الصمود البوليفاري: فنزويلا تواجه حرباً اقتصادية عنيفة وتتجاوزها بصلابة

ليست فنزويلا هدفاً معزولاً؛ بل هي جزء من مشروع أميركي واسع لإعادة ترتيب أميركا اللاتينية وفق رؤية تمنع ظهور قوى مستقلة أو حكومات يسارية ذات توجهات سيادية.

  • احتمالات التدخل الأميركي: من الخيار العسكري إلى العمليات السرية.
    احتمالات التدخل الأميركي: من الخيار العسكري إلى العمليات السرية.

تُعدّ فنزويلا اليوم واحدة من أبرز ساحات الصدام الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والمحور المقاوم للهيمنة الأميركية. فالبلد الذي يملك أضخم احتياطي نفطي مُثبت في العالم، يواجه منذ أكثر من عقد عقوبات مالية واقتصادية قاسية، ومحاولات انقلابية متكررة، وعمليات تخريبية مُنظَّمة للبنية التحتية والإنتاج، إضافة إلى حملة إعلامية عالمية مسعورة تهدف إلى تجريد الحكومة البوليفارية من أي شرعية.

ومع ذلك، وبرغم الانهيار الحاد في الإيرادات النفطية ونقص السلع والمواد الغذائية لفترات كبيرة، نجحت كراكاس في الحفاظ على تماسك سياسي وعسكري فاق كل التوقعات، خاصة بالنظر إلى أنها تواجه القوة العظمى الأولى على الكوكب بمفردها تقريباً، من  أن تنهار مؤسسات الدولة أو تنقلب القوات المسلحة أو تتحول البلاد إلى فوضى شاملة كما راهنت واشنطن.

هذا التوازن الدقيق والهش بين الضغط الخارجي الخانق والصمود الداخلي المُستميت، يضع فنزويلا في قلب معركة أوسع، هي في حقيقتها معركة حول مستقبل أميركا اللاتينية كلها، ومن يحدد قواعد النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين.

قاعدة شعبية صلبة في مواجهة معارضة نخبوية ضيّقة 

تشهد فنزويلا استقطاباً اجتماعياً وسياسياً حاداً، لكن الميزان الشعبي الحقيقي ما زال يميل بوضوحٍ كبير لمصلحة المشروع البوليفاري. فالقاعدة الجماهيرية التي أسسها هوغو تشافيز ثم ورثها نيكولاس مادورو لا تزال متجذرة بقوة في الطبقات الشعبية، التي تشمل الفقراء والعمّال وموظفي القطاع العام وسكان الأحياء الشعبية والمناطق الريفية.

هؤلاء عايشوا خلال العقدين الأولين من الثورة البوليفارية تحسّناً ملموساً في الخدمات الصحية والتعليم المجاني وبرامج الدعم الاجتماعي، قبل أن تعصف بها العقوبات الاقتصادية الخانقة، وبالنسبة إليهم، تظل المعارضة رمزاً للنخبة القديمة التي نهبت البلاد لعقود، ويرونها امتداداً مباشراً لواشنطن وشركات النفط الغربية.

في المقابل، تتركز المعارضة المدعومة من الخارج في الطبقة المتوسطة العليا والنخب الحضرية، خصوصاً في الأحياء الراقية مثل تشاكاو وألتاميرا في العاصمة كراكاس، وفي المدن الكبرى الأخرى التي ترتبط اقتصادياً بالسوق الأميركية والأوروبية.

كثير من أفراد هذه الشريحة هاجروا بالفعل خلال السنوات العشر الماضية، ما جعل حضور المعارضة على الأرض أضعف مما يبدو إعلامياً. ورغم تلقي قادة المعارضة دعماً مالياً وسياسياً علنياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن قاعدتهم الشعبية تبقى محدودة جداً، وتأثيرهم السياسي والإعلامي أكبر بكثير من وزنهم الجماهيري الفعلي.

احتمالات التدخل الأميركي: من الخيار العسكري إلى العمليات السرية

تعرف واشنطن جيداً أن المعارضة الفنزويلية غير قادرة – حتى في أقوى لحظاتها – على إسقاط الحكم البوليفاري من الداخل من دون مساندة خارجية مباشرة. لذلك اعتمدت الولايات المتحدة منذ 2015 مزيجاً من الأدوات:

-عقوبات اقتصادية.

