من يوميات آنا إلى استغاثة هند: الإنسانية غائبة والإبادة تتكرر
"إسرائيل" التي رفعت اسم آنا فرانك لتُبرّر وجودها، وقدّمت نفسها كملاذ من النازية، هي ذاتها التي تعيد إنتاج النازية على طفلة فلسطينية.
-
الذاكرة البشرية لا تتعلّق بالكم، بل بالكيف.
في كلّ حرب كبرى تُختَزل آلاف الحيوات في خانة إحصائية باردة، لكنّ التاريخ لا يُحفظ بالأرقام. فالذاكرة البشرية لا تتعلّق بالكم، بل بالكيف؛ إنها تبحث عن قصة تلتصق بالوجدان، وما يرسّخ المأساة في وعي الإنسانية ليس عدد القتلى، بل حكاية طفلة واحدة تمنح الألم وجهاً وصوتاً في القرن العشرين ارتسم ذلك الوجه في ملامح آنا فرانك، الفتاة اليهودية التي كتبت يومياتها في مخبأ ضيّق بأمستردام قبل أن يبتلعها معسكر نازي.
وفي القرن الحادي والعشرين يتردّد صدى مشابه من غزة، حيث دوّى صوت هند رجب عبر الهاتف: "أنا خائفة.. تعالوا أنقذوني". لم يأتِ أحد، واستُشهدت مع عائلتها، لكنّ صوتها صار ذاكرة أبدية تتحدّى النسيان.
آنا فرانك تركت كلمات مكتوبة صارت من أكثر الكتب قراءة في العالم. كانت شهادتها خاصة، مكتوبة في سرية تامّة، ولم تكن معدّة للنشر، وهو ما منحها صدقاً مؤلمًا حين خرجت للعالم لاحقاً. هند رجب تركت أنيناً مرتجفاً سجّلته الأجهزة وأذاعته الشاشات. كانت شهادتها عامّة منذ اللحظة الأولى، استغاثة أُطلقت في الفضاء العامّ مباشرة، لتجعل كلّ من سمعها شاهداً على تخاذل العالم في الزمن الحقيقي. كلاهما لم يُكمل عقده الثاني، وكلاهما صار شاهداً على الإبادة. آنا خطّت أحلامها الصغيرة، وهند نطقت خوفها الأخير. وبين الورق والهواء، تتجسّد الحقيقة ذاتها: حين تُذبح الطفولة، لا يبقى سوى شهادة نقية تفضح قسوة العالم.
لم تُنقَذ آنا فرانك. تركها العالم تواجه قدرها، ثم عاد ليُشيّد لها متاحف ويحوّل يومياتها إلى مسرحيات وأفلام. واليوم يتكرّر المشهد مع غزة: عالم صامت متواطئ، بينما تتكفّل الثقافة بقول ما عجزت عنه السياسة. قصة هند رجب ألهمت وثائقيات، وصارت فيلماً روائياً وقّعته المخرجة كوثر بن هنية وحظي بتصفيق تاريخي في البندقية. بل وأُنشئت مؤسسة تحمل اسمها لملاحقة مجرمي الحرب.
وهنا يكمن دور الفن في تخليد المأساة؛ إنه ينتشلها من سياقها المحلي الفردي، ويمنحها لغة عالمية تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة، فتتحوّل قصة الطفلة إلى رمز للإنسانية الجريحة بأكملها. فالفن لا يكتفي بالتوثيق بعد وقوع المأساة، بل يصبح هو نفسه فعل مقاومة، يصرخ حين يُكمَّم فم السياسة، ويبني أرشيفاً للمستقبل لضمان عدم تزوير الحقيقة. الثقافة هنا ليست ترفاً، بل سلاح ذاكرة ومقاومة.
