عن الأمن القومي العربي "المُستعار" والحاجة للانتقال من "الاعتمادية" إلى الاعتماد على الذات
ما الذي حرّك مياهاً راكدة بين عواصم وازنة وفاعلة ليتقرّب بعضها من بعض، وهل نرى دولاً عربية أخرى، تحثّ الخطى في البحث عن تحالفات ومظلات من أطراف فاعلين، من داخل نادي "الحمايات الدولية" المعروف أو من خارجه؟
-
آن الأوان لكي تدرك حكومات الدول العربية بأن الأمن القومي العربي لا يمكن أن يظل "مستعاراً".
في الأنباء، أن المملكة العربية السعودية، أبرمت اتفاقاً للدفاع الاستراتيجي مع الباكستان، ونقول استراتيجي، لأنه وفقاً لشروحات خبراء وإعلاميين مقربين من دوائر القرار في البلدين، فإن الاتفاق يقضي بمدّ المظلة النووية الباكستانية إلى السعودية... وزاد بعضهم، أن طلائع قوات باكستانية، بدأت الانتشار فعلاً في بعض المواقع العسكرية على مقربة من مكة والرياض... يأتي ذلك، فيما اللقاءات رفيعة المستوى تجري على قدم وساق بين طهران والرياض، والبحث فيها يتخطى "الثنائي" في علاقات البلدين، إلى ما هو إقليمي ودولي أوسع نطاقاً... تطورات مهمة و"نوعية" تستحق الترحيب، وسيكون لها، إن كانت توجهاً جاداً واستراتيجياً، وليست "أوراقاً تفاوضية"، تداعيات كبيرة، وربما تسهم في خلط الأوراق والتحالفات والتوازنات على الساحتين الإقليمية والدولية.
وفي الأنباء أيضاً، ولكن في الاتجاه المعاكس، أن الإمارات العربية المتحدة، تبحث مع الهند في "تصعيد" تعاونها الاستراتيجي، إلى مستوى معاهدة دفاع مشترك، وأن وفداً عسكرياً، يزور نيودلهي ويبحث تفاصيل أمرٍ قد يتوج، بلقاء قمة، أو لقاءات أرفع مستوى من مستوى الخبراء والعسكريين... والإمارات كما هو معروف، تربطها بالهند، مع الولايات المتحدة و"إسرائيل"، صيغة "رباعية"، قد تكون تخطت الاقتصاد والنقل، إلى ما هو أمني ودفاعي... تطورات مقلقة من منظور الصراع العربي – الإسرائيلي من جهة، ومن منظور أمن الخليج واستقراره ووحدة موقفه، من جهة ثانية.
وغير بعيد عن الخليج، في مصر، ثمة حراك لافت، استراتيجي، بدوره... علاقات القاهرة بأنقرة، لم تكن يوماً بهذا الدفء، على حد تعبير حاقان فيدان، وفي شتى الميادين، فيما المناورات العسكرية البحرية المشتركة تنهض شاهداً على ذلك... وكان لافتاً، أن القاهرة، وليست مسقط أو بغداد، هي من توسط بين طهران والوكالة الدولية للطاقة النووية، لإبرام آخر اتفاق جرى التوصل إليه بين الطرفين... تطورات مهمة تأتي على إيقاع التأزم المتصاعد بين مصر و"إسرائيل" على خلفية الحرب على غزة، وما تبعها.
فما الذي يجري "وراء هذه الأنباء"، وما الذي حرّك مياهاً راكدة بين عواصم وازنة وفاعلة ليتقرّب بعضها من بعض، وما الذي قد يطرأ في قادمات الأيام، وهل نرى دولاً عربية أخرى، تحثّ الخطى في البحث عن تحالفات ومظلات من أطراف فاعلين، من داخل نادي "الحمايات الدولية" المعروف أو من خارجه؟... أسئلة مثيرة لاهتمام الرأي العام العربي، نجهد في تقديم إجابة عنها في "النقاط العشر" التالية:
أولاً؛ يمكن القول بكثير من الجزم، إن أغلب العواصم العربية، من نادي أصدقاء الولايات المتحدة، إن لم نقل جميعها، بات "قليل إلى منعدم الثقة" بالولايات المتحدة كضمانٍ وحامٍ لها ... هذا الإحساس قديم بعض الشيء، وإن كان تجدد وتفاقم، بعد الموقف الأميركي، المتواطئ والداعم للعدوان الإسرائيلي على واحدة من أهم عواصم الاعتدال والوساطة في المنطقة العربية، والعضو النشط والفاعل في "نادي أصدقاء الولايات المتحدة"... حيث ما كان للعدوان على قطر أن يحدث أصلاً، لولا ضوءٍ أخضر مُنح لتل أبيب خلف الأبواب المغلقة... وما حاول ترامب إخفاءه وتغطيته بقنابل دخانية باهتة، فضحه على نحو صلف، موقف المندوبة الأميركية في مجلس الأمن، والذي حال دون صدور قرار عن المجلس يدين العدوان، والاكتفاء ببيان، صوتت عليه 14 دولة وانفردت واشنطن بعزلتها، وهي التي كانت مُصرّة على "تجهيل الفاعل"، حتى أن المرء ليظن بأن من قارف الفعلة النكراء في الدوحة، ضد قيادة حماس، فضائيون جاءوا من خارج كوكب الأرض.
