انعكاسات الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي

لم تكن تداعيات الحرب على غزة محصورة في الجانب العسكري أو السياسي فقط، بل امتدت بقوة إلى المجال الاقتصادي، حيث عانى الاقتصاد الإسرائيلي أزمة تكاد تكون غير مسبوقة. 

0:00
  •  الاقتصاد الإسرائيلي يواجه تحدّيات جسيمة.
    الاقتصاد الإسرائيلي يواجه تحدّيات جسيمة.

قرّرت مؤسسة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني الإبقاء على تصنيف "إسرائيل" عند A/A-1 مع نظرة مستقبلية سلبية، معتبرة أنّ المخاطر الجيوسياسية والأمنية التي تواجه "إسرائيل" لا تزال مرتفعة للغاية، ولا يزال من الصعب التنبّؤ بالتطوّرات السياسية الداخلية الإسرائيلية، الأمر الذي يعكس أنّ المشهد الاقتصادي الإسرائيلي لا يزال يعاني وبعيداً عن الاستقرار بعد نحو 18 شهراً على الحرب الإسرائيلية على غزة والمواجهة المفتوحة على مختلف الجبهات منذ السابع من أكتوبر 2023.

فلم تكن تداعيات الحرب محصورة بالجانب العسكري أو السياسي فقط، بل امتدّت بقوة إلى المجال الاقتصادي، حيث عانى الاقتصاد الإسرائيلي أزمة تكاد تكون غير مسبوقة. 

كشفت الحرب عن هشاشة النموذج الاقتصادي الإسرائيلي، وألقت بظلال ثقيلة على مستقبل التنمية والاستقرار المالي والاجتماعي في "إسرائيل"، فمنذ الأيام الأولى للحرب، دخل الاقتصاد الإسرائيلي في حالة انكماش حادّ، وتوقّفت أنشطة اقتصادية واسعة النطاق، خصوصاً في القطاعات الحيوية مثل السياحة، والتكنولوجيا العالية (الهايتك)، والصناعات العسكرية والمدنية، وفرضت حالة الطوارئ المستمرة والإغلاقات الأمنية قيوداً إضافية على حركة الأعمال والاستثمار، ممّا أدّى إلى شلل اقتصادي جزئي استمرّ لفترة طويلة، فحتى نهاية العام الماضي تشير الأرقام إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 3% مقارنة بالعام السابق، مع استمرار التراجع في ضوء استمرار الحرب حتى تاريخه.

كان قطاع السياحة أول القطاعات المتضرّرة، إذ ألغيت معظم الرحلات السياحية، وأغلقت الفنادق والمرافق السياحية أبوابها لفترات طويلة. كما تضرّر قطاع التكنولوجيا، الذي يُعدّ المحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي الإسرائيلي، نتيجة لتسريح آلاف العاملين، وتراجع الاستثمارات الأجنبية في الشركات الناشئة.

وعلى مستوى المالية العامّة، ارتفع العجز في الموازنة إلى مستويات خطيرة؛ فقد اضطرّت الحكومة الإسرائيلية  إلى زيادة الإنفاق العسكري والأمني بشكل كبير، في وقت تراجعت فيه الإيرادات الضريبية بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي. ونتيجة لذلك، ارتفعت نسبة الدين العامّ إلى الناتج المحلي الإجمالي بصورة لافتة، مما دفع وكالات التصنيف الائتماني إلى التحذير المستمر من احتمال تخفيض التصنيف الائتماني لـ"إسرائيل" إذا لم تتمّ السيطرة على العجز المالي خلال السنوات المقبلة.

كما أثّرت الحرب على سوق العمل بشكل كبير جداً، إذ فقد مئات الآلاف من العمال وظائفهم بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة في القطاعات الخدمية والإنشائية، كما أدّى استدعاء الاحتياط العسكري إلى غياب عشرات الآلاف من العاملين عن أماكن عملهم لفترات طويلة، مما فاقم أزمة نقص العمالة والإنتاجية، وفي ضوء قرار المجلس السياسي والأمني الإسرائيلي المصغّر توسيع الحرب على غزة وإصدار الأمر باستدعاء عشراف الآلاف من جنود وضباط الاحتياط لـ "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، يتوقّع زيادة كبيرة في الأعباء الاقتصادية وانكماش الاقتصاد والأثر الأكبر سيكون على سوق العمل والإنتاج.

