تكامل اقتصادي أميركي – هندي لمواجهة الصين؟
الهند تسعى عبر علاقاتها مع واشنطن أن توازن علاقاتها ببكين وتلعب على التناقض بين الصين والولايات المتحدة لتوسع هامش مناورتها.
-
الهند تسعى عبر علاقاتها مع واشنطن أن توازن علاقاتها ببكين.
في ظل التغيرات المتسارعة في النظام الدولي، تشهد العلاقات الاقتصادية بين الهند والولايات المتحدة تطورًا لافتًا، تجلّى مؤخراً في المفاوضات النشطة الجارية بين الطرفين بشأن اتفاق تجاري ثنائي شامل يهدف إلى تقليص الرسوم الجمركية، وتعزيز النفاذ المتبادل إلى الأسواق، وتقوية سلاسل التوريد المشتركة.
وفي خضم هذه الدينامية الجديدة، تبرز أهمية هذا التقارب الاقتصادي في السياق الأوسع لتوازن القوى في آسيا، خصوصاً في ما يتعلق بموقف الهند من الصين وسعي نيو دلهي الى فرض هيمنتها على جنوب اسيا لمنع بكين من الوصول الى المحيط الهندي وبالتالي تعزيز موقف الهند الجيوسياسي في مواجهة الصين.
الهند في مواجهة الصين
والجدير ذكره ان العلاقات الاقتصادية لا يمكن ان تُقرأ فقط من زاوية التبادل التجاري والمنافع الاقتصادية، بل هي تعتبر إحدى أدوات إدارة التوازنات الجيوسياسية حيث يتحول الصراع الجيوسياسي الى جيو اقتصادي. لذا فإن الهند تعتبر ان تعميق الشراكة مع الولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي، خاصة في ظل التوترات التجارية مع بكين، يمنحها هامش مناورة أوسع في مواجهة القوة الصينية الصاعدة والتي تتفوق باضعاف على القوة الاقتصادية الهندية حيث تجاوز الناتج المحلي القائم للصين 18 تريليون دولار أميركي في مقابل 3.6 تريليون دولار أميركي للهند.
من جهتها فإن الولايات المتحدة تسعى للتقارب مع الهند لتحقيق عدة اهداف أهمها احداث شرخ داخل مجموعة البريكس بين عضوين مؤسسين للمجموعة هما الهند والصين، واستمالة الهند الى صف الولايات المتحدة لاستخدامها كحجر عثرة امام سعي الصين للوصول الى المحيط الهندي وتحديدا الجزء الغربي منه الذي سيشكل احد المنطلقات الرئيسية بالنسبة لبكين نحو افريقيا من جهة وشرق المتوسط ومن خلفه أوروبا من جهة أخرى.
لذا، فإن الولايات المتحدة، رغم فرضها مؤخرًا رسومًا جمركية بنسبة 26 بالمئة على بعض الصادرات الهندية ضمن إجراءات "الرسوم الانتقامية" التي قررت إدارة الرئيس دونالد ترامب فرضها على العديد من الدول، الا انها وافقت على تأجيل تنفيذ هذه الرسوم حتى 1 آب/أغسطس 2025، في ظل استمرار المفاوضات الثنائية بين واشنطن ونيودلهي. هذا التأجيل، الذي تزامن مع زيارة وزير الخارجية الهندي إلى واشنطن للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية الرباعية "كواد"، يعكس تداخلاً بين البعدين الاقتصادي والاستراتيجي في العلاقات الثنائية.
والجدير ذكره ان "كواد" او الرباعية تجمع يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، وقد تشكل في العام 2007 رئيس الوزراء الياباني الاسبق شينزو آبي بدعم من رئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد، ورئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني.
وتزامن ذلك مع مناورات عسكرية مشتركة بين الدول الأربعة بعنوان "مناورة مالابار". اما الهدف الرئيسي لهذا التحالف فهو مواجهة صعود الصين ومحاولة من قبل هذه الدول لتطويقها ومنعها من الوصول الى طرق الملاحة البحرية.
استهداف سلاسل التوريد الصينية
يعتبر أحد الأهداف الرئيسية للمفاوضات الهندية-الأمريكية هو تعزيز التكامل في سلاسل التوريد، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا، والدواء، والصناعات التحويلية. في هذا السياق، تسعى الهند لأن تطرح نفسها كبديل موثوق عن الصين للشركات الأمريكية التي تسعى إلى تقليل اعتمادها على بكين خصوصا في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد بينهما.
وقد بدأت بعض الشركات متعددة الجنسيات بتحويل خطوط إنتاجها من الصين إلى الهند، مستفيدة من برامج الحوافز الحكومية الهندية، فضلاً عن تمتع الهند سوق استهلاكية ضخمة ويد عاملة ماهرة. ويعتبر خبراء ان تعزيز هذه الاتجاهات من خلال اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة قد يمنح نيودلهي قدرة أكبر على التفاوض من موقع اقوى مع الصين.
