سوريا و"إسرائيل".. اتفاق أمني أم جيوسياسي!

ستشهد سوريا في الفترة المقبلة ظهور جوقة من المطبّلين الداعمين للتطبيع مع "إسرائيل" تحت ذرائع الواقعية والبراغماتية وغيرها، وفي الوقت نفسه، يجب احترام الآراء الرافضة لذلك والمحذرة منه.

  • قانونية المفاوضات السورية-الإسرائيلية...
    قانونية المفاوضات السورية-الإسرائيلية...

لم يعد السؤال هل ستوقّع الحكومة الانتقالية في سوريا اتفاقاً مع "إسرائيل" أم لا، بل بات الحديث حول طبيعة هذا الاتفاق وعلى ماذا ستوقّع، وما هي النتائج المرجوة منه، وهل سيمنع الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، وهل سيؤدي في المحصلة إلى رفع كامل للعقوبات عن سوريا.

الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا لم تتوقف منذ سنوات، لكن وتيرتها ازدادت وباتت أكثر صفاقة منذ سقوط نظام الأسد، فلم تعد تكتفي بتنفيذ غارات جوية بل وصلت حد احتلال جزء من الأراضي السورية، والاعتداء على رموز السيادة فيها المتمثلة في وزارة الدفاع والقصر الجمهوري.

لقد تجاوزت مساحة الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعد سقوط نظام الأسد أكثر من 500 كم2. بالإضافة إلى تدمير شبه كامل للمواقع العسكرية السورية والقضاء على ما تبقى من ترسانة عسكرية فيها، إضافة إلى سرقة المياه الجوفية السورية التي تسببت بالمزيد من المعاناة، إذ إن سوريا تشهد أكبر موجة جفاف منذ ستة عقود. 

لم تكتفِ "إسرائيل" بذلك، بل قامت بعمليات إنزال وخطف لعدد من المواطنين السوريين والتحقيق معهم بذريعة التعاون مع حزب الله، أو تسهيل مرور الأسلحة من سوريا إلى لبنان وسوى ذلك من ترهات.

الحكومة السورية، من جهتها، مارست أقصى درجات ضبط النفس إلى حد أصبح فيه المواطن يشعر وكأن بلاده باتت مستباحة، وأن الحكومة تبدو وكأنها غير معنية بحماية سيادة بلاده، والدفاع عن مواطنيها، وإصدار بيانات واضحة بشأن ما يجري من أحداث.

الجميع يدرك أن الحكومة ورثت أوضاعاً سياسية واقتصادية صعبة، فالبلاد مدمرة، ونصف الشعب السوري مهجر ما بين لاجئ ونازح، والحديث عن الجيش السوري بات شيئاً من الماضي، وكل ما يجري العمل عليه هو البدء بتشكيل جيش وطني بمساعدة بعض الدول الصديقة، لا يمكن توقّع وصوله إلى مرحلة "الاحترافية" إلا بعد سنوات على أقل تقدير. 

خياران أحلاهما مر....

كانت الخيارات المتاحة أمام الحكومة السورية تتمحور حول فكرتين، إما الدخول في مواجهة مباشرة مع "إسرائيل"، وهذا الخيار يعدّ نوعاً من الانتحار، إذ إن سوريا لا تمتلك المقوّمات اللازمة لها. أو الخضوع والاستسلام وتوقيع معاهدة سلام تعني التنازل عن الجولان وباقي الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.

سعت الحكومة السورية إلى البحث عن مخرج ثالث أقل إيلاماً للسوريين، بالاعتماد على الدعم العربي والإقليمي والدولي الذي تحظى به الحكومة السورية، خصوصاً من قبل ترامب الذي يريد تحقيق إنجاز في مسار المفاوضات بين سوريا و"إسرائيل"، بغض النظر عن طبيعة هذا الإنجاز، ولمصلحة من سيكون. 

الانفتاح على سوريا لا يزال يشكل هاجساً، ويثير القلق والمخاوف لدى العديد من أبناء الشعب السوري حول الثمن الذي يتوجب على سوريا دفعه لقاء ذلك الانفتاح، رغم محاولة الحكومة الافصاح عن أكثر الأمور حساسية وتعقيداً وهو التفاوض مع "إسرائيل".

المشكلة في قضية التفاوض أن سوريا تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى السلام، في حين ترد عليها "إسرائيل" بمزيد من القصف والتوغل والتهديدات التي وصلت حد التهديد باستهداف القيادة السورية ذاتها. 