تفاقمت الأزمة الاقتصادية مع تصاعد هجرة الكفاءات، ولا سيما الزيادة الملحوظة في معدّلات هجرة المهنيين والشباب المتعلّمين إلى الخارج، بحثاً عن فرص أفضل في بيئات أكثر استقراراً، ما يهدّد بتأكّل رأس المال البشري الإسرائيلي الذي يشكّل العمود الفقري لاقتصاد المعرفة.

على صعيد البنية التحتية، تعرّضت مناطق واسعة في جنوب فلسطين المحتلة وشمالها لأضرار جسيمة نتيجة الصواريخ والهجمات من مختلف الجبهات ولا سيما جبهتي غزة ولبنان،  وتحتاج إعادة الإعمار لاستثمارات ضخمة تقدّر بمليارات الدولارات، في وقت تعاني فيه الحكومة الإسرائيلية من نقص السيولة وتراجع الثقة الدولية، ما دفع الحكومة الإسرائيلية لطرح خطط لتحفيز الاقتصاد، شملت تخصيص حزم دعم مالي للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوسيع الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية بهدف خلق وظائف جديدة. لكنّ هذه الخطط تواجه صعوبات كبيرة بسبب القيود المالية، والخلافات السياسية الداخلية حول أولويات الصرف.

كما أثّر استمرار هجمات القوات اليمنية على السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى "إسرائيل"، عبر طرق الملاحة البحرية على الاقتصاد الإسرائيلي، وتراجع حركة الاستيراد والتصدير  وحركة التجارة البحرية عبر الموانئ المختلفة، كما ساهم استمرار إطلاق القوات اليمنية الصواريخ على "إسرائيل" واستهداف مطار اللد وإصابته بشكل مباشر مؤخّراً، في تعليق العديد من شركات الطيران رحلاتها إلى "إسرائيل"، ما تسبّب في خسائر لافتة، مرشّحة للزيادة في حال استمرّت عمليات استهداف مطار اللد . 

على المستوى البنيوي، كشفت الحرب هشاشة النموذج الاقتصادي الإسرائيلي القائم على الانفتاح على الأسواق العالمية وجذب الاستثمارات الأجنبية. إذ إنّ استمرار الحرب والتهديدات الأمنية جعلت "إسرائيل" بيئة أقلّ جذباً للاستثمارات، مقارنة بدول أخرى أكثر استقراراً في المنطقة والعالم.

علاوة على ذلك، أثّرت العزلة السياسية المتزايدة على العلاقات الاقتصادية الدولية لـ"إسرائيل"؛ فحملات المقاطعة التي تصاعدت بعد الحرب، سواء من قبل حركات المجتمع المدني أو بعض الحكومات، بدأت تلقي بظلالها على قطاعات التصدير، خاصة المنتجات الزراعية والتكنولوجية.

من جهة أخرى، أدّى استمرار الحرب إلى ارتفاع معدلات الفقر وعدم المساواة، إذ إنّ الأعباء الاقتصادية أثّرت بشكل أكبر على الفئات الفقيرة والهامشية، بينما استفادت قطاعات معيّنة مرتبطة بالصناعات العسكرية والأمنية من زيادة الإنفاق الحكومي.

في ضوء تداعيات الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي، يرجّح أن يواجه الاقتصاد الإسرائيلي تحدّيات جسيمة بسبب صعوبة تحقيق توازن بين متطلّبات الحرب والنمو الاقتصادي، وضعف قدرة الحكومة الإسرائيلية على إجراء إصلاحات هيكلية عميقة لضمان استدامة المالية العامّة، وتحفيز النمو، وتقليص معدلات البطالة والفقر، كون المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين قرّرا استمرار الحرب واعتبرا أنّ العام الحالي 2025 هو عام حرب على مختلف الجبهات، الأمر الذي سيدفع الاقتصاد الإسرائيلي  نحو مزيد من التدهور.