توم باراك... كلام جيد وآليات تنفيذية سيئة

مع تعيين السيد توم باراك مبعوثاً للرئيس ترامب إلى سوريا، لم يعد التغيّر فقط في السلوك السياسي الأميركي تجاه سوريا، بل إنّ لغة الخطاب السياسي كلّها تغيّرت وبشكل كبير.

  • توم باراك لا يتحدّث بلغة عاطفية، بل بعبارات دبلوماسية مدروسة ومنتقاة.
    توم باراك لا يتحدّث بلغة عاطفية، بل بعبارات دبلوماسية مدروسة ومنتقاة.

أثارت تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك ضجة كبيرة لما حملته من مواقف تعكس تغيّراً في النهج السياسي الأميركي لجهة الاعتماد على المقاربات التاريخية في البحث عن الحلول للعديد من القضايا السياسية. فاختيار ترامب سفير الولايات المتحدة في تركيا ليكون مبعوثه الخاص إلى سوريا يحمل رسائل كثيرة، للداخل السوري، والدول الإقليمية، كما أنه إقرار بريادة تركيا في الإقليم، وفي الملف السوري بشكل خاص.

ينطلق ترامب من قناعته الشخصية التي عبّر عنها حين لقائه نتنياهو في البيت الأبيض بأنّ تركيا هي المستفيد الأول مما حدث في سوريا، ناصحاً نتنياهو بضرورة التنسيق معها فيما يتعلّق بسوريا. فمقاربة ترامب واهتمامه بالشأن السوري بدت متغيّرة ومتذبذبة، ففي حين كان ينظر إلى سوريا باعتبارها مستنقعاً "ليس فيه سوى الرمال والموت"، وأنه سيجنّب الولايات المتحدة الغوص في تفاصيلها، باتت اليوم سوريا على رأس اهتماماته، بعد إصداره قراراً تاريخياً برفع العقوبات عنها.

لقاء ترامب الرئيس أحمد الشرع في السعودية شكّل منعطفاً كبيراً في تاريخ العلاقات بين البلدين لاعتبارات كثيرة، منها أنه أول لقاء بين رئيس سوري ورئيس أميركي منذ أكثر من ربع قرن، كما أنّ الرئيس الشرع كان مدرجاً على لوائح الإرهاب الأميركية...إلخ. كما أنّ توجيه دعوة للرئيس السوري لحضور جلسة للجمعية العامّة للأمم المتحدة للمرة الأولى منذ عام 1974، يحمل رسائل سياسية مفادها ليس فقط انفتاحاً أميركياً على دمشق، بل السعي لحشد دعم دولي لمساعدة الحكومة السورية وتمكينها من البدء بإعادة الإعمار. 

توم باراك لا يتحدّث بلغة عاطفية، بل بعبارات دبلوماسية مدروسة ومنتقاة بعناية، الهدف منها إظهار الولايات المتحدة الأميركية بوجه جديد، باعتبارها الدولة الراعية للسلام في المنطقة. فلطالما كان التعاطي مع التاريخ أمر مستهجن من قبل الأميركيين، باعتبارهم دولة بلا تاريخ، لذا عملوا على الترويج لفكرة أنّ "أسعد الشعوب هي الشعوب التي بلا تاريخ".

الحديث عن حدود سايكس بيكو وما خلّفته من ويلات لدول المنطقة وشعوبها حقيقة لا يمكن تجاهلها. لكن في الوقت نفسه لا يمكن التغاضي عن "خرائط الدم" التي سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة لرسمها في منطقتنا العربية، وفقاً لرؤيتها لما سمّي بـ "الشرق الأوسط الجديد".

المشكلة في هذا الشرق الأوسط المنشود أنّ القيادة فيه لن تكون سوى لـ "إسرائيل"، "إسرائيل" وحدها ولا أحد سواها، باعتبارها واحة الديمقراطية الغربية في هذا الشرق البائس. فالولايات المتحدة ترى أنّ تلك الحدود ليست مقدّسة، فما البديل عنها، هل يعني ذلك العودة إلى خرائط الدولة العثمانية، وهل الحديث عن سوريا الكبرى أمر متاح اليوم.

