مركزيّة الكتاب (المقدّس) اليهوديّ في مشروع الاستعمار

كيف يبدو المستوطنون الأوروبيون في عالم حيث اخترع العبرانيون قصصاً عن أنفسهم، وخرج البريطانيون لتدمير حضارات وسرقة أراضيها في محاولة لتقليد رواية تاريخية زائفة تماماً لأحداث وشخصيات خياليّة مختلقة؟

  • مكانة الاستعمار في ثقافة الغرب.
    مكانة الاستعمار في ثقافة الغرب.

استُخدِمت سرديّة "خروج بني إسرائيل" – من الأسر الفرعوني – بأميركا مراراً وتكراراً في التاريخ الأميركي المبكر، قبل الحرب الأهلية. فقد استخدم كلّ من العبيد وملّاك العبيد قصة "الخروج" التوراتية Exodus لا لتشكيل هوياتهم الخاصة فقط، بل لتحديد معنى أو غاية هجرتهم إلى أميركا أيضاً.

يلفت ألون مزراحي إلى استخدام فكرة "الخروج" للمرّة الأولى في التاريخ الأميركي عام 1630 بواسطة جون وينثروب، على متن السفينة أرابيلا في عظته الشهيرة "نموذج لعمل الخير المسيحي". في هذه العظة، قدّم وينثروب فكرة أنّ المهاجرين ورثوا "العهد الإلهي" الذي أُعطي أوّلاً للعبرانيّين، مما جعلهم "إسرائيل الجديدة". في هذا المفهوم، تمّت مساواة عبور المحيط الأطلسي إلى أميركا بـ "الخروج" العبري. ومنذ تلك اللحظة، تبنّى الأميركيون الأوائل هذه الرواية باعتبارها أسطورة تأسيسهم.

خلال القرن التاسع عشر، استخدم ملّاك العبيد أيضاً هذه الرواية لشرح وضعهم ومنحه غاية. نصّب ملّاك العبيد أنفسهم كـ "إسرائيل الجديدة"، أو "أمّة الفادي". في هذا الفهم، كان على ملّاك العبيد "الوصول إلى قمّة الكمال وحمل الحرية والإنجيل في جميع أنحاء العالم".

وكما فعل مُلّاكهم، استخدم العبيد أيضاً رواية الخروج لتأطير موقفهم، رغم أنّ روايتهم كانت تصوّر مالكي العبيد في دور الفرعون، بدلاً من "إسرائيل الجديدة"، وكان العبيد يتماهون مع قصة بني إسرائيل. لم تصبح رواية "الخروج" أداة أمل للمُستعبَدين فحسب، بل أتاحت لهم أيضاً فهم موقفهم ووفّرت سياقاً لتحريرهم. يمكن رؤية هذا بشكل أفضل في أغانيهم الروحانية، مثل "انزل يا موسى" و"النهر العميق". ومن خلال الاستيلاء على رواية "الخروج"، فعل العبيد أكثر من مجرّد محاولة فهم موقفهم وماضيهم. فقد خلقوا لأنفسهم هوية وطنية، وبالقدر نفسه من الأهمية، ماضياً أسطورياً.

كان جون وينثروب أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في تشكيل وعي المشروع الاستعماري الأميركي. كان رجلاً إنكليزياً بيوريتانيّاً شعر بأنه طُرد من بريطانيا بواسطة الملك المناهض للبيوريتانيّين، تشارلز الأول.

قام وينثروب بدور فعّال في إنشاء مستعمرة خليج ماساتشوستس، وحكمها سنوات عديدة، وقاد موجة كبيرة من المهاجرين من بريطانيا إلى العالم الجديد. وفي عظة شهيرة ألقاها في عام 1630 (وتمّ التشكيك مؤخّراً في هوية مؤلّفها الفعلي، لكن لا شكّ أنه ألقاها عشية استعمار بوسطن) بعنوان: "نموذج لعمل الخير المسيحي"، استخدم مصطلح "مدينة على جبل" للإشارة إلى المستعمرة المستقبلية، وتحدّث بمصطلحات توراتية محدّدة للغاية عن هذا المسعى:

"سأختم هذا الحديث بوصية وجّهها موسى، خادم الرب الأمين، في وداعه الأخير لبني إسرائيل، (سفر التثنية:30): أيها الأحباء، لقد وُضِع أمامنا الآن الحياة والخير، والموت والشر، إذ أُمرنا اليوم أن نحبّ الربّ إلهنا، وأن نحبّ بعضنا بعضاً، وأن نسلك طُرقه، وأن نحفظ وصاياه وأحكامه وشرائعه، وبنود عهدنا معه، لكي نحيا ونكثر، ولكي يباركنا الربّ إلهنا في الأرض التي نحن ذاهبون إليها لنمتلكها. ولكن إذا تحوّلت قلوبنا، حتى لا نطيع، بل ننخدع، ونعبد آلهة أخرى، ونخدم ملذاتنا ومصالحنا، فقد وُضِع علينا اليوم، أننا سنهلك بالتأكيد خارج الأرض الطيّبة التي نعبر إليها هذا البحر الواسع لنمتلكها؛ لذلك فلنختر الحياة، لكي نحيا نحن ونسلنا، بطاعة صوته والالتصاق به، لأنه هو حياتنا وازدهارنا".

