سوريا المنهكة و"إسرائيل" المتغطرسة: معادلة تفاوض غير متكافئة
"إسرائيل" التي تشعر اليوم بغياب أي تهديد فعلي من دمشق، لا تجد نفسها مُلزمة بأي تنازل، فالواقع أن سوريا خرجت عملياً من محور المقاومة، منذ لحظة "انتصار الثورة".
-
التحديات التي تواجه تطبيع العلاقات بين دمشق و"تل أبيب".
منذ اللحظة الأولى، أدرك مؤسسو "إسرائيل" أن كيانهم المصنوع سيبقى جسماً غريباً عن المنطقة، غير قابل للهضم أو الاستيعاب، وأن استمراره مرهون بتفكيك بيئته.
لذا، ربطت النخب الحاكمة في "تل أبيب" بين أمن المجتمع الإسرائيلي واستقراره وبين إضعاف الدول المحيطة به، وحتى حين دخلت في اتفاقيات "سلام" مع بعض جيرانها، لم تكن تنظر إليها كتحوّلات استراتيجية بقدر ما عدّتها هُدنات مؤقتة مع أطراف قوية نسبياً، تتيح لها التركيز على ساحات أخرى للقتال والتخريب، وبعد أداء المهمة، تعود إلى الانقضاض على الطرف ذاته، كما حدث مراراً في لبنان، وسيناء، وحتى مع السلطة الفلسطينية نفسها.
ولا يمكن في هذا السياق فصل "إسرائيل" عن بنيتها الأصلية كامتداد مباشر للمشروع الاستعماري الغربي، بكل ما يحمله من نزعة هيمنة وعنصرية وتفوّق عرقي، لذا فلم يكن الهدف يوماً الاندماج مع المحيط العربي أو الإسلامي، بل التسيّد عليه، كما لم يكن مطلوباً من العرب أن يقبلوا "إسرائيل"، بل أن يخضعوا لها.
على مدى عقود، مضت "إسرائيل" بهدوء وثقة نحو هذا الهدف، مستفيدة من ثلاثة عوامل مركزية:
- التمزّق العربي الداخلي.
- تراجع القوى الإقليمية التقليدية.
- الدعم الغربي اللامحدود.
لكن التقدم الكبير حدث خلال العقدين الأخيرين، مع الانهيار المتسارع للنظام العربي، إما تحت وقع الغزو الأميركي المباشر، أو بسبب الانفجارات الداخلية التي صاحبت ما يسمّى "الربيع العربي" عام 2011، فقد تسببت تلك الأحداث في سقوط أنظمة كانت على تماسّ مع قضايا المقاومة، وضربت مفهوم الدولة الوطنية في مقتل، ودفعت بمجتمعات عربية إلى حروب أهلية وانقسامات طائفية وقَبلية غير مسبوقة، ما أدّى إلى تفكيك البنية الأمنية والسياسية لدولٍ محورية في العالم العربي.
"إسرائيل" وسوريا: تفاوُض من موقع قوة
ضمن هذا الإطار، تصبح مساعي النظام السوري الجديد لنسج علاقات مع "تل أبيب" خالية من الجدوى، فـ"إسرائيل"، التي تشعر اليوم بغياب أي تهديد فعلي من دمشق، لا تجد نفسها مُلزمة بأي تنازل، فالواقع أن سوريا خرجت عملياً من محور المقاومة، منذ لحظة "انتصار الثورة" في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.
منذ ذلك الحين، لم تعد حكومة الاحتلال تتعامل مع سوريا كخصم، بل كساحة مفتوحة لتوجيه الرسائل وتصفية الحسابات، المقاومة الإسلامية في لبنان مثلاً، أصبحت مهدّدة من جهة الأراضي السورية، لا من حدود فلسطين المحتلة فقط، وسط صمت أو تواطؤ رسمي.
أما الجيش السوري، فقد جرى استنزافه أولاً في حرب دامت أربعة عشر عاماً، ثم جرى تحطيم بنيته وتسريح أعداد كبيرة من قواته مع نهاية عام 2024، والأسوأ أن الصحف العبرية بدأت تتحدث صراحة بأن الإدارة السورية الجديدة، هي من تحتاج اليوم إلى عقد اتفاق مع نتنياهو، لثلاثة أسباب:
الأول: عدم القدرة على المواجهة العسكرية مع القوات الإسرائيلية التي باتت تتصرف بحريّة في الأراضي السورية، حيث تنفّذ "إسرائيل" ضربات جوية منتظمة من دون مقاومة تذكر.
الثاني: حاجة بعض الاتجاهات داخل الدولة السورية اليوم إلى تسويق نفسها أمام الغرب كشريك "معتدل"، ويُقدّم التطبيع هنا، بوصفه شهادة "براءة ذمّة" من الإرهاب والتطرف.
الثالث: تمزّق المجتمع السوري من الداخل، وتدهور الأوضاع الأمنية، وهو ما يفرض على النظام تجنّب أي مواجهة مع طرف خارجي قوي كـ"إسرائيل"، حتى يتسنّى له الوقت الكافي لترتيب الأوضاع في الداخل.