- تمويل انشقاقات عسكرية.

- دعم محاولات تمرّد مسلحة صغيرة.

- عمليات استخبارية جرى تنفيذها من كولومبيا أو من السفن في المياه الدولية.

وكانت إدارة دونالد ترامب الأكثر عنفاً وغطرسة، إذ سمحت بتنفيذ عمليات سرية شملت استهدافات ومحاولات اغتيال خارج إطار القانون، إضافة إلى العمليات العسكرية في البحر الكاريبي، والتي تجري بذريعة مكافحة تجارة المخدرات.

حتى الآن، لم تنفذ الولايات المتحدة ضربات جوية أو صاروخية داخل الأراضي الفنزويلية، لكن تقارير عديدة – بعضها من مراكز أبحاث محافظة مقربة من الحزب الجمهوري – تكشف أن البنتاغون ناقش خيارات عسكرية محدودة، مثل قصف جوي أو صاروخي لمنشآت نفطية استراتيجية أو مقارّ قيادة عسكرية، كبديل أقل كلفة وأقل مخاطر من غزو بري شامل.

ورغم أن النسبة الأكبر من الأميركيين تعارض الحرب على فنزويلا لارتفاع تكفلتها، تؤكد التجارب التاريخية أن الرأي العام الأميركي لم يكن يوماً عائقاً حقيقياً أمام القرارات الاستراتيجية الصادرة من البيت الأبيض عندما تتعلق الأمور بدول تُهدد المشروع الإمبريالي الأميركي، أو عند تسويق العملية تحت ذرائع إنسانية أو أمنية.

العقوبات والاقتصاد الفنزويلي: من الحصار إلى التعافي

بدأت الولايات المتحدة فرض عقوبات مالية ونفطية على فنزويلا منذ عام 2015، ثم شدّدتها بشكل دراماتيكي في أغسطس/آب 2017 وحزيران/يونيو 2019، لتصبح واحدة من أقسى حملات الحصار الاقتصادي في التاريخ الحديث. شملت هذه العقوبات تجميد أصول الدولة في الخارج بقيمة تتجاوز 7 مليارات دولار، ومنع التعامل مع النظام المالي العالمي، وحظر بيع النفط للولايات المتحدة، ومنع شركات الطاقة الأميركية والأوروبية من توفير قطع الغيار والتقنيات اللازمة لصيانة الحقول والمصافي.

وبما أن فنزويلا كانت تعتمد بنسبة 99% على عائدات النفط، وكانت بنيتها التحتية النفطية مرتبطة تاريخياً بالتكنولوجيا الأميركية، فقد انهار الإنتاج من حوالي 2.5 مليون برميل يوميًا في 2016 إلى أقل من 400 ألف برميل في 2020، ما أدى إلى انكماش الاقتصاد بنسبة تجاوزت 75% خلال عقد واحد وتفاقم الأزمة الإنسانية.

غير أن الصورة تبدّلت بشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية، إذ نجحت فنزويلا في تحقيق تعافٍ اقتصادي ملحوظ رغم استمرار معظم العقوبات، إذ أسهم الدعم الفني واللوجستي المُكثف من إيران وروسيا والصين في إعادة تشغيل الحقول والمصافي تدريجياً، وقد حدث ذلك عبر إرسال خبراء ومعدات لإصلاح المصافي، وإنشاء قنوات تجارية بديلة، وشراء النفط بكميات ضخمة.

ونتيجة لذلك، عاد إنتاج النفط ليتجاوز المليون برميل يومياً، وبلغت الصادرات أعلى مستوياتها منذ سنوات، مع تصدير أكثر من 900 ألف برميل يومياً.

وقد عاد الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو لأول مرة منذ 2014، مسجلاً زيادة ملحوظة في 2023 و2024، مع توقعات إيجابية مستمرة، كما عادت الكهرباء والمياه والوقود إلى معظم المناطق، وتراجعت طوابير الغذاء والدواء بشكل كبير، واستعاد السوق المحلي حيويته.

