الملف النووي الإيراني وعناصر القوة الذاتية

تمتلك إيران عناصر قوة ذاتية، اختبرتها في مفاوضاتها السابقة، وتعيد استخدامها في المفاوضات الجارية الآن، وهي عناصر ناجعة حين توظّف على طريقة ناسج السجاد الماهر الصبور المتطلّع لسقوف الكسب العليا. 

  •  تخوض إيران مفاوضات ملفها النووي وهي تمسك بعناصر قوة ذاتية.
    تخوض إيران مفاوضات ملفها النووي وهي تمسك بعناصر قوة ذاتية.

للتقنية النووية دور مهمّ في نهضة الشعوب والأمم، وفي دفع عجلة التطوّر العلمي وفي الارتقاء بالأوضاع التنموية التي تنعكس بشكل إيجابي على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لهذا لا يمكن اعتبار التقنية النووية ترفاً مثلما لا يمكن حصرها واختزالها في الاستخدامات العسكرية التي باتت عنصراً من عناصر تحقيق الردع وتوازن القوى بين الدول.

في سياق مدافعة شديدة تجري مفاوضات ماراثونية حول الملف النووي الإيراني بين طهران وواشنطن، برعاية عُمانية منذ نيسان/أبريل الماضي، ساد التفاؤل الحذر أجواءها في بدايتها، وسادت حالة من التشاؤم في جولتيها الأخيرتين، وتبدّى التشاؤم في خطاب الطرفين الإيراني والأميركي، في وقت زادت فيه حدّة التهديدات الإسرائيلية لإيران بشنّ هجمات عليها، صاحب تلك التهديدات تصاعد الضغوط الغربية الصادرة عن مسؤولين في أميركا وأوروبا.

قابلت إيران تلك التهديدات والضغوط بالتحذير من عواقبها، مهدّدة بردّ حازم، وباتخاذ تدابير مؤثّرة وفورية، تمكّنها من الدفاع عن مواطنيها ومصالحها ومرافقها ضدّ أيّ عمل إرهابي أو تخريبي وفقاً للقانون الدولي، وطالبت طهران الأمم المتحدة ومجلس الأمن باتخاذ التدابير الفورية ضدّ التهديدات الإسرائيلية، مذكّرة بانتهاك "إسرائيل" المتكرّر لميثاق الأمم المتحدة عبر تهديدها باستخدام القوة، وفي السياق أعلنت طهران أنّ واشنطن ستتحمّل المسؤولية القانونية عن أيّ عدوان تقوم به "إسرائيل" ضدّها.

في هذه الظروف القاسية والدقيقة، تخوض إيران مفاوضات ملفها النووي وهي تمسك بعناصر قوة ذاتية تعمل من أجل توظيفها في تشكيل بيئة مفاوضات ملاءمة، وتسعى للاستفادة منها في بناء موقف تفاوضي يجمع بين الصلابة والمرونة، ويمكن إيجاز هذه العناصر في:

أولاً: المشروعيّة القانونية لاستخدام التقنية النووية

يعتبر استخدام الطاقة النووية لأغراض سلميّة حقّاً مشروعاً لكلّ الدول. أكدت هذه الحقّ الاتفاقيات الدولية وعلى رأسها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، واتفاقيات الأمان النووي مع وكالة الطاقة الذرية، وتعزّز طبيعة المشروع النووي الإيراني السلمية حقّها في استخدام التقنية النووية كمصدر نظيف للطاقة، يسهم في تعزيز القدرات العلمية، ويفتح آفاقاً رحبة في مجالات العلوم والطب والصناعة والزراعة والبيئة، كما يسهم في تطوير البنى التحتية في شتى المجالات.

ثانياً: المشروعية التاريخية

بدأت انطلاقة المشروع النووي الإيراني في عهد الشاه محمد رضا بهلوي في خمسينيات القرن الماضي، بدعم مباشر من الولايات المتحدة، ضمن مبادرة "الذرة من أجل السلام" التي أطلقها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور عام 1953. حيث وقّعت إيران وأميركا أوّل اتفاقية نووية عام 1957.