ثانياً؛ أن العرب لا يثقون بعضهم ببعض، برغم القُبَل المتبادلة و"حفاوة الاستقبالات" وكرم الضيافة وحسنها... لا يثق بعضهم بنيات البعض، ولا بالأطر المؤسسية الجامعة لهم، سواء على المستوى القومي أم الإقليمي ... والأهم، أن لديهم إحساساً عميقاً، بأن ما لديهم من فائض قوة، إن اجتمعوا، لن يكون كافياً لحماية أنظمتهم ودولهم... ثقتهم بالحليف البعيد أعلى بكثير من ثقتهم بالشقيق القريب، وأحسب أن لذلك أسباباً عميقة، لا متسع للخوض فيها في هذه المقالة.
ثالثاً؛ وجهة الدول المذكورة في رحلة البحث عن "رعاية" و"ضمانة"، اختلفت هذه المرة، اتجهوا صوب الشرق، على أمل أن يجدوا "البضاعة" التي عجز الغرب عن توفيرها... لقد راجعوا بلا شك، فصولاً من التخلي الغربي عن أنظمتهم خلال السنوات العشرين الفائتة، لم يروا في الصين، دولة ملاذ وملجأ، فهي ليست في وارد "الدفاع المشترك"،ولا سيما إن كان "استراتيجياً"، وروسيا ليست في مكانة لتعطي لهم، أكثر مما أعطته للرئيس السوري بشار الأسد، ومن قبله حلفاء عرب كثر، موسكو ترحب بالصداقة والشراكة، ولكن حين يتعلق الأمر بـ"الدفاع الاستراتيجي المشترك"، لديها حسابات تتخطى المنطقة، إلى ما هو أبعد منها بكثير.
رابعاً: رحلة البحث عن تحالفات وتنويعها، مشروعة تماماً، وضرورية للغاية، وكانت مطلباً لكثير من الخبراء والسياسيين في المنطقة، بيد أن الشكل الذي تتخذه هذه الأيام، ينطوي على مخاطر كامنة، من بينها "خلجنة" الصراع الهندي – الباكستاني، إذ تتخذ دولتان خليجيتان وازنتان، جانب واحدة من دولتين لم تعرف العلاقات بينهما سوى التوتر والصراعات والحروب، منذ استقلالهما المتزامن عن الاستعمار البريطاني، وآخر فصول الاحتكاك العسكري بينهما لم يمض عليه سوى أشهر قلائل... هذا الأمر، معطوفاً على وجود جاليتين كبيرتين من البلدين المذكورين في الخليج، قد يخلق متاعب جديدة للخليج، هو في غنى عنها.
خامساً؛ أما وقد تخلفت الدول العربية الوازنة، ومن بينها مصر والسعودية بالذات، عن حجز مقعد لها في "نادي الدول النووية"، بحجج وذرائع واهية، فلا بأس من محاولة المملكة الاستظلال بالمظلة النووية الباكستانية، وإن كان السؤال الذي يتعين أن يبقى ماثلاُ، قبل الاتفاق وبعده: هل فعلاً ستوفر إسلام أباد مثل هذه المظلة، أم أن الاتفاق ليس سوى وعدٍ "نووي" مقابل تدفق الاستثمارات والمساعدة، وعند "لحظة الجدّ"، لن تعدم إسلام آباد وسيلة في تبرير التخلي والانكفاء.
سادساً؛ قبل القفز إلى دوائر أبعد، بحثاً عن التحالفات والمظلات، كان ينبغي للدول الخليجية والعربية، أن تبحث فيما بينها، عن "مشروع عربي"، وأن تبعث من جديد، مواثيق الدفاع الخليجية والقومية، التي صدئت في الأدراج... صحيح أن قمة الدوحة شهدت "رطانة" حول هذه العناوين، وأن مجلس الدفاع الخليجي المشترك التأم بعد عدوان الدوحة على مستوى وزراء الدفاع، وأن مناورات وتدريبات ستجري قريباً بين جيوش الدول الأعضاء، في مسعى لخلق ما سُمّي بـ"قبة حديدية خليجية"، لكن لا أحد لديه ثقة بأن هذا المسار، جاد وجدي، والأهم أنه دائم ومستمر، والأكثر أهمية، أنه سيضع التهديد الإسرائيلي في صدارة لائحة مهددات الأمن القومي والإقليمي، وأنه لن يكون "فقّاعة" سرعان ما تنتفخ وتطفو على السطح، وسرعان ما "تتنفس" وتختفي عن التداول وجداول الأعمال.
