الجزائر تفتح ملف الجرائم النووية الفرنسية.. دلالات التوقيت

هل تمضي الجزائر في فتح ملف الجرائم النووية الفرنسية كتوجّه رسمي للدولة؟ أم ستكتفي بتحريك الملف فقط كجزء من مبدأ المعاملة بالمثل رداً على فرنسا؟

0:00
  •  التفجيرات النووية التي قامت بها فرنسا في جنوب الجزائر تعدّ إبادة جماعية.
    التفجيرات النووية التي قامت بها فرنسا في جنوب الجزائر تعدّ إبادة جماعية.

جرائم الحرب والإبادة لا تسقط بالتقادم، قد تؤجّل لكنها لا تلغى إطلاقاً؛ وفرنسا عرابة الحضور الأوروبي في أفريقيا عموماً، والجزائر على وجه التحديد، سجّلت سجلاً طويلاً من جرائم الحرب والإبادة.

لا يتعلق الأمر هنا بمليون ونصف مليون شهيد جزائري قتلتهم فرنسا على مدار 130 عاماً من عمر الاستعمار، لكنه يستدعي جريمة حرب غير مسبوقة لا تزال تبعاتها متواصلة وممتدة، رغم انتهاء الاستعمار الفرنسي للجزائر، هذه الجريمة هي جريمة التجارب النووية الفرنسية في جنوب الجزائر.

فهل تمضي الجزائر في فتح ملف الجرائم النووية الفرنسية كتوجّه رسمي للدولة؟ أم ستكتفي بتحريك الملف فقط كجزء من مبدأ المعاملة بالمثل رداً على فرنسا؟

مطلع كانون الثاني/ يناير 2025؛ وعلى خلفية تشنج العلاقة عقب تغيّر الموقف الفرنسي من ملف الصحراء الغربية؛ حركت الجزائر ملف الجرائم النووية الفرنسية، واستعد مجلس الأمة الجزائري لإصدار لائحة تطالب الحكومة الفرنسية بتنظيف المواقع، التي أجرت فيها تجارب نووية بداية ستينيات القرن الماضي، قبيل الاستقلال، والتي استمرت بعده لسنوات. يأتي ذلك في وقت يشكل فيه ملف التجارب النووية أحد أهم الخلافات في العلاقات الجزائرية - الفرنسية، التي تمر بأسوأ حالاتها منذ الصيف الماضي.

وقامت فرنسا في 13 شباط/ فبراير 1960، بتفجير أول قنبلة ذرية، في إطار العملية التي تحمل اسم "اليربوع الأزرق"، في سماء صحراء رقان، ما تسبّب في كارثة طبيعية وبشرية، وبحسب الخبراء، يُعادل هذا التفجير الذي تتراوح قوته بين 60 و70 ألف طن من المتفجرات خمسة أضعاف قنبلة هيروشيما باليابان. وقد كشفت وثائق رفعت عنها السرية في 2013، أن الآثار الإشعاعية للتفجير طالت غرب أفريقيا بأسره وجنوب أوروبا.

بات مؤكداً، وفق شهادات موثقة وتأكيد عديد من المؤرخين، أنّ فرنسا قامت خلال فترة الستينيات من القرن الماضي بـ 57 تجربة نووية شملت 4 تفجيرات جوية في منطقة رقان، و13 تفجيراً تحت الأرض في عين إيكر، بالإضافة إلى 35 تجربة إضافية في الحمودية، و5 تجارب على البلوتونيوم في منطقة عين إيكر الواقعة على بعد 30 كيلومتراً من الجبل، حيث أجريت التجارب تحت الأرض.

ولم تكتف فرنسا بإجراء تجارب نووية على عينات من مختلف الحيوانات والأشجار، بل أجرت تجارب على 150 سجيناً بينهم حوامل وأطفال وشيوخ، واستعملت أجهزة خاصة للتمكن من تحديد مفعول التفجيرات وإشعاعاتها على الكائنات الحية والنباتات والمياه، بالرغم من المعارضة الدولية لهذا النوع من التجارب، بالنظر إلى خطورتها وما ينتج من سرعة انتشار السحاب النووي عبر العالم، وهو ما حدث فعلاً، إذ امتد إلى ليبيا وإسبانيا والبرتغال.

ويذكر الباحث الفرنسي المتخصص في التجارب النووية الفرنسية برينو باريلو، أن السلطات الفرنسية استعملت 42 ألف جزائري، من بینهم أسرى "فئران تجارب" في تفجير عام 1960، وذكر أن النفايات وبقايا التفجير تسبّبا في هلاك 60 ألف جزائري بین 1960 إلى 1966، ومن أخطر ما كشف عنه أن فرنسا استعملت الجزائريين في التجارب النوویة من دون أن تقوم أصلاً بأرشفة أو حفظ هويات الضحايا.

ووفق القانون الدولي، فإن التفجيرات النووية التي قامت بها فرنسا في جنوب الجزائر، تعدّ إبادة جماعية بمفهوم القانون الدولي الإنساني وانتهاكاً للاتفاقيات الدولية والمواثيق الخاصة بالحقوق الإنسانية والفردية، تترتب عنها المسؤولية الدولية على فرنسا وتطالبها بالتعويض المادي والمعنوي للضحايا.

