم ينبس ببنت شفة عن مصائر أكثر من عشرة آلاف جثمان لشهداء فلسطينيين ما زالت تحت الأنقاض... هو يدعم إدخال الآليات الثقيلة وطواقم الفنيين والخبراء للبحث عن أشلاء الإسرائيليين، ولا يبذل جهداً نافعاً للضغط على الإسرائيليين، للوفاء ببند من بنود "مبادرته"، والمتصل بالسماح بإدخال الآليات الثقيلة لرفع الأنقاض وفتح الشوارع، ولملمة أشلاء الفلسطينيين من تحت الركام والأنقاض.

هو ينتفض لمقتل جندي صهيوني، نفت حماس علمها أو مسؤوليتها عن العملية، بيد أنه لا يكترث بالقتل والخراب الذي ألحقه "الجيش الأكثر أخلاقية" في العالم، في قلب غزة وحواضرها المدمرة خلال الساعات الفائتة... ومع ذلك، يبدو أن زعيم الدولة الأعظم، غير مكترث بميزان العدالة، الذي نصب نفسه راعياً له ومقيماً عليه.

نكد الدنيا

أياً يكن من أمر، المقاومة ملتزمة بالاتفاق وتنفيذه بمراحله المتلاحقة، والوفاء بكامل مندرجاته، ومن يحجم عن فعل ذلك، هو الجانب الإسرائيلي، بشهادات متراكمة، أميركية وأممية ودولية... والمقاومة، لا تجد بُدّاً من التعامل مع "الوسيط الأميركي غير النزيه"، فهو وحده القادر على قول نعم ولا لحكومة الفاشيين الجدد في تل أبيب، ومن "نكد الدنيا على المقاومة أن ترى عدواً ما من صداقته بُدّ"... والمقاومة تدرك مساحة المشتركات الواسعة بين العدو و"الوسيط"، بيد أنها تمارس حقها في اللعب على الفجوات والتناقضات التي تباعد ما بينها، مهما صغرت أو عظمت...  أما مسؤولية وقف هذا التمادي والتطاول على الاتفاق ورعاته والذين أمّوا شرم الشيخ، فإنها تقع عاتق كل هؤلاء، مثلما تقع على كاهل "ثلاثي الوساطة" العربية التركية، مسؤولية إضافية للجم إسرائيل وممارسة التأثير على الولايات المتحدة، وكيف لا، وهم الوسطاء والشهود والضامنون.

الاتفاق وجد ليُنَفذ، تلكم واحدة من الفرضيات الراجحة لدى مختلف الأوساط السياسية والدبلوماسية، فقوة الضغط التي جاءت به، والزخم السياسي والدبلوماسي الذي قاد له، ما زالا كفيلين بنقله إلى حيز التنفيذ... الاتفاق، والمفاوضات التي جاءت به، حصلا تحت النار، والأرجح أن مراحل تنفيذه ستتواصل، تحت قدرٍ من الضغوط والنيران كذلك، وفي هذا يتفق نتنياهو وترامب ويختلفان، الأول يريدها حريقاً يذهب بالاتفاق ولا سيما بعد أن استعاد أسراه الأحياء ومعظم الأموات، فيما ترامب، يريد للنيران أن تنضج استعدادات المقاومة لابتلاع ما ترفض تجرّعه هذه الأيام، لا إلى حرق الاتفاق ذاته.

وغزة كما قلنا في مقال سابق في موقع "الميادين-نت"، لا تحتمل "السيناريو اللبناني"، أو "لبننة غزة" على حد تعبير صحافيين وكتاب فلسطينيين، فالاتفاق إما أن ينفذ وتضع الحرب أوزارها، بما في ذلك وضع حد للعربدة والاستباحة الإسرائيليتين، وإما أن ينهار وتعاود آلة الحرب فعلها، ويفقد دونالد ترامب كل سرديته عن نفسه، بوصفه بطل السلام وصانع المعجزات، والرجل الذي أنهى صراعاً ممتداً لثلاث ألفيات من السنين، وأسس لسلام سيستمر إلى الأبد.

وحتى الذين يطالبون ترامب، بتخليص القطاع من حماس، وتجريد حماس من سلاحها ونفوذها (وبعضهم من العرب)، لا يقترحون أساساً استمرار الحرب، بل "تسليح" و"عسكرة" المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار" باعتبارهما سلاحاً أكثر خطورة ومضاءً من قذائف الدبابات وصواريخ الطائرات الحربية... لا يعني ذلك بالطبع، أن مثل هذه التوجهات، ستنهي احتمالات قيام "إسرائيل" بتوجيه ضربات وتنفيذ عمليات جراحية بين الحين والآخر، ودائماً تحت شعار "تحييد تهديد قائم أو محتمل"، ولكنه سيجعل مهمة نتنياهو أكثر صعوبة.