ترامب ذاته كان قد تحدّث عن صغر مساحة "إسرائيل"، في إشارة منه، وضوء أخضر ربما لحكومة الكيان كي تمارس سياساتها التوسّعية على حساب جيرانها من العرب المنشغلين بحروبهم الداخلية وصراعهم الأزلي على السلطة، التي لم يكن الطريق إليها يوماً إلا بالقوة.

صحيح أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تكن على دراية بتوقيع اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 وبشكل سري بين الفرنسيين والبريطانيين وروسيا القيصرية، ولم تكن راضية عنها، باعتبار أن تركة الدولة العثمانية يجب أن تكون من حقّ شعوب المنطقة، وهي وحدها القادرة على تقرير مصيرها.

لكنّ الولايات المتحدة لم تعارض وعد بلفور البريطاني في العام 1917، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل كانت أول من اعترف بقيام "دولة إسرائيل"، واستمرت في تقديم يد العون لها وحمايتها حتى يومنا الراهن. فمن يستحضر التاريخ عليه أن يمتلك شجاعة الاعتذار على الأقل عمّا ارتكبته بلاده بحقّ شعوب المنطقة، الذين كانوا أكثر المتضررين من السياسة الأميركية ولعقود مضت.

المستقبل للحلول الإقليمية...

مع تعيين السيد توم باراك مبعوثاً للرئيس ترامب إلى سوريا، لم يعد التغيّر فقط في السلوك السياسي الأميركي تجاه سوريا، بل إنّ لغة الخطاب السياسي كلّها تغيّرت وبشكل كبير، فباتت أكثر وضوحاً وصراحة.

تشير تصريحات باراك إلى أنّ الدور الأوروبي في المنطقة أصبح من الماضي، كما أنه يسعى لتحميل الأوروبيّين المسؤولية التاريخية عمّا حدث في المنطقة من أزمات، وأنّ شعوب المنطقة هي من تحمّلت تلك النتائج. وأنّ التعاون في المنطقة يقتضي التعاون العابر للحدود بين دولها، في إشارة منه إلى مشاريع التنمية المطروحة في المنطقة، ومشاريع الطاقة التي تعدّ سوريا جزءاً رئيسياً منها.

يرى أنّ ما عانته سوريا كان بسبب السياسات الاستعمارية التي مرّت عليها، وهي لغة واقعية قائمة على احترام إرادة الشعب السوري وخياراته وتكوينه الاجتماعي. لغة قائمة على احترام المصالح والاعتراف بسيادة الدول، بعيداً عن لغة التعالي والإملاءات التي داومت السفارة الأميركية في دمشق على نشرها، والتي كانت تعاني كثيراً من الضحالة الفكرية والسياسية.

يرى باراك أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تريد أن تفرض نماذجها على أحد، وخاصة فيما يتعلّق منها ببناء الدولة وشكل الحكم، وأنّ شعوب المنطقة هي من تحدّد ذلك. لذا يبدو أنّ سوريا اليوم محظوظة باختيار مثل هذا الشخص، نظراً لدبلوماسيته وسعة أفقه السياسي وواقعيّته وفهمه للتاريخ، وإدراكه للتوازنات السياسية في المنطقة، ونظرته العميقة نحو المستقبل.

لكنّ المخاوف تبقى قائمة ومشروعة، خاصة وأنّ الخبرة التاريخية تؤكّد لنا حالة الاستعداء الأميركي لسوريا والعرب، وانحيازها المطلق لـ "إسرائيل". فهل هدف ترامب هو التنصّل من الالتزامات الأميركية تجاه دول العالم، وخاصة فيما يتعلّق منها بحسم النزاعات في منطقة الشرق الأوسط. ولا سيما أنّ ترامب يسعى لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة على العالم، مع سعيه لعدم تحمّل نفقات قيادة العالم، في مقاربة تبدو غريبة من دول سعت لعولمة قيمها وثقافتها على العالم كلّه.

رغبة الولايات المتحدة في إيجاد نظام إقليمي هدفه حلّ مشكلات المنطقة وعدم السماح بالتدخّل في شؤونها، هدفها قطع الطريق على الصين التي باتت مواجهتها الشغل الشاغل لإدارة ترامب.