هذا سيساعد الهند في تعزيز دورها داخل تحالف الرباعية ويمكنها من بناء بنية تحتية تجارية واقتصادية قوية يمكن ان يساعدها في احتواء الصين التي باتت تعمل على توسيع نطاق علاقاتها الاسيوية والعالمية عبر مبادرة حزام وطريق والتي تهدف لترسيخ طرق تجارة برية داخل البر الاوراسي من جهة وتوسيع دائرة انتشارها البحري عبر طرق تشق عباب البحار والمحيطات خصوصا في المحيطين الهادىء والهندي، وهو ما تعتبره الهند خطرا عليها إذ أنها ترى فيه تطويقا لها من مختلف الاتجاهات في ظل وجود قضايا خلافية بينها وبين الصين ومن ضمنها الخلاف الحدودي بينهما في هضبة التيبت وتنافسهما على النفوذ في جنوب شرق آسيا.
من هنا فإن نيودلهي تعتبر ان الشراكة التجارية مع واشنطن ستمكنها من ان تصبح أكثر قدرة على لعب دور "الموازن الإقليمي" للصين وعلى الحد من فاعلية الأدوات الاقتصادية التي تعتمدها الهند لتوسيع شبكة علاقاتها الدولية وهو ما تنظر اليه الهند والولايات المتحدة معا على انه تهديد لهما.
رسائل هندية وتحديات
تسعى الهند من خلال شراكتها الاقتصادية، والاستراتيجية مع الولايات المتحدة، الى توجيه رسائل متعددة للصين. أما أول هذه الرسائل فهو أن نيودلهي لن ترضى بأن تكون الصين، المتفوقة اقتصادياً، هي من تقود منظمة بريكس وشنغهاي وهي من ترسي الاجندات السياسية والاقتصادية في هاتين المنظمتين، عدا عن رفض الهند لان يكون للصين شبكة علاقات في جنوب اسيا تتجاوز الهيمنة الهندية في هذا النطاق.
كذلك فإنه عبر الشراكة مع الولايات المتحدة، فإن نيودلهي تريد ان تحذر بكين من انها تمتلك الفرصة لبناء شبكة علاقات دولية خارج اطار منظمتي بريكس وشنغهاي يمكن ان تمنحها الفرصة لبناء تحالفات اقتصادية واستراتيجية تعزز من مكانتها الإقليمية والدولية في مواجهة الصين. هذا سيمكن الهند من الضغط على الصين لحل مسائل خلافية بينهما مثل الحدود او النفوذ في المحيط الهندي، كما يمكن ان تمنح الولايات المتحدة القدرة على زيادة الضغط على الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي او حتى في افريقيا.
لكن تبقى العلاقات الهندية الأميركية إشكالية. فهذه العلاقات تواجه توترات تعززها علاقات الولايات المتحدة مع باكستان من جهة وتحالف واشنطن مع انقرة التي باتت تسعى لتوسيع دائرة نفوذها الى بنغلاديش عبر دعم جماعات إسلامية هناك. كذلك فإن زيادة اعتماد الهند على السوق الأميركية سيجعلها عرضة لتقلبات مزاج الإدارات الأميركية وخصوصا الإدارة الحالية للرئيس دونالد ترامب الذي بات يستعمل سلاح الرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية على العدو والصديق على حد سواء.
في نفس الوقت فإن الهند لا يمكن أن تذهب بعيداً في خصومتها مع الصين، اذ انها تتشارك معها في منصتين دوليتين باتتا تشكلان محددا رئيسيا للسياسة الخارجية الهندية وهما بريكس وشنغهاي للتعاون. كذلك فإن الهند لا تزال تعتمد على الصين في الكثير من القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها المنتجات الالكترونية والمواد الأولية اللازمة لصناعاتها.
خلاصة
بناء على ما تقدم، فإن الهند قد تستفيد من شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة لتعديل ميزان القوى الاقتصادي والسياسي المختل بقوة لصالح الصين خصوصا في إطار التنافس بين نيو دلهي وبكين على النفوذ في جنوب آسيا، إلا أن هذا لن يدفع بالهند لان تذهب بعيداً في خصومتها مع الصين التي تربطها بها شبكة معقدة من العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية.
لذا يمكن القول بأن الهند تسعى عبر علاقاتها مع واشنطن أن توازن علاقاتها ببكين وتلعب على التناقض بين الصين والولايات المتحدة لتوسع هامش مناورتها بما يجعلها تنتزع اقصى حد من المكاسب السياسية والاقتصادية من الطرفين في آن.