سابعاً: منذ سنوات عدة، وثمة مطالبات تحث الدول العربية الوازنة، وكلاً من تركيا وإيران، للذهاب إلى "منظومة إقليمية للأمن والتعاون"، تؤسس لاستراتيجية دفاع مشترك (استراتيجية إن أمكن)، لكن اعتبار كثرة من العواصم العربية، أن إيران، لا "إسرائيل"، هي العدو والتهديد، وأن تركيا الزاحفة صوب المشرق وشمال أفريقيا والبحر الأحمر، هي الخطر الذي يتعين مواجهته قبل غيره، ولا سيما أن للدولتين امتدادات داخل هذه الدول، إيران في "القوات الرديفة"، وتركيا في جماعة الإخوان، حال، وقد يحول، دون كسر قواعد اللعبة بين الأطراف، بل إن العرب حتى الأمس القريب (وبعضهم – ربما - حتى الآن)، ما زال يفضل الذهاب في حلف مع "إسرائيل"، بقيادة أميركية، لمواجهة نفوذ إيران و"هلالها"، أو لاحتواء "العثمانية الجديدة".
ثامناً؛ لسنا نبرئ الدولتين (الجارتين الإقليميتين) أو نخلي مسؤوليتهما عن التعثر والفشل في بناء منظومة إقليمية للأمن والتعاون، فكلتاهما ذات إرث إمبراطوري، تدخلي وتوسعي، بيد أننا نشير اليوم، إلى ما يجمعهما مع الدول العربية الوازنة، التي بدأت تستشعر حجم الخطر والتهديد الكامنين في صعود الفاشية في "إسرائيل"... الأخيرة، تضرب يمنة ويسرة، من دون قيد أو رادع، وإيران في حالة "لا حرب ولا سلم" مع "إسرائيل" على حد وصف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وأنقرة على مسار تصادمي مع تل أبيب، لا في سوريا وحدها، بل وعلى خلفية حرب التطهير والإبادة في غزة، واليوم يعاود ملف قبرص للانفتاح من جديد، بعد الأنباء عن حصولها على منظومة دفاعات جوية إسرائيلية متطورة، رأت فيها تركيا تهديداً للقبارصة الأتراك... "إسرائيل" هي "بؤرة الشر" في المنطقة، وهي على علاقة عدائية بمختلف شعوبها وأممها، وآن الأوان لمنظومة أمن ودفاع وتعاون، في مواجهتها، آن أوان دفع التناقضات الثانوية، لمصلحة مواجهة هذا التناقض الرئيس مع العدو.
تاسعاً؛ لا يتعارض ذلك، مع سعي دول عربية، لتطوير علاقات دفاعية مع أطراف من خارج هذه المنطقة، ولا يتعارض ذلك بخاصة، مع السعي لضم أطراف إقليمية كالباكستان إلى هذه المنظومة الإقليمية، حال تشكلها، أو بعد تشكلها، لكن "فقه الأولويات" يقضي بأن نبدأ أولاً، بمن له مصلحة فورية وضاغطة، في كبح جماح العدوانية الإسرائيلية، ووقف الغطرسة والاستباحة التي تتهدد الجميع.
عاشراً؛ آن الأوان لكي تدرك حكومات وحكام الدول العربية، بأن الأمن القومي العربي، لا يمكن أن يظل "مستعاراً"، أو مستورداً من الخارج... الأمن القومي العربي، يتعين أن ينبع من صميم الداخل العربي، وبالاعتماد على القدرات الذاتية العربية... وقد آن أوان الانتقال من دون تردد، من الاعتمادية إلى الاعتماد على الذات، فتلكم مسألة وجود، وحياة وموت، فإما أن نكون، أو أن نظل ألعوبة في حسابات الرعاة الدوليين، سابقاً، والإقليميين مستقبلاً... مرة أخرى، لا يعني ذلك، الانغلاق أو إغلاق الأبواب في وجه أي محاولة لتعظيم القوة، ومضاعفتها، ببناء شراكات وتحالفات مع أطراف إقليمية وازنة، كتركيا وإيران والباكستان، لكن البوصلة يجب أن تظل واضحة، ويجب أن تظل حاضرةً معها، خريطة الطريق ودوائرها المتداخلة، وأولوياتها المنطقية المعروفة.