بين "سفاري سراييفو" لصيد البشر وحفلات ابستين الصاخبة... ماذا يحدث؟

قضية "سفاري سراييفو" تعكس مدى الانحطاط الذي وصل إليه الغرب، وهو ما يتجلى أيضاً في فضيحة ابستين التي تعبّر عن المدى الذي وصل إليه الانحلال الأخلاقي لدى أصحاب النفوذ.

  • قضية
    قضية "سفاري سراييفو" تعكس مدى الانحطاط الذي وصل إليه الغرب.

شكّلت قضية ما بات يعرف إعلامياً باسم "سفاري سراييفو" لصيد البشر صدمة للرأي العام الأوروبي والعالمي، ليس فقط لأنها تتعلق بجرائم حرب ارتكبت بحق المدنيين خلال حصار سراييفو بين عامي 1992 و1996، بل لأنها ارتكبت من قبل "أثرياء أوروبيين وغربيين" دفعوا عشرات آلاف الدولارات لقاء "ممارسة هواية صيد البشر" عبر قنص وإطلاق النار على المدنيين البوسنيين من مواقع القناصة الصرب.

وعلى الرغم من أن التحقيقات لا تزال جارية، فإن مجرد الكشف عن هذه الجريمة المروّعة المرتبطة بتحقيق رغبات غريزية دفينة يكشف الخلل العميق والبنيوي في منظومة القيم الغربية حين يقوم أفراد ينتمون للطبقات الثرية والسياسية وحتى المثقفة الأوروبية بقتل أناس أبرياء لمجرد الرغبة في الترفيه عن أنفسهم، بما يرقى إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. 

والخطورة تكمن في أن الحالة لم تكن فردية، بل ارتكبت من قبل شريحة كبيرة من النخب الغربية بما يعكس مدى التشوّه الذي أصاب منظومة القيم لدى  تلك النخب. 

والجدير ذكره أن الفضيحة هذه والتي ترتبط بالنخب الأوروبية تضاف إلى فضيحة أخرى لا تزال تتكشف خيوطها لكن هذه المرة في الولايات المتحدة، والمعروفة باسم فضيحة جيفري ابستين، والتي تورّط فيها الطيف الأغلب من الرؤساء وأعضاء مجلس الشيوخ، وسياسيون وفنانون بريطانيون وأوروبيون حيث شاركوا في حفلات وشبكات تم فيها استغلال جنسي لقاصرات عبر شبكة عابرة للحدود أقامها ابستين.

والجدير ذكره أن الفضيحة هذه لا ترتبط بممارسات جرت على مدى قصير، بل هي استمرت لعقود ما يعني أنها كانت محمية قانونياً وإعلامياً من المنظومة الأميركية المعولمة. 

تكمن خطورة هاتين القضيتين في أنهما تعكسان مدى الانحلال الأخلاقي الذي وصلت إليه النخب في الغرب، ما يعدّ مؤشراً على قرب انهيار هذا الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، خصوصاً إذا ما صدق ما تحدث به ادوارد غيبون قبل قرنين ونصف حين تحدث عن العوامل التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية، ومنها ما سمّاه فساد الأخلاق المرتبط بالإغراق في التفنن بالملذات والمتع، وهو ما يشكّل صدى لما تحدث عنه ابن خلدون قبل اداورد غيبون بنحو أربعة قرون حين عزا تحلل وانهيار الدول إلى فساد الجيل الأخير الحاكم في هذه الدول. 

"سفاري سراييفو"

قبل سنوات قليلة، عرض فيلم وثائقي بعنوان "سفاري سراييفو" تخللته شهادات لضباط ومشاركين سابقين في الحرب الأهلية اليوغوسلافية أقروا فيها بدفع أثرياء أوروبيين ما قيمته سبعين ألف جنيه إسترليني لقاء السماح لهم بإطلاق النار، وقتل مدنيين مسلمين بوسنيين من مختلف الأعمار بمن فيهم الشيوخ والنساء والأطفال، وذلك من أجل الحصول على متعة ممارسة صيد البشر.