وجهة نظر الحكومة السورية أن التفاوض مع "إسرائيل" يزيل الحرج عنها المتمثل بتكرار الاعتداءات الإسرائيلية وإيجاد حل لقضية السويداء، ومن ثم "قسد"، كما أنه يسهم في دفع الإدارة الأميركية إلى رفع العقوبات عن سوريا، إذ لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار وتدفق الاستثمارات الأجنبية في ظل وجود تلك العقوبات.

ما تريده دمشق هو توقيع اتفاقية أمنية مع "إسرائيل" لا المضي في توقيع اتفاق جيوسياسي قد يؤدي إلى وضع نهاية لمطالبتها بتحرير الجولان، وهو ما يجعل قضية التفاوض أكثر تعقيداً مما نعتقد.

قضية الجولان تبدو مؤجلة، وأكثر ما يمكن توقعه هو الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود ما قبل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهو ما لن تقبل به "إسرائيل" إلا إذا استطاعت دمشق تحقيق المزيد من الأمن لـ"إسرائيل"، ومارست الولايات المتحدة دوراً في الضغط على حكومة نتنياهو بصفتها الراعي الرسمي والوحيد لتلك العملية. 

تحقيق المزيد من الأمن لـ"إسرائيل" لن يكون سوى بتوسيع المنطقة العازلة لتشمل ربما محافظات كاملة من الجنوب السوري، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى انتقاص من السيادة السورية، فكيف يمكن الحديث عن دولة ذات سيادة لا يمكنها نشر جيشها على كامل أراضيها.

احتكار وزارة الخارجية السورية ملف المفاوضات يزيد من المخاوف، فلم نسمع بوجود لجان فنية تختص بالمياه وترسيم الحدود وما إلى ذلك، على غرار ما حدث سابقاً بعد مؤتمر مدريد للسلام. 

مضي الحكومة السورية وحدها في المفاوضات مع "إسرائيل" يجعلها أكثر عرضة للضغوطات، وكان من الأفضل السعي لأن تكون سوريا جزءاً من مبادرة السلام العربية، وبالتالي تكون جزءاً من اتفاق عام بين الدول العربية و"إسرائيل".

قدرة دمشق على انتزاع إعلان إسرائيلي رسمي بعدم الاعتداء على سوريا بعد توقيع الاتفاقية الأمنية بين الجانبين هو المعيار لنجاح تلك المفاوضات، وإلا فإن فشل تلك المفاوضات قد يؤدي إلى حالة من اشتعال جبهة الجنوب السوري ضد "إسرائيل"، عبر مقاومات شعبية لن تستطيع الحكومة منعها.

ضعف سوريا لا يعني عجزها، و"الجهاد ضد إسرائيل" سيكون له الكثير من المؤيدين، ليس من سوريا وحدها، بل من العالمين العربي والإسلامي.

"إسرائيل".. فائض القوة والعنف..

المشكلة أن "إسرائيل" تشعر بفائض كبير من القوة، تزيد منه حالة الضعف العربي والتراجع الإقليمي والدولي عن دعم القضية الفلسطينية، بعد استمرار "إسرائيل" في المجازر التي ترتكبها بحق المدنيين في غزة.

نجاح "إسرائيل" في تحويل "طوفان الأقصى" إلى "11 سبتمبر إسرائيلي" مكّنها من الترويج لفكرة "محاربة الإرهاب" الذي ترتكبه حركة حماس، مستغلة حالة التجاذبات العربية والإقليمية ومواقف بعض الدول العربية المعادية لحركة حماس؛ بسبب قربها من المحور الإيراني، على حد وصفهم.

نتنياهو المأزوم داخلياً لا يمكن توقع ردود أفعاله، فالاعتداءات الإسرائيلية تجاوزت الدول المحيطة بها لتصل إلى إيران واليمن ومن ثم قطر، وبالتالي فإن جميع الخيارات تبدو مفتوحة أمامه، في ظل حالة الانهزام التي تعيشها دول المنطقة.

لا يمكن لـ"إسرائيل" تجاهل حالة الضعف التي تعيشها سوريا، رغم أن الجميع يدرك أن سوريا الواحدة الموحدة أفضل لـ"إسرائيل" من سوريا التي تسيطر عليها ميليشيات متطرفة لا يمكن توقع ردود أفعالها على ما ترتكبه "إسرائيل" من مجازر بحق المسلمين في غزة.

هذا لا ينفي المخاوف الإسرائيلية من تكرار "طوفان الأقصى"، والدروس المستفادة منه، والتي يمكن تلخيصها بأن لا يمكن الوثوق بالحركات الإسلامية على حد تعبيرهم.