بهذا المعنى، تحولت فنزويلا — التي كانت تُوصف قبل سنوات قليلة فقط بأنها على شفا الانهيار التام — إلى نموذج نادر للصمود الاقتصادي تحت أقسى الضغوط الخارجية. فقد استطاعت تحويل الحصار المنهجي إلى دافع قوي للاعتماد على الذات، وتنويع الشراكات الدولية، وبناء اقتصاد أكثر مرونة وقدرة على الصمود في مواجهة التحديات المستقبلية.

التأثير السياسي للعقوبات: تعزيز السلطة بدل إضعافها

خلافاً للرهانات الأميركية والتوقعات الإعلامية الغربية، لم تُضعف العقوبات المتتالية والحصار المالي الشامل موقع نيكولاس مادورو سياسياً، بل عززته بشكلٍ غير متوقع. فالفنزويلي العادي، حتى لو كان ينتقد سوء الإدارة أو ضعف الخدمات، يُدرك تماماً الثمن الحقيقي لـ«الحل» الذي تقترحه المعارضة المدعومة من الخارج.

ذلك الحل الذي يُلخصه برنامج ماريا كورينا ماتشادو وغيرها من قادة اليمين الليبرالي الجديد: خصخصة واسعة لشركة النفط الوطنية PDVSA، وإعادة فتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الغربية بشروط استعمارية جديدة، وتفكيك شبكة الحماية الاجتماعية التي شكلت العمود الفقري للشرعية التشافيزية على مدى عقدين.

الحقيقة أن أي مغامرة عسكرية أميركية مباشرة – حتى لو كانت ضربات جوية محدودة – ستُحدث تأثيراً معاكساً تماماً لما تريده واشنطن، إذ ستُدخل البلاد في دينامية «الوطن أو الموت»، وستضع المعارضة اليمينية في موقف أضعف، إذ سيُنظر إليها على الفور كخائنة وكواجهة محلية للاحتلال. تجارب أميركا اللاتينية التاريخية (غواتيمالا 1954، جمهورية الدومينيكان 1965، تشيلي 1973، بنما 1989) تؤكد أن التدخل العسكري المباشر يُجمّع الشعب حول السلطة القائمة حتى لو كانت محل خلاف قبل يوم واحد من العمل الحربي.

مقارنة مع سوريا: حرب اقتصادية مماثلة واختلاف في مستوى الانهيار

كثيرًا ما تُقارن الحالة الفنزويلية بنظيرتها السورية، خصوصاً من زاوية العقوبات وتأثيرها على الحياة اليومية. فالعقوبات الأميركية—خاصة "قانون قيصر"— أدت إلى شلل اقتصادي شبه كامل في سوريا، فحُرمت الدولة من التمويل والقطع الأجنبي، بينما سيطرت القوات الأميركية على أهم حقول النفط والقمح شمال شرق البلاد، ما عمّق الأزمة.

ومع أن فنزويلا شهدت انهياراً اقتصادياً مشابهاً، إلا أنها لم تدخل حالة الحرب الشاملة كما حدث في سوريا. فرغم ظهور الجماعات المسلحة فيها، إلا أنها بقيت تعمل كعصابات في المناطق الحدودية، وبقي الجيش الفنزويلي موحداً ومتماسكاً أيديولوجياً، وهو العامل الأكثر حسماً في منع الانهيار الكامل.

وبالتالي، تلقت فنزويلا حرباً اقتصادية خالصة من دون حرب عسكرية شاملة، وربما هذا هو السبب الرئيسي الذي مكّن الدولة من الاحتفاظ بهيكليتها ومنع تحول الأزمة إلى فوضى شاملة أو تقسيم فعلي للبلاد.

بيئة أميركا اللاتينية: حلفاء محدودون وضغوط متزايدة

تعتمد فنزويلا في الإقليم على حلفاء أيديولوجيين مثل كوبا ونيكاراغوا، لكن قدراتهم الاقتصادية ليست كافية لتوفير دعم كبير. وفي المقابل، تميل الحكومات اليمينية في القارة إلى الانحياز لواشنطن، بينما تتخذ حكومات اليسار مواقف حذرة خوفاً من استعداء الولايات المتحدة.

