ترامب.. نزعة الهيمنة وخطر السقوط في فخ الانعزال
محاولة تشريح المشروع الترامبي ضرورية لناحية توصيفه وتقدير نتائجه، إذ إن ما يسير به حالياً يطرح إمكانية غرق واشنطن في عزلة ممكنة مع ما تعنيه هذه العزلة من نتائج سلبية على التفوّق والأحادية الأميركية.
في يومه الأول في البيت الأبيض، بدأ ترامب بإعادة صياغة النظام العالمي وفق رؤيته التي رأى البعض أنها سترتكز على شعار "أميركا أولاً"، إذ طالما روّج خلال حملته الانتخابية لمشروع توسّعي يتخطّى في مضمونه ضرورة احترام الآخرين للأولويات الأميركية وفق معيار المصلحة المرتبطة بمجموعة من المزايا الاقتصادية والأمنية الضرورية لضمان الأحادية أو التفوّق الأميركي ليطال سعيه الجدي للتوسع الجغرافي بأبعاد جيوسياسية، من دون أن ننسى إيمانه بفكرة ضرورة تماهي النظام الدولي والشرعية الدولية مع المخططات الأميركية من أجل ضمان الفاعلية والواقعية.
فبدل الاكتفاء بالعمل على ضمان احترام الآخرين للأولويات الأميركية من خلال المثابرة على مراكمة القوة الخشنة وابتكار مجموعة من الأدوات الصالحة لممارسة القوة الناعمة، يذهب دونالد ترامب، خطابياً على الأقل، في اتجاه محاولة فرض مشروعه استناداً إلى إرث الولايات المتحدة وتزعمها سابقاً للنظام العالمي، محاولاً تخطي ما عدّه تراجعاً أميركياً يرتبط فقط بفترتَي حكم جو بايدن ومن قبله باراك أوباما، متناسياً في الوقت عينه أن فترة رئاسته السابقة لم تقدم للريادة الأميركية ما يجعلها مختلفة عن ما سبقها أو ما لحق بها.
في هذا الإطار، يحاول دونالد ترامب أن يلتف على التراجع الحتمي الذي من المفترض أن يتبع فترة تفوّق الأحادية الأميركية، إذ إنه لا يريد التسليم بالواقع الذي فرضته الاندفاعة الصينية والروسية من دون أن ننسى محاولة بعض القوى الإقليمية المناوئة للمشروع الأميركي ملء الفراغ الذي خلّفته السياسات الأميركية منذ عهد جورج بوش الابن.
وعليه، لم يكتف الرئيس الحالي بمحاولة تأكيد عدم تراجع النفوذ الأميركي، والتمسك بمكتسبات ما بعد الحرب الباردة من خلال ردع الخصوم عن السير بمشروعهم لتكريس شبه تعددية قطبية تحفظ لهم نفوذاً معيناً في مجالهم الحيوي على الأكثر، وإنما ذهب في اتجاه المسّ بالذين يصنّفون في إطار حلفاء الولايات المتحدة الأميركية من بنما إلى كندا مروراً بالدنمارك والاتحاد والأوروبي من دون أن ننسى تحديده للأدوار والسلوك المقبول لبعض القوى كتركيا ودول الخليج وصولاً إلى الكيان الإسرائيلي.
وعليه، تصبح محاولة تشريح المشروع الترامبي ضرورية لناحية توصيفه ومحاولة تقدير نتائجه، إذ إن ما يسير به في الوقت الراهن يطرح إمكانية غرق الولايات المتحدة في عزلة ممكنة مع ما تعنيه هذه العزلة من نتائج سلبية على التفوّق والأحادية الأميركية.
هنا، تجب الإشارة إلى أن الواقعية قد تكون الدافع لأوباما ومن بعده بايدن للاكتفاء بالحفاظ على ريادة أميركية متقدمة كبديل عن مشروع الهيمنة والتفوّق الذي فقد في العقد الأخير مرتكزات وجوده، فهامش الحركة وإمكان الاستثمار في السياسات الخارجية من دون سقوف لم يعد محصوراً بالدولة الأميركية، إذ حققت بعض القوى الدولية والإقليمية من الاكتفاء الذاتي والإشباع على مستوى حاجاتها الداخلية ما يمكنها من تخصيص جزء من مقدراتها للاستثمار الخارجي من دون أن ننسى أيضاً قدرة هذه الأخيرة على تقديم إطار نظري لسردية تشرع لها البحث في تحقيق مشروع يتخطى مجاله الحيوي حدودها الإقليمية.
في هذه اللحظة، تكمن خصوصية المشروع الترامبي في عدم اكتفائه بمحاولة عرقلة تحركات القوى الدولية خارج حدودها السيادية الوطنية، أي تركيزه على إلزامها بتحديد مجالها الحيوي ضمن حدودها السيادية، وإنما في إصراره على استباحة حقوقها السيادية ودفعها إلى التسليم برغباته على أنها توازي واجب احترام المبادئ والقوانين المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين، أي بما يمكن تفسيره على أنه يتخطى ما عبّر عنه جورج بوش الأب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لناحية سيادة القيم والمبادئ الأميركية ليطال محاولة تكريس أولوية المصالح الأميركية وقدسية رغباته وعدم الاعتراض عليها.