كذلك، كان جون كوتون شخصية بريطانية بيوريتانية مؤثّرة للغاية من الفترة نفسها، ومقاله "وعدُ الله [بمنح] مزرعته" عام 1630 يوضح بالتفصيل كيف أنّ المستوطنين البيوريتانيّين في أميركا يتمثّلون الملك داوود الذي يبني بيتاً لله في أرض وهبها الله نفسه.

يمكن أن نمضي أكثر في هذا الاتجاه، لكنّ الفكرة معروفة جيداً، ويمكن للباحث التوسّع في هذا الموضوع، وسيجد الكثير من المواد حوله. فكرة أنّ أميركا كانت أرض الله الموعودة، وأنّ المستوطنين الأوروبيّين الذين استعمروها كانوا يتشبّهون ببني إسرائيل من منظور ديني أمر ضروري لفهم جذور الوعي الأميركي.

لكن ماذا لو كان ذلك معتقدهم فعلاً؟

هنا يصبح الأمر مثيراً للاهتمام. لأنه للوهلة الأولى، قد لا يبدو هذا مثيراً للغاية: فالناس لديهم أفكار جنونية مختلفة، وكان المستعمرون الأوروبيون في أميركا لديهم ذلك. أين إذاً الأمر المثير للجدل؟ وما هو سبب الغضب مما يحدث إذاً؟

لقد بدأ هذا النقاش كمحاولة لفهم السبب وراء التفاف الولايات المتحدة والغرب عموماً حول "إسرائيل" في الإبادة الجماعية بقطاع غزة، وتحمّل عواقب هذا الموقف على مسؤوليتهم الخاصة. فهل بدأنا نرى الصورة؟

إنّ المجتمعات الغربية الاستعمارية، التي ترى نفسها نسخة جديدة من "إسرائيل القديمة" وأنها عنصر كبير ذو مغزى في سيكولوجيّتها وتعلّقها بالسرديات العبرية (اليهودية). لقد تأسّس الغرب الاستعماري، في الأساس، حول الأساطير اليهودية. 

وقد بدأ الحديث أصلاً عن خوف غربي شديد من الإفصاح عن دوافع التحيّز الغربي لـ "إسرائيل"، بما يجعل مواجهة هذا الخوف تبدو أكثر فظاعة من التورّط مع "إسرائيل" في جرائم قتل جماعيّة لأطفال غزة. إذاً، في السياق الذي نتحدّث عنه، ما هو هذا الخوف البدائي المرعب؟

العقدة التي تربط كلّ ذلك معاً مزيّفة!

رغم أنّ الحقيقة محدقة بالجميع علانيّة، فإنها لا تزال غير مرئيّة بالكامل. فهناك ثقافة حمقاء بالغة الغرابة فرضت القبول بأشياء غريبة تماماً باعتبارها بديهية. أحد هذه الأشياء: الفكرة الوهمية القائلة بأنّ الكتاب المقدّس اليهودي نصّ حقيقي قدّمه خالق الكون كما هو تماماً، ولا أقلّ من ذلك.

لكنّ الواقع أكثر بساطة من ذلك بكثير. في الواقع، كتب العبرانيون الكتاب المقدّس عن أنفسهم عبر القرون. وهذا يعني أنّ قصة وعد الله لهم بالأراضي ليست سوى خرافات واختلاقات وتبريرات بعد وقوعها، مع الرغبة في الظهور كقادرين على القسوة غير العادية، والتي يراها البعض دليلاً على القوة والشراسة، رغم أنها مجرّد اعتلال نفسي. وبمجرّد أن تدرك حقاً أنّ الأمر برمّته مختلق، أي أسطورة مختلقة ذاتياً، يبدأ نطاق الجنون يتكشّف عارياً.

الآن يمكننا أن ننظر إلى الخوف!