المشكلة أنّ أميركا تريد قتال الصين بالعرب والمسلمين، لذا فقد سخّرت مكنتها الإعلامية لـ "شيطنة الصين"، وتصويرها كعدو للمسلمين، رغبة من الولايات المتحدة في استنساخ النموذج الأفغاني في الصين. ففي حرب أفغانستان جنّدت القاعدة لقتال الاتحاد السوفياتي فيما سمّي بـ (الجهاد الأحمر)، واليوم يجري الحديث عن الجهاد الأخضر (ضد الصين) بذريعة اضطهادها لبعض المسلمين.

الحديث عن المنافسة بين الصين وأميركا لا معنى له، فأميركا لا تتحلى بأخلاق المنافس، ولا تفهم سوى لغة القوة، وهي القوة التي لا تطيقها الصين، لكنها تستعدّ للردّ عليها عند الضرورة. وتدرك الصين أنها باتت اليوم الأمل للكثير من شعوب العالم، لتخليصهم من الاضطهاد الأميركي، وتتعامل بحسّ عالٍ من المسؤولية إزاء ذلك، فتؤكّد أنّ جميع الدول متساوية، بغضّ النظر عن حجم الدولة وقوتها على الساحة الدولية.

هذه النظرة ليست نظرة تكتيكية بكلّ تأكيد، بل هي استراتيجية تحرص بكين على انتهاجها رغم كلّ المحاولات الأميركية الساعية لتخويف العالم من "الصعود الصيني". فتاريخ الصين سلمي، فالصين لم تستعمر أحداً، ولا تطمح لنهب خيرات أحد، بل إنّ هناك قناعة راسخة لدى صانع القرار الصيني بحتمية التعاون للوصول إلى عالم أفضل.

ترى الصين أننا "جيران في عالم واحد"، وأنّ الاقتصاد العالمي بات اليوم أشبه بالأواني المستطرقة. فكلّ تحسّن في دولة ما ينتج عنه تحسّن في باقي دول العالم، والعكس صحيح أيضاً، فإذا وقعت مشكلة في دولة فالعالم كلّه سيتأثّر بها. ولعلّ الحرب في أوكرانيا كانت خير دليل على ذلك، حيث وصلت ارتداداتها إلى جميع الدول.

هذا التداخل فرضه تطوّر وسائل الاتصال وتداخل الاقتصادات، حيث لم يعد بمقدور أحد أن يعيش معزولاً عن العالم. بينما بدأت الحرب العالمية الثانية وانتهت ولم تتأثّر الكثير من الدول بها، باعتبارها لم تكن مشاركة في تلك الحرب.

تؤمن الصين بديمقراطية المعرفة ونشر نتائجها خدمة للبشرية، وهو ما كان جلياً بتبادلها المعلومات حول كوفيد 19 مع العديد من دول العالم. كما تؤمن الصين بالنظرية الاعتمادية في العلاقات الدولية، فكلّ دولة تعتمد على غيرها من الدول في تأمين جزء من احتياجاتها، فدول لديها المواد الأولية، وأخرى تمتلك التكنولوجيا، وثالثة تتفوّق باليد العاملة المدرّبة والخبيرة والرخيصة، ورابعة لديها أسواق كبيرة... وهكذا.

الإدارة السورية الجديدة من جهتها تحاول مسك العصا من المنتصف، واللعب على المتناقضات، وانتهاج سياسة براغماتية الهدف منها تحقيق المصلحة السورية أولاً، والابتعاد عن الصراعات، أو على الأقل تأجيلها، باعتبار أنّ الوقت "مكسب صلب" تسعى للمحافظة عليه.

فعلى الرغم من تقاربها مع الولايات المتحدة، فقد استقبلت دمشق عدة وفود دبلوماسية صينية وروسية، ومن المتوقّع أن تكون هناك زيارة قريبة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو لبحث العلاقات بين البلدين وتصحيحها، انطلاقاً من رغبة دمشق في الحفاظ على تلك العلاقة التاريخية بين البلدين.

قدرة الحكومة السورية على المناورة وعدم الذهاب في اصطفافات سياسية، تعزّز مكانتها الإقليمية والدولية، وتزيد من فرصها في انتهاج سياسة تنموية تحتاجها سوريا بعد عقود من الإهمال والقطيعة.