وإذا كانت الولايات المتحدة في تلك المرحلة، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قد عملت على التسويق لسقوط كل الإيديولوجيات التي قد تشكل إطاراً منافساً للشعارات والقيم الأميركية، بالإضافة إلى سعيها لمنع ظهور أي منافس لها على الساحة الدولية تحت طائلة تحميله أثماناً قد تؤدي إلى سقوطه أو انهياره، فإن الواقع الذي يحاول دونالد ترامب إرساءه يستند إلى فكرة امتلاك الولايات المتحدة وحدها تقدير ما هو أفضل للبشرية، وبالتالي تظهير كل منافس على أنه يمثل الشر المطلق.
غير أن ما يشكّل فارقاً في هذه المرحلة هو أن الواقع الدولي المعاصر يدلّل حالياً على تمتع الكثير من القوى الدولية والإقليمية بالجرأة للتعبير عن رفضها لما كانت تعدّه الولايات المتحدة من المسلّمات، إن على مستوى سيادة القيم والمبادئ من ناحية أو على مستوى حدود القوة الأميركية وقدسية مكانتها.
فمن خلال مقاربة الحراك الدولي في أكثر من منطقة، من روسيا في أوكرانيا إلى الجرأة الزائدة للصين في شرق آسيا وأفريقيا من دون أن ننسى سلوك بعض القوى الإقليمية كتركيا والجمهورية الإسلامية، يمكن التقدير أن الواقع الدولي لا يدلّل على مجرد حراك محدود في غاياته إذ إن البحث في طبيعة أهداف هذه القوى قد يؤشر على تخطيط محكم للتخلص من الأحادية الأميركية أو بالحد الأدنى إضعافها بالمستوى الذي يجعلها مجرد مؤثر عادي يمكن التعامل معه.
وإذا راكمنا ما استطاعت هذه القوى تحقيقه معطوفاً على القلق الذي يسبّبه دونالد ترامب لدى حلفائه نتيجة عجزهم حتى اللحظة عن التعامل مع مطالبه، بما قد يدفع على المدى البعيد نحو البحث في كيفية تحقيق استقلالهم الأمني وفك ارتباطهم بها، فإن ذلك قد يكون مؤشراً لإمكانية سقوط الولايات المتحدة في فخ العزلة أو الانعزال نتيجة تلاقي مصالح كل الأطراف على التخلص من عبء القيادة الأميركية التي لم تجاهر اليوم بأولوية مصالحها على أي التزام بما يستهدفه النظام الدولي أو تستهدفه أسس الأمن الجماعي.
إن سوء التقدير الذي قد يفترض أن النظام الدولي لن يكون قادراً على الاستقرار ومواجهة التحديات في غياب الريادة الأميركية هو الذي يدفع ترامب اليوم إلى رفع سقوف أهدافه.
وإذا كان من الطبيعي التقدير أن كل الرؤساء الأميركيين وصولاً إلى ترامب يعبّرون في توجهاتهم عن حقيقة المصالح الأميركية، فإن الأخير قد تخلى عن خطاب الدبلوماسية الذي يرتكز على محاولة مطابقة أسس الأمن الجماعي وخير الإنسانية مع ما تفترضه الولايات المتحدة مصلحة قومية، وقدّم للعالم خطاباً يعبّر عن حقيقة العلاقات الدولية المرتكزة على القوة والمصلحة، من دون أي مواربة.
في هذا الإطار، يصبح من الضروري التساؤل حول مدى تقبّل القوى الدولية لهذا التغيير الدراماتيكي في أدبيات التعاطي الأميركي مع مرتكزات النظام الدولي ومدى استعدادها لتبنّيه.
في هذا الإطار، يمكن العودة إلى التعريف الواقعي للنظام الدولي على أنه التوازن الذي يتقبّل فيه كل الفاعلين الدوليين مكانتهم. وبالتالي، فإن توجهات الأكثرية هي التي تتحكم في مرتكزاته بما يجعل من أي محاولة منفردة لتغيير أسسه سلوكاً شاذاً.
وعليه، يمكن التقدير أن المسار الحالي الذي يتبناه دونالد ترامب في إطار محاولته تغيير مرتكزات النظام الدولي وفق المصالح والأهواء الأميركية من دون مراعاة الأهداف التي نشأت من أجلها مؤسسات النظام الدولي، أي الأمن الجماعي والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فإن ذلك سيؤدي إلى إمكانية إنغلاق الولايات المتحدة على نفسها أو دخولها في عزلة طوعية حتى تتوفر فيها الظروف المناسبة للتخلص من إرث ترامب وسياساته.