وشهدت حقبة السبعينيات توسّعاً في التعاون النووي بين إيران والغرب، إذ ساهمت شركات غربية رائدة مثل "فراماتوم" الفرنسية، و"سيمنز" الألمانية الغربية، و"جنرال إلكتريك" الأميركية، في تزويد إيران بالمعدّات النووية وبناء المنشآت، وفي إطار هذا التعاون، تمّ بناء مفاعل أبحاث بقدرة 5 ميغاواط في طهران، ومشاريع لمفاعلات طاقة نووية أخرى أوقفها الغرب قبل اكتمالها بسبب اندلاع الثورة الإسلامية.

يُحدّث هذا التاريخ عن أمرين؛ أوّلهما سلامة المشروع النووي الإيراني القانونية الناتجة عن طبيعته وتاريخه، والدور الأميركي والغربي في إطلاقه وبنائه، والثاني ازدواجية المعايير الغربية وعدم أخلاقية موقفها الذي تبدّل بعد سقوط نظام الشاه.

ثالثاً: الملكيّة الشعبية للمشروع

يعتبر الشعب الإيراني أنّ المشروع النووي هو مشروع وطن، مملوك للشعب الذي يؤمن بأحقيّته في استخدام التقنية النووية في تحقيق النهضة التي ينشدها، وقد عزّزت الاتفاقيات سابقة الذكر هذا الإيمان لدى شرائح الشعب الإيراني المتسلّح بوعي عميق بأهميّته الاستثنائية في مسار الصعود والارتقاء النهضوي، وبهذا الوعي خرج هذا الملف من حلبة الصراع السياسي وبازار التنافس الحزبي إلى أفق وطني شكّل لحماية وتحصين داخلي.

رابعاً: العقيدة الوطنية

تعتبر العقيدة الوطنية الإيرانية أحد أهم عناصر قوة الملف النووي، لأنها بنيت على ركيزتي الاستقلال الوطني واستقلالية القرار، مضافاً إليها قيمة العلم والمعرفة وتطوّرهما كقيمة حاكمة في مسار التاريخ الإيراني الذي تأسس بعد الثورة الإسلامية، وتعزّز منطلقات الثورة الفكرية تلك الركائز وتشكّل منطلقاً لها، وهذا الذي أسهم بشكل كبير في جعل المشروع النووي مشروعاً وطنياً يمتلكه الإيرانيون ولا تمتلكه سلطة زمنية خاضعة لقواعد تداول السلطة.

خامساً: القدرة العلمية

استثمرت إيران لعقود مضت من الزمن في نخبها العلمية، فامتلكت قدرات علمية مكّنتها من إدارة وتطوير الحقول المعرفية والعلمية كافة، ومكّنها ذلك من قطع أشواط في توطين عمليات التطوير العلمي في كلّ المجالات، وفي المقدّمة منها المجال النووي، وقد تجلّت نجاحاتها في تصنيع وتطوير أجهزة الطرد المركزي، كما تجلّت في القدرة على تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، وفي الاعتماد على كوادرها الوطنية في تطوير الصناعات الكيمائية، وفي مجالي الهندسة النووية والإلكترونية. وامتلكت بذلك أهمّ عناصر القوة الذاتية الكفيلة بدفع مشروعها النووي إلى آفاقه المرسومة له.

سادساً: الموقع الجيوستراتيجي

لإيران موقع جيوستراتيجي حاسم، إذ تطلّ على بحر قزوين، كما تطلّ على مضيق هرمز، وتقع في منطقة مهمة تربط بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا، مما يجعلها نقطة اتصال مهمة بين هذه المناطق، وتتشارك حدوداً مع عدة دول رئيسية، ويُعدّ هذا الموقع الاستراتيجي عاملاً من عوامل قوتها، وقد منحها هذا الموقع دوراً إقليمياً بالغ الأهمية. كما منحها الموقع بتضاريسه المختلفة خاصيّة تحصين منشآتها الاستراتيجية.