حالة كولومبيا بقيادة غوستافو بيترو مثال مهم، فلأول مرة يحكم البلاد رئيس يساري ينتقد السياسات الأميركية تجاه فنزويلا، لكن حسابات الداخل والضغوط الأميركية ــ بما فيها عقوبات ضد شخصيات في محيطه ــ تمنعه من الانتقال إلى مرحلة الدعم العلني الكامل. وبالتالي تبقى كراكاس محاصرة سياسياً رغم وجود موجة يسارية جديدة في القارة.

منصّات التواصل كبنية دعائية للهيمنة الأميركية

تُشكّل منصات التواصل الاجتماعي اليوم أدوات حربية أميركية متقدمة، وقد بدأ استخدامها لهذا الغرض منذ أوائل العقد الماضي، لكنها انتقلت إلى مرحلة نوعية جديدة مع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.

ما يحدث في فنزويلا مثال صارخ على ذلك، فقد تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى سلاح دعائي إمبريالي جديد. فعندما يبحث المواطن العادي في أي دولة بالعالم عن فنزويلا، سيجد في صدارة نتائج جوجل ملخصاً يُصوّر البلاد كنظام "ديكتاتوري شمولي في طريقه للانهيار". هذه الملخصات القصيرة الموجزة تُعرض بتصميم بارع يجذب العين، ويثبتها النظام في أعلى الصفحة لتكون أول ما يراه المُستخدم وآخر ما يقرأه غالباً.

الذكاء الاصطناعي هنا لا يختلق معلومات، بل يُكثّف ويُعيد صياغة الرواية الإعلامية الغربية السائدة والمصادر الرسمية الأميركية، فيصبح بذلك مُضخّماً فائق الكفاءة للدعاية الموجودة أصلاً. ولا شك في أن مواجهة هذا الواقع تتطلب جهداً منظماً لإغراق نماذج الذكاء الاصطناعي بمعلومات تصحيحية موثقة ومتعددة المصادر، بهدف تحييد الانحياز المضمّن فيها وتحرير هذه التقنية من خدمة مشروع الهيمنة الأميركي.

في العموم لا يمكن النظر إلى منصات التواصل الاجتماعي باعتبارها فضاءات ديمقراطية أو أدوات محايدة يمكن "إصلاحها" بمجرد ضخّ المحتوى "الصحيح". إن شركات ميتا وإكس وغيرها تبني وهماً زائفاً بالتواصل الحر، بينما تقوم خوارزمياتها فعلياً بحبس الناس داخل فقاعات مُغلقة، فتُخفي المحتوى اليساري والمعارض للسياسات الغربية، وتُعزز في المقابل الروايات الصادرة عن الحكومة الأميركية وكبريات وسائل الإعلام الغربية والتيارات اليمينية المتطرفة.

بهذا المعنى، تنتفي عن هذه المنصات صفة "الساحات العامة" تماماً، وتتحول إلى آلات دعائية هائلة مملوكة للقطاع الخاص، يديرها مليارديرات، وتُستَخدم بشكل ممنهج من الولايات المتحدة وأذرعها المحلية لتشويه فنزويلا، وتخريب إرادة شعبها، والالتفاف على سيادتها الوطنية.

الاستراتيجية الأميركية: إعادة هندسة القارة الجنوبية

ليست فنزويلا هدفاً معزولاً؛ بل هي جزء من مشروع أميركي واسع لإعادة ترتيب أميركا اللاتينية وفق رؤية تمنع ظهور قوى مستقلة أو حكومات يسارية ذات توجهات سيادية. وتسعى واشنطن إلى ذلك، عبر السُبل الآتية:

- إضعاف الحكومات المناهضة لها.

- إعادة تمكين النخب الاقتصادية التقليدية المرتبطة بالغرب.

- ضمان سيطرة الشركات الأميركية على الأسواق وموارد الطاقة.

وتحتل فنزويلا مركزاً حساساً في هذا المشروع، باعتبارها الدولة النفطية الكبرى الوحيدة في القارة التي ما زالت خارج الهيمنة الأميركية المباشرة، وتمثل نموذجاً مُقلقاً لواشنطن في حال صمدت رغم الضغط، لأن هذا سيكون مكسباً مادياً ومعنوياً ضخماً للمحور المناهض لواشنطن، لا في أميركا الجنوبية وحدها، بل في العالم كله ما يشمل منطقة الشرق الأوسط.