"إسرائيل" وتقويض منظومة القانون الدولي
ما جرى في قطاع غزة لا يهدّد الفلسطينيين فقط، بل يُقوّض النظام العالمي بأسره. إذ إنّ ترك جرائم الإبادة من دون محاسبة المحتل لا يُنتج سلاماً، بل يغرس بذور حروب مقبلة، سيكون العالم كلّه مرشحاً لأن يدفع ثمنها.
-
صمت المجتمع الدولي على ما يحدث في غزة هو مشاركة ضمنية في الجريمة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتشكيل عصبة الأمم، التي تغيّر اسمها لاحقاً إلى الأمم المتحدة، اجتمع العالم في تلك الهيئة الدولية في مانهاتن بنيويورك للعمل على ضبط إيقاع أيّ نزاع أو صراع بين الدول، من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وما تبعه لاحقاً من العهدين، الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية وكذلك العهد الخاص بالحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها عام 1966.
هذا بالإضافة إلى القوانين الدولية المتعدّدة التي جاءت مع انتهاء تلك الحرب، خصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة عام 1948 وكذلك البروتوكول الإضافي لتلك الاتفاقيات والصادر عام 1977، وصولاً إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) والذي يجرّم أعمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وليس انتهاء باتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وتحديداً المادة الثانية.
لكنّ المعضلة الحقيقية والتي كانت أمام العالم هي ازدواجية المعايير التي تتعامل بها القوى العظمى، خصوصاً الدول التي تمتلك حقّ النقض (الفيتو) في منح الحقوق إلى أصحابها أو ردّ المظالم وإيقاف إلحاق الضرر بالشعوب والأمم الضعيفة أو المضطهدة كشعوب العالم الثالث، وهو ديدن تلك البلدان التي أتخمت البشرية جعجعة عن كلّ تلك القوانين آنفة الذكر؛ إذ عجز العالم على مدار عامين عن إيقاف مسلسل الدم في قطاع غزة، وبات ذلك المكان عبارة عن جحيم لا يمكن وصفه بأقلّ من ذلك.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، قامت "إسرائيل" بانتهاك القواعد والقوانين الدولية كافة، بدءاً من المادة الـ 33 التي تدعو إلى حظر العقوبات الجماعية وكلّ أشكال الترويع، إلى المادة الـ 55 التي تلزم أيّ احتلال بتوفير الغذاء والدواء، إلى المادة الـ 147 التي تصنّف القتل العمد والتعذيب والمعاملة غير الإنسانية على أنه جريمة حرب. بالإضافة إلى المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية والتي تتحدّث عن الإبادة والتهجير القسري، ثم المادة الثامنة التي تدين استهداف المدنيين والممتلكات المدنية، والعديد من المواد التي لا متسع للخوض فيها.
والسؤال المهم اليوم: ماذا فعلت "إسرائيل" عندما تجاوزت كلّ تلك القوانين؟ وهل ستكون لذلك تبعات على الصعيد العربي والعالمي؟ وما هو ردّ فعل الأجيال القادمة تجاه تلك الانتهاكات؟
لقد أمعنت "دولة" الاحتلال في تقويض القانون الدولي الإنساني وداست على مواثيق حقوق الإنسان، بعد أن قامت بشنّ أكثر من 90 ألف غارة جوية على مساحة لا تتجاوز أكثر من 365 كيلومتراً مربعاً، يكتظ بالسكان، الذين يتجاوز عددهم أكثر من 2.300.000 نسمة، قضى منهم حتى اللحظة قرابة 60 ألف شهيد و15 ألف مفقود ومئات آلاف الجرحى، هذا بالإضافة إلى نزوح أكثر مليون و900 ألف فلسطيني عدة مرات إلى أماكن لا يوجد فيها أيّ نوع من الأمن.
كما تمّ استهداف الخيام والبيوت وكذلك المؤسسات الصحية والتعليمية، في مشهد يوضح كيف أنّ "دولة" الاحتلال لم تحترم أيّ ميثاق أو عهد عقدي أو دولي مدني، الأمر الذي ينذر بكارثة على الصعيد العالمي، خصوصاً مع استمراء مشاهد الدم، التي سيكون لها بالغ الأثر على أيّ صراع لاحق بين الدول المتنازعة.