بنتيجة هذه الشهادات قام القضاء البوسني والإيطالي والفرنسي بفتح تحقيق في هذه الجريمة المتمادية ليصدم الرأي العام بهوية بعض من شاركوا في هذه الجرائم وهم من كبار رجال الأعمال الأوروبيين، وفقاً لما كشفته التحقيقات الأولية، مع تقديرات بأن التحقيقات قد تصل إلى نخب سياسية أوروبية غربية مرموقة. 

ويكشف هذا النمط من السلوك المنحرف حقيقة أن بعض النخب الأوروبية والغربية مارست القتل على أنه رياضة للنخب بقصد الترفيه، ما يطرح بعداً آخر للقضية مرتبطاً بالقيم العنصرية للغرب.

إذ إن الضحايا في هذه الحالة كانوا من المسلمين البوسنيين، ما يطرح تساؤلاً ما إذا كانت النخب الأوروبية ستمارس أعمال القتل هذه لو لم يكن الضحايا بوسنيين (أي من غير الأوروبيين الغربيين) أو لو لم يكونوا من المسلمين البلقانيين؟! 

هذه الجريمة بحدّ ذاتها تثبت أن الغرب لا يزال يتمسك بتقاليده الكولونيالية العنصرية ضد الشعوب غير الغربية، والتي أدّت إلى إبادة مئات ملايين الأفارقة والهنود والسكان الأصليين في القارتين الأميركية والأسترالية.

بل إن "سفاري سراييفو" ما هو إلا نسخة معاصرة من السفاري الذي كان يقوم به القادة السياسيون والعسكريون البريطانيون والفرنسيون، والذي كان ينتهي بالتقاطهم الصور فوق جثث قتلاهم، ومن ثم تعليق هذه الصور في بيوتهم ومكاتبهم للتفاخر "بإنجازاتهم."

والجدير ذكره أن متاحف أقيمت في الدول الاستعمارية السابقة لعرض هذه الصور، بل إن متحفاً لجماجم عشرات الآلاف من الذين قتلوا في عصور مختلفة أثناء مقاومتهم الاستعمار الفرنسي موجود حالياً في باريس. 

قضية "سفاري سراييفو" تعكس منظومة القيم التي تؤمن بها النخب الغربية، التي لا تعير قيمة لحياة غير الغربيين، ما يجعلنا نفهم المجازر التي ارتكبت من قبل الحكومات الغربية خلال مرحلة الاستعمار، والتي ارتكبت أيضاً خلال العقود الثلاثة الماضية أكان في البوسنة أو العراق أو أفغانستان أو غيرها من البلدان العربية والأفريقية. 

ملفات إبستين

إذا كانت قضية "سفاري سراييفو" تعكس بحث النخب الغربية عن إرضاء غريزة القتل عندها، فإن قضية أخرى هي قضية "ملفات جفري ابستين" تعكس العلاقة البنيوية بين النخب السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب عموماً والانحلال الأخلاقي والإنساني.

والسؤال الذي يجب طرحه في هذا الإطار هو: ما الذي يدفع بنخب تتوفر لها كل أنواع المتع الجنسية الطبيعية، بالاندفاع نحو ممارسة أنواع من الشذوذ الجنسي مع فتيات قاصرات بل وأيضاً فتيان قصر، في الوقت الذي تدين فيه هذه النخب هذا النمط من الممارسات التي تحصل في بلدان غير أوروبية وغير غربية؟ 

في ما يتعلق بملفات جفري ابستين، فلقد انكشفت القضية قبل نحو عقدين من الزمن فيما لا تزال ذيولها وخباياها تتكشف حتى يومنا هذا، ما يجعل منها جريمة متمادية تماماً كحالة "سفاري سراييفو".

وهذا يثبت أن القضاء والإعلام كانا متواطئين في توفير بيئة تحمي مرتكبي هذه الأفعال من المحاسبة أكان في قضية صيد البشر أو في قضية الاستغلال الجنسي للقصر، وهذا يؤكد أن الجريمتين لا تمثلان استثناء بل تعكس نمط سلوك وقيماً يشكلان جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الغربية الحاكمة. 