"إسرائيل" التي رفعت اسم آنا فرانك لتُبرّر وجودها، وقدّمت نفسها كملاذ من النازية، هي ذاتها التي تعيد إنتاج النازية على طفلة فلسطينية. المفارقة صارخة ومؤلمة نفسياً؛ فالأداة التي استخدمتها "إسرائيل" لكسب التعاطف العالمي -وهي صورة الضحية البريئة- هي نفسها الصورة التي تسحقها اليوم بآلتها العسكرية. "دولة" قامت على صورة الطفلة الضحية، تحوّلت إلى قاتلة طفلة أخرى.آنا كانت جسراً لتعاطف العالم مع اليهود، وهند تكشف اليوم الوجه الآخر لـ "إسرائيل": من ضحية مضطهَدة _ "اليهود"_ إلى جلّاد "الصهيونية" يعيد صناعة الألم الذي ادّعى أنه وُجد ليمنع تكراره.
كما صارت آنا فرانك رمزاً لفهم النازية في الأمس، تتحوّل هند رجب إلى رمز لفهم الصهيونية في الحاضر. الفن والأدب لا يغيّران نتائج المعارك، لكنهما يغيّران وعي الأجيال. إنهما يحوّلان المأساة من حدث عابر إلى ذاكرة طويلة المدى، عصيّة على الطمس والنسيان. فالعمل الفني يجرّد المأساة من خصوصيتها الضيّقة، ليجعلها ملكاً للوجدان العالمي، فيبكيها الياباني كما يبكيها البرازيلي، لأنها لم تعد قصة "هند" فقط، بل قصة "الطفولة" في مواجهة الوحشية. إنه الدور نفسه الذي أدّته لوحة "غرنيكا" لبيكاسو، التي حوّلت قصف قرية إسبانية إلى صرخة عالمية خالدة ضدّ وحشية الحرب، أو رواية "كوخ العم توم" التي كشفت فظاعة العبودية لجمهور لم يعشها.
وهنا تتجلّى سطوة الفنّ الأخلاقية. فالسياسة، بلغة مصالحها المعقّدة، تتقن فنّ التبرير وتستخدم مصطلحات باردة كـ"الأمن القومي" لتجريد أفعالها من إنسانيتها. أما الفن، فيتلقّف الحقيقة الخام - كاستغاثة طفلة على وشك الموت - وينسج منها شهادة خالدة. إنه لا يكتفي بعرض الأثر الصارخ للواقع، بل يعيد تشكيله في رؤية تتحدّى النسيان. فالفيلم الذي يضعنا في قلب لحظة هند الأخيرة، يحوّل صوتها من مجرّد دليل جنائي إلى ضمير يؤرق العالم. هكذا يهزم الفن تعقيدات السياسة؛ لأنه يخاطب ما هو أبدي فينا، إنسانيتنا المشتركة، ويجعل من المستحيل الاختباء خلف الأعذار الواهية. فلحظة فنية واحدة قادرة على فضح زيف ألف بيان سياسي، لأنها تراهن على الثابت في الروح، بينما تراهن السياسة على المتقلّب في المصالح.
إذا صارت آنا فرانك بعد عقود رمزاً عالمياً للضحايا، فإنّ هند رجب تصرخ في وجوهنا بأنّ العالم لم يتعلّم. ما زالت الطفولة تُباد، وما زال الصمت الدولي يتكرّر، وكأنّ ذاكرة الضحية أُفرغت من معناها.لكنّ صوت هند، والأفلام التي وثّقت استغاثتها، والدعاوى التي تحمل اسمها، كلّها تشي بأنّ الثقافة قد تسبق السياسة في كتابة الذاكرة، وربما في إعادة رسم مسار التاريخ. فحين تفشل الحكومات في تحقيق العدالة، قد تنجح قصيدة أو فيلم في إبقاء القضية حيّة في قلوب الملايين. العالم الذي بكى آنا فرانك لا يملك أن يصمت أمام هند رجب. وإلّا فإنّ الضحية التي تحوّلت إلى جلّاد ستبقى تكرّر الإبادة بلا عقاب، وسيظلّ الدرس المؤجّل يطرق أبواب الإنسانية المنهكة.