إلغاء زيارة قائد الجيش اللبناني لواشنطن: حين يتحوّل الضغط السياسي إلى وسام وطني
هل المطلوب من الجيش اللبناني أن يتحوّل إلى أداة تنفيذ لسياسات إقليمية ودولية، حتى لو كان الثمن تمزيق النسيج الداخلي وجرّ البلاد إلى صدامات لا تحتملها؟
-
التجربة اللبنانية أثبتت أن أي إضعاف للجيش يعود بالضرر على جميع الأطراف.
شكّل قرار إلغاء زيارة قائد الجيش اللبناني لواشنطن محطة مفصلية في مسار العلاقة المعقّدة بين المؤسسة العسكرية اللبنانية والإدارة الأميركية، وفتح الباب واسعًا أمام أسئلة حول حدود النفوذ الخارجي، وحول قدرة رأس الهرم العسكري على الدفاع عن ثوابت وطنية في لحظة ابتزاز سياسي مكشوفة.
أولًا: خلفية التوتر بين واشنطن والجيش اللبناني
لم يكن هذا الإلغاء حدثًا معزولًا، بل جاء في سياق من التصريحات الأميركية المتصاعدة التي لوّحت مرارًا بأن استمرار الدعم العسكري للبنان مشروط بـ«أدوار» معينة للجيش، خصوصًا في ما يتّصل بملف سلاح المقاومة وتطبيق بنود القرارات الدولية وفق القراءة الأميركية–الإسرائيلية لها.
في المقابل، حاول قائد الجيش في أكثر من مناسبة التأكيد على ثوابت واضحة، من بينها:
أن الجيش ليس أداة في مشروع تصفية المقاومة أو دفع البلاد إلى حرب أهلية جديدة.
أن أولويته تتجسد في حماية الحدود، والحفاظ على الاستقرار الداخلي، ومنع انقسام المؤسسة على أسس طائفية وسياسية.
تنفيذ أي خطة تتعلق بحصر السلاح بيد الدولة يجب أن يأتي في إطار توافق وطني شامل، لا كترجمة لإملاءات خارجية أو تهديدات بقطع المساعدات.
هذه المقاربة اصطدمت تدريجيًا مع لغة أميركية فجّة تزايدت حدّتها مع اقتراب الاستحقاقات الكبرى في لبنان، من رسم مستقبل الوضع على الحدود الجنوبية، إلى ملف تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار - بحسب شروطهم غير المطروحة في اتفاقية وقف اطلاق النار - وترتيبات ما بعد الحروب.
ثانيًا: الضغوط الأميركية وتسييس ملف المساعدات
خلال الأشهر الماضية، صدرت عن مسؤولين في الإدارة الأميركية وتصريحات في الإعلام الغربي لهجة غير مسبوقة تجاه الجيش اللبناني، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور:
1. التهديد بتجميد أو إعادة تقييم المساعدات إذا لم يتّخذ الجيش مواقف أكثر تشددًا تجاه المقاومة وقوى محددة في الداخل اللبناني.
2. التشكيك في حياد المؤسسة العسكرية عبر الإيحاء بأنها «متساهلة» أو «متواطئة» مع قوى محلية معادية للسياسة الأميركية.
3. تسريب معلومات عن إعادة النظر في دور الجيش في ترتيبات الجنوب، لمصلحة صيغ أمنية جديدة أكثر التصاقًا بالمصالح الأميركية–الإسرائيلية.
في المقابل، جاءت مواقف قائد الجيش في أكثر من خطاب وتصريح لتكرّس خطًّا وطنيًا واضحًا، يرفض تحويل المؤسسة العسكرية إلى أداة ضغط على أي مكوّن لبناني، ويربط أي خطوات استراتيجية بمبدأ الحوار الداخلي والسيادة الوطنية. هذا التباين سرعان ما تُرجم في كواليس الاتصالات الدبلوماسية إلى توتر صامت، قبل أن يتخذ شكلًا علنيًا بإلغاء الزيارة.
ثالثًا: دلالات إلغاء الزيارة
1. رسالة سيادية لا «خطأ بروتوكوليًا»
من الزاوية اللبنانية، لم يكن إلغاء زيارة قائد الجيش تفصيلًا إداريًا أو خلافًا على برنامج لقاءات، بل حمل رسالة سياسية واضحة:
أن رأس المؤسسة العسكرية يرفض أن يحضر إلى واشنطن تحت سقف شروط مهينة، أو كمن يمثل طرفًا ضعيفًا يأتي «ليُستدعى ويُوبّخ» على مواقفه.
هذا السلوك أعاد الاعتبار إلى مفهوم أن الجيش مؤسسة وطنية لا ملحقة، وأن الدعم الخارجي – مهما بلغت أهميته – لا يعلو على مبدأ الكرامة والسيادة.