وتشكّل الحالتان قمة جبل الجليد لنظام فساد متأصل ومتماسك يحكم النخب الغربية التي يستشري في صفوفها الفساد الاقتصادي الذي يتجلى في التهرب الضريبي واستشراء الرشوة في صفوف السياسيين وتكوين الثروات عبر الصفقات المشبوهة، والتي خرج بعضها إلى العلن عبر فضائح وثائق "سويس ليكس" "وبنما ليكس"، والفساد الجنسي الذي تشكل فضيحة ابستين أحد فصوله، والإجرام العنفي الذي يتجلى ليس فقط بفضيحة "سفاري سراييفو" بل يتجلى أيضاً بشركات المرتزقة الخاصة وعمليات اغتيال الزعماء في عالم الجنوب المعارضين للغرب، وفي رعاية الجماعات الإرهابية ودعم الانقلابات العسكرية في دول عالم الجنوب. 

أسباب انحلال الغرب 

نستنتج أن فضيحتي "سفاري سراييفو" و"ملفات ابستين" لا تشكلان فضائح معزولة، بل تعكس سلوكاً مرتبطاً ببنية متكاملة أخلاقية وقيمية وسلوكية للنخب الغربية، حيث تتراكم الثروة والسلطة في يد قلّة تصبح خارج الحساب، لدرجة أنها يمكن أن تحوّل الفقراء والضعفاء إلى مادة للتجارب بغرض الحصول على ترفيه مرتبط بإشباع رغبات غرائزية مشوّهة. 

وإذا كان ابن خلدون في القرن الرابع عشر وادوارد غيبون في القرن الثامن عشر تحدثا عن هذه الظاهرة بين النخب، فإن المؤرخ الأميركي تشارلز رايت ميلز كان سباقاً للتحذير من فساد النخب، خصوصاً في الولايات المتحدة في الخمسينيات من القرن العشرين.

فلقد تحدث ميلز عن النخب الأميركية وكيف أصبحت تتقاسم السلطة والمال عبر شبكات مغلقة، بما جعلها فوق المحاسبة القانونية. لكن، ما تحدث عنه ميلز ما كان ليتكشف إلا خلال العقدين الماضيين بنتيجة التطور التكنولوجي الذي أتاح "للفقراء والضعفاء" فرصة ممارسة الرقابة على النخب وفضح ارتكاباتها. 

أما الأسباب التي تجعل الغرب ينهار أخلاقياً فتعود إلى التخلي عن القيم الدينية والأخلاقية التي كانت تضبط سلوك النخب في العصور السابقة، وتحويل الليبرالية الرأسمالية الإنسان إلى سلعة، إضافة إلى هيمنة الشركات الكبرى على الإعلام وصناعة الرأي العام ما يجعل النخب في مأمن من المحاسبة. 

لا تشكل قضية "سفاري سراييفو" فقط جريمة أخلاقية كبرى، بل هي تعكس مدى الانحطاط الذي وصل إليه الغرب، وهو ما يتجلى أيضاً في "فضيحة ابستين" التي تعبّر عن المدى الذي وصل إليه الانحلال الأخلاقي لدى أصحاب النفوذ.

وهذا يثبت أن أوروبا والولايات المتحدة والغرب عموماً، وبعد قرون من ادعاء الريادة الحضارية والأخلاقية، انكشفوا على حقيقتهم في أنهم يستندون إلى قيم عنصرية تعتمد خطاب الكراهية ضد الآخر، مورس على مدى قرون وتجلى بحروب إبادة في أميركا الشمالية وأفريقيا وآسيا وأستراليا، ولا يزال يمارس اليوم في العالم العربي والإسلامي.

إلا أن هذا يعكس انحطاطاً أخلاقياً يشكّل بحدّ ذاته مؤشراً على قرب اندحار الغرب، تماماً كما سبق وسقطت الإمبراطورية الرومانية.