لا نصر "مطلقاً" في المفاوضات كذلك

واحدٌ من أسباب حالة النزق الهستيرية التي تخيم على "الكابينت" وتطبع سلوك نتنياهو وصحبه، هو مجاراة القاعدة اليمينية العنصرية للفريق الحاكم، وملاقاة الشارع الإسرائيلي الذي تتعالى صيحات الحرب في صفوفه، بعد أن اطمأن لعودة أسراه الأحياء...  لكن هذا السبب، لا يفسر وحده، سلوك "إسرائيل" الإجرامي و"طوفان" الانتهاكات والتعديات على الاتفاق في مختلف بنوده ومراحله.

في ظني أن السبب الأهم في تشكيل هذه الحالة، إنما يعود إلى إخفاق فريق الحكم في إسرائيل في إنجاز "نصر مطلق" في الميدان، وعد به نتنياهو الإسرائيليين، بدل المرة ألف مرة، من دون أن ينجح في إقناعهم بأن "المهمة أُنجزت" على الأرض، ولا سيما بعد أن عادت حماس صبيحة يوم وقف إطلاق النار، للانتشار في غزة، وبعد أن استأنفت مؤسساتها المدنية، مهامها كالمعتاد، وإن بالقدر المتاح من الإمكانيات.

العجز عن انتزاع "النصر المطلق" في الميدان، يصاحبه بحكم الضرورة، عجز آخر، عن انتزاع "نصر مطلق" على موائد التفاوض... هذه المرة، يبدو أن المفاوض الفلسطيني ليس من النوع المتساهل الذي اعتاده المفاوض الإسرائيلي، وما يدور من أفكار ومقترحات لترتيبات ما بعد الحرب، يثير السخط في أوساط من شنّوا حرب السنتين على غزة وأهلها ومقاومتها.

نتنياهو أراد سيطرة أمنية إسرائيلية مطلقة ودائمة على قطاع غزة، فيما الأفكار والمقترحات التي يجري تداولها وتسريب بعضها، تذهب في اتجاه آخر...  نتنياهو أراد حكماً مدنياً تابعاً لغزة في اليوم التالي للحرب، بلا حماس ولا عباس، فيما الأسماء المتطايرة للجنة الإسناد المجتمعي من قماشة أخرى، وبلغت الطامة الكبرى ذروتها، بحديث ترامب عن إمكانية الإفراج عن الأسير القائد مروان البرغوثي، ليلعب دوراً في هذه المرحلة وما يليها، وهذا تطور لم يكن يخطر ببال قادة تل أبيب، ولا في أسوأ كوابيسهم...

نتنياهو عمل على رعاية ميليشيات عميلة لإدارة القطاع والإمساك بالأرض، لم تمضِ سوى سويعات حتى تم تحييد كل هذه المليشيات من المناطق التي انسحبت منها "إسرائيل"، وبلغ الأمر بدونالد ترامب، أن عبّر عن عدم انزعاجه، من قيام حماس بتصفية عصابات إجرامية... نتنياهو، ومن خلفه كل "إسرائيل"، لطالما رفضوا، ورفضت، فكرة "التدويل" على أي جزء من الأراضي المحتلة، اليوم، تقود واشنطن جهوداً لتشكيل قوة استقرار دولية، عربية إسلامية بالأساس، وعرض أمر تشكيلها وتفويضها على مجلس الأمن الدولي... من رفضوا التدويل بالأمس، يجدون أنفسهم بعد "النصر المطلق"، مجبرين على قبول تدويل مطعم بـ"التعريب" و"الأسلمة"... والخلاصة، أن "النصر المطلق" الذي كان عصياً عليهم في ميادين القتال والمجابهة، يبدو اليوم، أكثر استعصاءً على موائد التباحث والتفاوض.

إزاء كل هذه التطورات، يشعر نتنياهو أنه فقد زمام القرار المستقل في تل أبيب، ومن كان يقال عنه أنه يمسك بتلابيب البيت الأبيض، وصل اليوم إلى مرحلة، تتيح لترامب أن يقول له ما يتعين فعله، وما لا يتعين فعله، فمفاتيح الحل والحرب، باتت في جيب ترامب وليست بين يدي نتنياهو كما كانت... إذ حتى في معرض حديثه عن مروان البرغوثي، لم يفوت ترامب المناسبة للتأكيد بأن القرار بالإفراج عنه، أو إبقائه في زنزانته، هو بيده وحده، وليس بيد أحد غيره.

في مثل هذه المناخات الضاغطة والخائبة، يتصرف نتنياهو على غير ما كان يريد ويشتهي، فلا غزة دانت له لقمة سائغة، ولا الضفة الغربية مطروحة للضم الرسمي كما كان يتهدد ويتوعد، ولا الشرق الأوسط أعيد ترسيم خرائطه، أما حكاية النبذ والعزلة التي يعيشها وتعيشها "إسرائيل"، فتلكم قصة أخرى، ترقى إلى مستوى التهديد الاستراتيجي، ومن يعِش يرَ.