عاد موضوع التجارب النووية الفرنسية ليطرح بقوة، منذ أن تدهورت العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق، في نهاية تموز/يوليو الماضي، بسبب إعلان قصر الإليزيه اعترافه بخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء.

وفي 20 كانون الثاني/ يناير 2025، أكد رئيس مجلس الأمة، والذي يعد وفق الدستور الرجل الثاني في بنية النظام السياسي الجزائري؛ صالح ڤوجيل، أن بلاده "تطالب فرنسا بتحمّل مسؤوليتها الثابتة، بخصوص إزالة نفايات التفجيرات النووية، التي أجراها المستعمر الفرنسي في صحراء الجزائر، إبان الفترة الاستعمارية"، داعياً إلى إبراز هذا الموقف في القانون، الذي يتم التحضير له. كما أشار إلى أن الجزائريين الذين يعيشون في المناطق المجاورة لمواقع التفجيرات "ما زالوا يعانون من مخلفاتها إلى يومنا".

ونهاية العام الماضي، دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في خطاب أمام غرفتي البرلمان، فرنسا، إلى التحرك لتطهير المناطق، التي شهدت تجاربها النووية، وعندما قام تبون بزيارة روسيا في حزيران/ يونيو 2023، عرض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إبرام اتفاقيات تتعلق بإزالة مخلفات التجارب النووية الفرنسية، وقال إن الجزائر "ترغب في الاستعانة بأصدقائنا الخبراء الروس".

استدعت الجزائر ملف الجرائم النووية الفرنسية على خلفية التصعيد والتوتر في العلاقة بين البلدين، وبالتالي دلالات توقيت فتح الملف من طرف الجزائر الآن جزء من حالة تردي العلاقة وليس توجّهاً جزائرياً رسمياً بأثر رجعي لمعاقبة فرنسا أو دفعها إلى التعويض، ما يعني أن عودة الدفء إلى العلاقات مرة أخرى قد تُفضي إلى تجميد الملف.

وبالتالي، لا تخلو دلالات توقيت فتح الجزائر ملف الجرائم النووية التي ارتكبتها فرنسا من التوظيف السياسي اللحظي المتموضع في إطار التوتر والتصعيد بين البلدين، وليس كخطة سياسية وطنية تقودها الجزائر، حتى وإن كانت قد خصصت لها أطراً وهياكل، وأنشئت من أجلها الوكالة الوطنية لإعادة تأهيل المواقع القديمة للتجارب والتفجيرات النووية الفرنسية في الجنوب الجزائري سنة 2021، إذ يلاحظ تأخر الجزائر عن بناء هذه الأطر ستة عقود تقريباً. ولم تفكر في إخراجها إلا عقب حدوث توتر في العلاقة مع فرنسا، إذ بعد يومين فقط من إعلان وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، أنه يتمنى إنهاء العمل باتفاق الهجرة 1968 الموقّع بين فرنسا والجزائر، خرج رئيس مجلس الأمة الجزائري، صالح قوجيل، بتصريح يطلب فيه إعداد تقرير عن الألغام التي زرعتها فرنسا في حدود الجزائر والبالغ عددها 11 مليون لغم على طول حدود الجزائر المشتركة مع تونس والمغرب.

وبالتالي، استدعاء ملف التجارب النووية الفرنسية يأتي في سياق سجال الخلافات الحاصلة بين فرنسا والجزائر، والذي يبدو أنه يتدحرج صوب التصاعد، لا سيما بعد أن قررت فرنسا من خلال وزير العدل الفرنسي، جيرالد دارمانان، سحب ملف جديد من أرشيف المعاهدات بين البلدين، بعد أن دعا إلى إلغاء اتفاقية عام 2013 التي تتيح للنخبة الجزائرية من حاملي جواز السفر الدبلوماسي والمهمة دخول فرنسا من دون تأشيرة.

يبدو أن فرنسا ويمينها المتطرف تخسر قطعة دومينو أخرى في أفريقيا، وهذه المرة الجزائر، في المقابل، يبدو أن الجزائر قررت الذهاب الى التصعيد، وقررت فتح ملف جرائم فرنسا النووية، التي لا تزال تبعاتها ممتدة حتى اللحظة، وما بين السياسي والإنساني، فإنه من المهم أن يكون الدافع الجزائري ليس مجرد ابتزاز فرنسا لتحسين شروط العلاقة معها، ولكن لمنع تكرار تجربة جرائم الإبادة. ذلك أن خريطة النظام العالمي تبدو مقبلة على جملة متغيرات في عين العاصفة منها منطقة الشرق الأوسط، وحتى لا يصبح العالم محكوماً بقانون الغاب، فإن الجزائر مطالبة اليوم أكثر من أي وقت آخر؛ بعد أن باتت عضواً في مجلس الأمن بالمضي في ملاحقة فرنسا على جرائمها النووية كتوجه سياسي رسمي عام غير مقرون بمتغيّر أو توتر أو توقيت معين نتيجة لأزمة ما. فجرائم الحرب والإبادة لا تسقط بالتقادم.