الثابت الوحيد أنه لا يمكن توقع نهاية للاعتداءات الإسرائيلية على محيطها العربي والإقليمي، فوقف الحرب يعني سقوط حكومة نتنياهو، مع التأكيد أنه لا يمكن توقع وصول حكومة صهيونية أقل تطرفاً فيما لو حدث ذلك.

لم تعد منطقة الشرق الأوسط تشكل الأولوية للدول العظمى، وكل التوافقات تجري على وقع الحرب الأوكرانية، وبالتالي فإن العرب فقدوا "المعادل الدولي" الذي يقف في وجه الدعم الأميركي المطلق لـ"إسرائيل".

قانونية المفاوضات السورية-الإسرائيلية...

السؤال الجوهري المطروح الآن يتمحور حول فكرة قدرة الحكومة الانتقالية السورية على توقيع اتفاقية للسلام مع "إسرائيل"، وهل تمتلك التفويض القانوني اللازم لذلك.

أعتقد أنه من السابق لأوانه توقّع توقيع اتفاقية سلام بين سوريا و"إسرائيل"، وكل ما يجري الحديث عنه هو توقيع اتفاقية أمنية تضع حداً للاعتداءات الصهيونية المتكررة على دمشق. 

توقيع الاتفاقية الأمنية لا يحتاج إلى عرضها على البرلمان، علماً أنه لا يوجد برلمان سوري حتى الآن، ومن المتوقع أن يجري تشكيل برلمان جديد خلال شهر تقريباً.

عند تشكيل البرلمان، قد تلجأ الحكومة إلى عرض الاتفاقية الأمنية عليه لتمريرها بالطرق القانونية، ولا يمكن توقع موقف من البرلمان معارض لتوجهات الحكومة، خصوصاً أن طريقة تشكيل البرلمان تضمن وصول المؤيدين للحكومة إلى سدته. 

المقاربة القانونية قد لا تكون صحيحة عند مناقشة العديد من القضايا السياسية، إذ إن مهمة السياسة تتركز على البحث عن مخارج لـ "تدوير الزوايا" التي يعجز القانون عن إيجاد حلول لها. 

في المحصلة، فإن توقيع أي اتفاق مع "إسرائيل" لن يكون أقل سوءاً من عدمه، فهي "دولة مارقة" لا تحترم القانون ولا تعير اهتماماً للمواثيق الدولية. 

الحديث عن أن توقيع اتفاق للسلام مع "إسرائيل" سيجلب الرخاء لسوريا أمر مشكوك فيه، فالدول التي وقّعت مع "إسرائيل" لم يكن واقعها السياسي والاقتصادي أسوأ مما أصبحت عليه اليوم بعد مرور عقود على الاتفاق. 

لا يمكن أن يكون السلام خياراً استراتيجياً لسوريا إذا لم تقابله رغبة إسرائيلية في ذلك، وكل المعطيات تثبت عكس ذلك.

إقناع الداخل السوري بجدوى أي اتفاق مع "إسرائيل" لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالمصارحة والمكاشفة، وعدم الوقوع في فخ الاتفاقيات غير المعلنة التي تسعى "إسرائيل" لتوقيعها. 

الدول العربية التي سبق أن وقعت اتفاقيات للسلام مع "إسرائيل" شهدت هزات داخلية ناتجة عن رفض بعض القوى والتيارات السياسية لمثل تلك الاتفاقيات. 

منع تلك القوى من التعبير عن رأيها الرافض للسلام مع "إسرائيل" جعلها تسلك سلوكاً عنيفاً أحياناً، وهو ما لا نتمنى وقوعه في سوريا بكل تأكيد. 

السلام مع "إسرائيل" لا يقل خطورة عن العداء معها، بل إنه ينقل الصراع الخارجي إلى اقتتال داخلي إذا لم تكن هناك توافقات سياسية ناتجة عن حوارات صريحة ومعمقة تظهر أن السلام هو الخيار الأنسب لسوريا، وأن بنوده لم تفرط في حقوق الشعب السوري. 

نجاح الحكومة السورية في السماح للشعب السوري بالتعبير عن آرائه وعدم سعيها لاحتكار المجال العام يجنبها حالة الاحتقان التي يمكن أن تنشأ كرد فعل على الاتفاق مع "إسرائيل". 

ستشهد سوريا في الفترة المقبلة ظهور جوقة من المطبّلين الداعمين للتطبيع مع "إسرائيل" تحت ذرائع الواقعية والبراغماتية وغيرها، وفي الوقت نفسه، يجب احترام الآراء الرافضة لذلك والمحذرة منه، فالاختلاف حالة صحية، وظهور الرأي الآخر يحسب للحكومة لا عليها.