لقد ارتكبت "دولة" الاحتلال جرائم موثّقة بالصوت والصورة، خصوصاً في ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تنكرها، بل برّرتها، وذهبت أبعد من ذلك بمحاولة شرعنتها دولياً، سواء عبر رواياتها الرسمية أو من خلال أدواتها الإعلامية والدبلوماسية. كما قامت على أرض الواقع باستهداف البنية التحتية للحياة، من المستشفيات إلى المدارس، ومن المخيمات إلى تكيات الطعام ومحطات التحلية، حتى بات الموت أكثر حضوراً من الخبز، وصارت الحياة استثناءً في يوميات الفلسطينيين.
ولقد تجاوزت "إسرائيل" في حربها على قطاع غزة كلّ الخطوط الحمر التي وضعتها المنظومة الدولية منذ منتصف القرن الماضي والتي تمّت الإشارة مطلع هذا المقال إلى بعضها، ولم تكتفِ بخرق الاتفاقيات والنصوص، بل عمدت إلى إفراغها من مضامينها، مستندة إلى مظلة الحماية الغربية، خصوصاً من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكتفِ بعدم إدانة الجرائم، بل واصلت دعمها العسكري والسياسي واللوجستي لـ "دولة" الاحتلال، بالإضافة إلى بعض البلدان الغربية وعلى رأسها ألمانيا.
وإنّ ما قامت به "دولة" الاحتلال ستكون له تبعات بالغة الأثر على الأجيال اللاحقة، خصوصاً الأوروبية التي تعتقد أنّ "دولة" الاحتلال عبثت بمنظومة القوانين التي قد تؤدي إلى انهيار مفهوم الإنسانية، وهذه الأجيال التي تظاهرت في أوكسفورد وهارفارد وكولومبيا وغيرها من الجامعات، هي من سيقود المشهد الدولي لاحقاً، وحينها لن يكون هناك ظهير لهذه "الدولة" التي تؤمن بالدم وإبادة العرق الفلسطيني.
أما على صعيد الأجيال الفلسطينية والعربية، فإنها لن تغفر، وسيظلّ الحقد يكبر مع كلّ قطرة دم تسيل، بانتظار الفرصة المؤاتية للثورة في وجه هذا الوحش المستأسد بالإمبريالية العالمية، حيث سيكون الرد موجعاً، عابراً للزمن. فالأجيال التي رأت الموت في عيون أمهاتها، والجوع في بطون إخوتها، والخذلان في صمت العالم، لن تنسى. لن ترى في تلك القوانين سوى شعارات مفرغة من المعنى، ولن تؤمن بمنظومة لم تحمِ الطفولة ولم تحاسب المجرم. ستنمو هذه الأجيال على فقدان الثقة، وربما على خيار المقاومة باعتباره السبيل الوحيد المتاح لحفظ الكرامة. وستحمل ذاكرة الدم والحصار والخذلان، ذاكرة ستكتب التاريخ بعيون الضحايا وليس ببيانات المتحدّثين.
وفي المحصّلة، فإنّ ما جرى في قطاع غزة لا يهدّد الفلسطينيين فقط، بل يُقوّض النظام العالمي بأسره. إذ إنّ ترك جرائم الإبادة من دون محاسبة المحتل لا يُنتج سلاماً، بل يغرس بذور حروب مقبلة، سيكون العالم كلّه مرشحاً لأن يدفع ثمنها.
إنّ صمت المجتمع الدولي على ما يحدث في غزة ليس مجرّد تواطؤ بالصمت، بل هو مشاركة ضمنية في الجريمة. وإنّ فشل المنظومة الأممية في وقف هذه الإبادة، أو حتى في تسميتها باسمها الحقيقي، لا يُضعف فقط مصداقيّة القانون الدولي، بل يُسقط آخر ما تبقّى من شرعية أخلاقية له.