إذا كانت الرواية العبرية مزيّفة في المرة الأولى، عندما تمّ اختلاق وعد إله (فولكلوري) للمسمّى أبراهام أو أبرام بأثر رجعي بعده بقرون، فماذا عن المحاكاة المفترضة للقصّة الأصلية المختلقة؟

كيف يبدو المستوطنون الأوروبيون في عالم حيث اخترع العبرانيون واليهود قصصاً عن أنفسهم، وخرج البريطانيون لتدمير حضارات وسرقة أراضيها ومواردها في محاولة لتقليد رواية تاريخية زائفة تماماً لأحداث وشخصيات خياليّة مختلقة؟

إذا تمّ إثبات أنّ قصّة "إسرائيل" مزيّفة، فبعبارة أخرى، أين يترك ذلك الغرب الاستعماري؟ إذا كان الكتاب المقدّس مجرّد أساطير وليس حقائق، فماذا يفعل الأوروبيون في أميركا؟ وماذا فعلوا ليكونوا هناك؟ ولماذا؟

إذا لم يكن هناك كتاب مقدّس إلهي وكانت قصّة الذات اليهودية مجرّد خرافة مبالغ فيها، فإنّ قصة الغرب الاستعماري بأكملها قصة همجية عارية؛ لا عظات أو خُطب، ولا مصير واضح، ولا استثنائية، ولا غاية إلهية عليا.

بهذه الرؤية يمكننا البدء في فهم سبب اضطرارهم للدفاع عن قصة "إسرائيل" بأيّ ثمن.

هناك طبقة أخرى

كتب مزراحي عدّة مرّات في العام الماضي عن هويات المستعمرين المزيّفة. والآن حان الوقت لربط هذا الموضوع بالخط الرئيس أيضاً. فعندما انطلق المستعمرون الأوروبيون في أميركا لبدء مجتمع جديد وعالم جديد، تركوا وراءهم كلّ ما يعرفونه. ولم يعد بوسعهم ولا يريدون أن يكونوا رعايا بريطانيا بعد الآن: فلم يعودوا يعيشون فيها. وكان عليهم خلق سردية أو رؤية جديدة عن ماهيتهم وهويتهم، ومعنى جديد للمكان الجديد الذي يحتلّونه كجزء من هذه الرؤية.

لم يذهب المستوطنون الأوروبيون بعيداً في اختراع معنى وهوية ذلك المكان الجديد. وباعتبارهم "مؤمنين"، بيوريتان وبروتستانت، لجأوا إلى الكتاب المقدّس، وخاصة العهد القديم (العبري)، بحثاً عن هذا المعنى القديم الجديد.

هناك وجدوا رواية "الخروج" و"الأرض الموعودة". لقد اخترعوا ما كانوا عليه ودافعوا عنه بطريقة تخدم نظام معتقداتهم، لكنها غالباً تخدم غرورهم المتضخّم. أي ماذا يمكن أن يقال عن الناس الذين يعلنون أنفسهم شعب الله المختار كذريعة للسرقة والإبادة الجماعية؟

لقد صنعوا معنى وهوية مجتمع كانوا يختلقونه من الصفر. وفي القيام بذلك، اعتمدوا على أسطورة قديمة كانت بحدّ ذاتها مزيّفة ومختلقة للأسباب الأنانية أو النرجسية نفسها قبل ألف أو ألفي عام. بعبارة أخرى، تأسست أميركا كمحاكاة للكذبة الأصلية.

وليست أيّ كذبة: إنها كذبة تسمح لهم بسرقة وخداع وإبادة واستعباد الملايين بترخيص مزعوم خاصّ من الله نفسه. وهذا يضيف حالياً قوة تفجيرية خاصة إلى الخوف من فضح "إسرائيل" أو قصة الذات اليهودية، باعتبارها مجرّد أساطير وميثولوجيا محلية مبالغ فيها. 

إنها تترك الولايات المتحدة بلا شيء على الإطلاق، بلا هوية! ثقب أسود حلّ محلّ ما كان هوية من قبل، مليئة فقط بدماء وصراخ السكان الأصليين الأبرياء، ولا إله يقبلها.

إنّ هذا الخوف من انفضاح حقيقتهم وما هم عليه، في عالم تُفتضح فيه "إسرائيل" وقصة الذات اليهودية على حقيقتهما، هو الذي يدفع الغرب الاستعماري للسير وراء "إسرائيل" نحو الهاوية، وتدمير ما تبقّى من صورته وسمعته.

ومن عجيب المفارقات أنّ هذه المحاولة للإنكار والإخفاء هي التي تؤدي لافتضاح الحقيقة، وتجعل "إسرائيل" وداعميها الغربيّين يبدون على حقيقتهم السافرة؛ برابرة نرجسيّين بلا دين، متعطّشين للدماء!