مسار التطبيع.. بدأ بجسّ النبض وتبلور في أذربيجان
منذ سقوط نظام بشار الأسد وتشكّل نظام جديد بقيادة أحمد الشرع/الجولاني، بدأت تلوح مؤشرات على تحوّل جذري في الخطاب السياسي السوري، تمثلت في رسائل جسّ نبض لتبيّن استعداد النظام الجديد للانفتاح على "إسرائيل"، وربط ذلك بمسار "التطبيع الإقليمي" الذي بدأ قبل سنوات مع اتفاقيات أبراهام، التي شملت البحرين والإمارات والمغرب والسودان، وقد تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هذا الأمر في أكثر من مناسبة، معتبراً إتمام هذا الاتفاق بمنزلة "انتصار سياسي جديد" لإدارته.
خلال النصف الأول من عام 2025، نشطت وساطات غير مباشرة عبر أطراف خليجية وأوروبية، لترتيب قنوات تواصل أمنية بين دمشق و"تل أبيب"، وعلى مدار الشهور الماضية كانت التقارير الإعلامية تخرج تباعاً لتؤكد أن القيادة السورية الجديدة منفتحة على عقد اتفاقية مع الجانب الإسرائيلي، وربما الاعتراف الدائم بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، بشرط ضمانات اقتصادية، تتمثل في تخفيف أو رفع العقوبات الغربية (وهو ما جرى بالفعل في مايو/أيار الماضي)، مع الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها القوات الإسرائيلية خلال الشهور السبعة الماضية، ووقف الغارات الجوية الإسرائيلية.
الطرف الأميركي حاضر بقوة في هذا السياق، سواء من خلال تصريحات الرئيس الأميركي المتتالية، أو عبر ستيف ويتكوف، المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، وتوماس باراك، مبعوث ترامب إلى سوريا، والذي رجّح أن تبدأ العملية بـ"حوار غير مباشر بشأن قضايا حدودية، ثم يتطور لاحقاً إلى نقاشات أوسع تهدف إلى منع الصدام بين البلدين".
زيارة الشرع الأخيرة إلى أذربيجان في 12/7/2025، لا تنفصل عن هذا السياق، بل تُعدّ تتويجاً لهذا المسار، فأذربيجان التي أعلنت، على لسان حليفها رجب إردوغان، استعدادها لتزويد الحكومة السورية الجديدة بالغاز، هي ذاتها التي زوّدت "إسرائيل" بأكثر من 60٪ من البنزين المستهلك فيها، خلال عام 2019، كما تُعدّ الشريك التجاري والاستخباري الأهم لـ"إسرائيل" بين الدول ذات الأغلبية المسلمة، حتى خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، تُعدّ أذربيجان الدولة الإسلامية الوحيدة التي واظبت على دعمها لـ"تل أبيب"، ويفترض أن اجتماعاً جرى خلال تلك الزيارة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين.
التحديات التي تواجه تطبيع العلاقات بين دمشق و"تل أبيب"
جنباً إلى جنب مع شعور "إسرائيل" المتنامي بالقوة، وأفكار اليمين الصهيوني التي تدفع الحكومة الإسرائيلية نحو الهيمنة على المنطقة، لا التصالح معها.. هناك بعض الأمور المتعلقة بالبيئة السورية الداخلية، والتي قد تعطّل مساعي دمشق للتقارب مع "تل أبيب"، ويمكن رصدها في النقاط الآتية:
أولاً: هشاشة الشرعية الداخلية للنظام الجديد
النظام الذي تشكّل بعد سقوط بشار الأسد لا يتمتع بشرعية سياسية راسخة أو قاعدة شعبية موحدة، فهو نتاج تحالف بين فصائل سلفية محلية وأطراف إقليمية، وبالتالي، فإن أي خطوة نحو التطبيع مع "إسرائيل" يمكن أن تثير تمرداً داخلياً أو انقساماً حاداً في البنية الحاكمة نفسها، خصوصاً في ظل وجود قوى لا تزال ترفع شعارات "تحرير الجولان" و"رفض الاحتلال الصهيوني" في الشارع أو حتى في الفصائل المسلحة.
ثانياً: غياب الدولة المركزية وضعف القرار السيادي
سوريا اليوم ليست دولة مركزية بالمعنى التقليدي، بل هي أقرب إلى دولة منهكة مفككة إدارياً وعسكرياً، تعاني من تعددية مراكز القوة والنفوذ داخل أراضيها، وهذا ما يجعل اتخاذ قرار كبير بحجم التطبيع مع "إسرائيل" أمراً بالغ الصعوبة، لأنه بحاجة إلى حدّ أدنى من التوافق الداخلي غير المتوفر.
ثالثاً: الخشية من السقوط السياسي أمام الرأي العام
رغم تراجع الحضور السياسي للقضية الفلسطينية في الخطاب الرسمي العربي، فإن جزءاً كبيراً من الشعوب، لا يزال ينظر إلى "إسرائيل" كعدو ومحتل، وبالتالي، فإن أي خطوة تطبيعية من دون مقابل فعلي (مثل انسحاب من الجولان أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية) ستُفسَّر شعبياً على أنها خيانة، وتفتح الباب لتمرد سياسي، وقد تؤدي إلى إضعاف النظام أكثر مما تقوّيه.