2. ارتداد داخلي: تعزيز صورة الجيش
على المستوى الداخلي، أسهم الحدث في تعزيز رصيد قائد الجيش في الشارع اللبناني، وخصوصًا لدى تلك الفئة التي تخشى من تحوّل الجيش إلى مجرد أداة في مشروع خارجي. فمشهد قائد جيش يفضّل إلغاء زيارة رسمية على أن يقدّم تنازلات في موقفه الوطني، ظهر لدى قسم واسع من الرأي العام كنوع من «التمرّد المحسوب» دفاعًا عن الكرامة الوطنية.
في بلد اعتاد أن يرى مسؤولين يهرولون إلى العواصم طلبًا لرضاها، بدا قرار الإلغاء استثناءً إيجابيًا يذكّر بأن لبنان لا يزال قادرًا على إنتاج شخصيات رسمية تقرأ المشهد بعيون لبنانية، لا بعيون السفارات.
3. انزعاج أميركي مكشوف
في المقابل، لم تُخفِ الدوائر الأميركية امتعاضها. فالتصريحات حملت نبرة اتهامية مبطّنة، حاولت الإيحاء بأن الجيش اللبناني يبتعد عن «الخط» الذي ترسمه واشنطن لـ«الشركاء».
هذا الانزعاج يؤشر إلى أن الولايات المتحدة كانت تراهن على الزيارة كفرصة لشدّ الخناق السياسي على قيادة الجيش، وحين سقط هذا الرهان، لجأت إلى خطاب توتيري لتقليل الخسارة المعنوية.
رابعًا: تداعيات الحدث على علاقة الجيش بواشنطن
1. إعادة تعريف معادلة الدعم العسكري
من المرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة إعادة تقييم متبادلة:
واشنطن ستدرس خيارات الضغط: تخفيض المساعدات، إعادة توزيع أنواع الأسلحة - التي هي بالأساس ليست ذات جدوى فعلية أو عملية حتى لا تُستخدم ضد الكيان الإسرائيلي - أو فرض شروط إضافية على التدريب والتسليح.
هذا التحول – إذا استُكمل – يمكن أن يضع أساسًا لعلاقة جديدة تقوم على الندّية النسبية بدل علاقة «المانح–المتلقي».
2. موقع الجيش في معادلة الداخل
داخليًا، قد يفتح هذا الحدث الباب أمام استقطاب سياسي حول الجيش نفسه:
قوى ستسعى إلى استثمار موقف قائد الجيش للدفاع عن دور المؤسسة العسكرية كضامن للوحدة الوطنية، وكسدّ في وجه أي مشروع لتفجير الداخل خدمة لمعادلات خارجية.
في المقابل، قد تحاول قوى أخرى التحريض على الجيش عبر تبنّي الرواية الأميركية، واتهامه بالتراخي أو بعدم تطبيق القرارات الدولية كما يجب، بهدف إضعافه أو ابتزازه سياسيًا.
غير أن التجربة اللبنانية تثبت أن أي إضعاف للجيش يعود بالضرر على جميع الأطراف، لأنه يفتح الباب أمام الفوضى الأمنية ومشاريع الميليشيات المتعددة.
خامسًا: أبعاد وطنية أعمق – الجيش بين الضغط الخارجي والتوازن الداخلي
ما جرى لا يمكن قراءته فقط في إطار زيارة أُلغيت أو تصريحات غاضبة. في عمق المشهد، ثمّة صراع على هوية دور الجيش اللبناني:
هل هو جيش يبني عقيدته القتالية على حماية الوطن بكل مكوّناته، والتعامل مع المقاومة كجزء من نسيج معقّد لا يُعالج بالقوة العسكرية وحدها؟
أم هو جيش مطلوب منه أن يتحول إلى أداة تنفيذ لسياسات إقليمية ودولية، حتى لو كان الثمن تمزيق النسيج الداخلي وجرّ البلاد إلى صدامات لا تحتملها؟
قرار إلغاء الزيارة، في هذا السياق، يبدو أشبه بوضع حدّ لخط أحمر:
الجيش يمكن أن يتعاون، أن يتلقى الدعم، أن ينسّق، لكنه لا يقبل أن يُستتبع أو يُستخدم في تصفية حسابات الآخرين على أرضه.
كما أكد أن في المؤسسة العسكرية – على الرغم من الضغوط والأزمات – من لا يزال قادرًا على رفع سقف الموقف الوطني ولو على حساب حساباته الشخصية أو طموحاته.
إلغاء زيارة قائد الجيش لواشنطن، بهذا المعنى، ليس خسارة دبلوماسية بقدر ما هو استثمار في كرامة وطنية.
ففي زمن الانهيارات المتتالية، قد يكون أثمن ما يملكه بلد صغير مثل لبنان هو أن يقول مسؤول فيه:
لن أذهب إلى حيث يُراد لي أن أنحني… بل إلى حيث أستطيع أن أقف منتصب القامة، ولو من وراء الحدود.