مكانة الاستعمار في ثقافة الغرب

إنّ الاستعمار ليس شيئاً يفعله الغرب، بل هو ما يمثّله الغرب. فعبر القرون الخمسة الماضية (وقبلها أربعة قرون أخرى، باعتبار الحروب الصليبية استعماراً غربياً مبكراً)، كان الانتشار نحو بلدان الشعوب الأخرى، وإبادتها جماعياً، وسرقة كلّ ما تملكه، هو الانشغال الأبرز للمجتمعات الغربية. لم يكن هذا نشاطاً جانبياً أو عرضياًّ: بل كان قلب وروح بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال، ودول أخرى أيضاً.

الاستعمار هو الشيء الرئيس الذي كان يفعله المستوطنون الأوروبيون في أميركا الشمالية منذ وصولهم للمرّة الأولى، ويتفاقم بمرور الوقت، والآن يرسلون مخالب الولايات المتحدة إلى كلّ أركان الأرض، في محاولة لاحتكار الوعي الإنساني بأكمله بمنصات وقنوات واستحواذات، وشركات إعلام، ومنظّمات غير حكومية، وسياسيين وشخصيات عامّة مدفوعة الثمن.

إنّ الاستيلاء والهيمنة والاحتكار والتخريب والإكراه والإخضاع والاستغلال هو الإرث الكبير الذي خلّفته لنا الثقافة الغربية. ولا ينبغي الانخداع ببعض الدعاوى القضائية ومعاهد الأبحاث، فهي مجرّد أنشطة جانبية ثانوية. والواقع أنّ الاستعمار هو الشيء الرئيس في الغرب، وفي قلب هذا الاستعمار كان هناك دوماً "الكتاب المقدّس" وقصة الذات اليهودية.

إنّ فهم مركزية الكتاب المقدّس (اليهودي) في الاستعمار الغربي يوضح لنا لماذا تختار مؤسسات الغرب الانتحار دفاعاً عن "إسرائيل" التي لا يمكن الدفاع عنها: فبالنسبة للمستعمَر، قد يكون الموت الفعلي أفضل من الخضوع. أما بالنسبة للمستعمِر، فإنّ الموت الرمزي أفضل من الإذلال الذي ينطوي عليه فضح الكذبة التي دافع عنها دوماً. فهم لا يستطيعون تحمّل العار.

عندما تدعم المؤسسات الغربية حمّام الدمّ الإسرائيلي المجنون، فإنها لا تدافع عن "إسرائيل"، بل تدافع عن نفسها وعن هويتها المزيّفة المهتزّة بالغة الاضطراب والمثيرة للعار وتاريخها المليء بالجرائم المروّعة. فمن دون "إسرائيل"، ومن دون قصة الذات اليهودية، لا شيء لديهم يمنح سلوكهم الهمجي معاني عليا زائفة، ولا يوجد ما يخفي الفراغ الهائل للهوية الاستعمارية، وهي ليست أكثر من أوهام متضخّمة حول الذات يتمّ بثّها في أذهان أناس أرادوا النهب والقتل، لكنهم ما زالوا يحتفظون بمظهر أخلاقي محترم. إنهم يفضّلون تدمير العالم بأسره على أن يظهر للجميع أنّ كلّ ما دافعوا عنه هو الأكاذيب والجرائم.

عن المسيحية القديمة

يلاحظ مزراحي أنّ من المنطقي أيضاً أن تُظهر المؤسسات الغربية كثيراً من الازدراء للفروع القديمة من المسيحية، في سوريا وفلسطين المحتلة وروسيا، مثلاً.

إنّ وجود نوع من المسيحية ليس استعمارياً بطبيعته، لا يرى نفسه استمراراً لقصّة الذات اليهودية، يبدو وكأنه إحراج للغرب. فوجود مثل هذه المسيحية، التي تعيش في وئام مع ماضيها (فأصولها غير ملوّثة بالقتل والسرقة)، ويمكنها الانخراط في الحاضر السياسي (إذ تسعى إلى الوجود، وليس التوسّع بعنف) يلقي ضوءاً غير مبهج على (المسيحية) الاستعمارية. تريد الأخيرة القضاء على المسيحية القديمة لتظلّ هي المعتقد الحقيقي الوحيد.

ما لن يكون هذا الأمر حوله: المصالح الاستعمارية المشتركة، وعقيدة تفوّق العرق الأبيض، وقوة جماعات الضغط اليهودية.

لماذا يريدون إبقاء المسيحية القديمة خاضعة وبالكاد مستمرة، كأيديولوجية أصلية محلية وغير استعمارية؟ ذلك أنها تنفي روايتهم (المسيحية) وتضعفها.