سابعاً: القدرات الاقتصادية

تتمتّع إيران بقدرات اقتصادية متنوّعة وكبيرة، وطوّرت عبر حقب زمنية مختلفة قدراتها في استثمار وتوظيف ثرواتها الاقتصادية، وتمكّنت من تحويل محنة الحصار الغربي المضروب عليها منذ 4 عقود ونيف إلى منحة، مكّنتها من إجادة وتحسين إدارة اقتصادها الذي استحقّ أن يطلق عليه الاقتصاد المقاوم للعقوبات، وهي بذلك حقّقت نجاحاً بإفقادها سلاح العقوبات الاقتصادية والحصار بعضاً من قوته.

ثامناً: القدرات التفاوضية

يتمتّع المفاوض الإيراني بمزايا تفاوضية مهمة، بعضها متوارث وبعضها مكتسب، يسّرت له الوصول إلى اتفاقيات نووية مع قوى عظمى وكبرى، ويجيء اتفاقها النووي لعام 2015 مثالاً لذلك. 

عزّزت تجارب التفاوض حول الملف النووي والتي استمرّت لسنوات طويلة تلك المزايا وصقلتها، وساعد في ذلك إلمام المفاوض بعناصر قوة بلاده وعناصر ضعف خصومه، وكرّس الإلمام العميق بالملف التقني والقانوني والدبلوماسي من قدرات إيران التفاوضية.

 يناور المفاوض الإيراني حين يتطلّب الأمر المناورة، ويتشدّد حين يتطلّب الأمر تشدّداً، ويتحرّك صعوداً ونزولاً بين خطوط التفاوض المرسومة، ويخلط الأوراق في ساعة ضيق، ويطرح البدائل حين يحتار الخصم، ويلعب بالوقت حين تكون له في ذلك مصلحة.

منهج التفاوض الإيراني قادر على التمييز بين التكتيكي والاستراتيجي، وقادر على التكيّف مع المتغيّرات، وماهر في توظيف الصبر الاستراتيجي، وبذلك باتت القدرات التفاوضية عنصراً من عناصر القوة.

تاسعاً: شبكة التحالفات والحلفاء 

نسجت إيران شبكة علاقات مؤثّرة مع عدد من الدول، حيث أبرمت اتفاقية شراكة استراتيجية ربع قرنية مع الصين تشمل التعاون في مجالات الطاقة، والتجارة، والبنية التحتية، ووقّعت اتفاقية شبيهة مع روسيا، تعضد تلك الاتفاقيات قدرات إيران في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، وتشكّل لها سنداً مهماً جداً في مجلس الأمن وفي المنظمات الدولية الأخرى.

لإيران شبكة علاقات وثيقة في أميركا الجنوبية، وفي أفريقيا وآسيا، ولها علاقات مميّزة مع عدد من الفاعلين في آسيا من حركات ومنظّمات، وقد منحتها كلّ تلك العلاقات نفوذاً في أكثر مناطق العالم حساسيّة، وأضاف ذلك إلى عناصر قوتها عنصراً مهماً.

تمتلك إيران عناصر قوة ذاتية متكاملة، اختبرتها في مفاوضاتها السابقة عام 2015، وتعيد استخدامها في المفاوضات الجارية الآن، وهي عناصر ناجعة حين توظّف على طريقة ناسج السجاد الماهر الصبور المتطلّع لسقوف الكسب العليا. 

تبقى هذه العناصر بحاجة إلى إدارة دقيقة، خاصة في ظلّ التحوّلات الإقليمية والدولية. من هنا، فإنّ الحوار مع الولايات المتحدة والغرب لا يُبنى فقط على تلك العناصر، بل أيضاً على مدى قدرة إيران على التوازن بين طموحاتها وسياسة نزع فتيل التوترات وكفكفة المخاطر.