قمة الدوحة.. القمة الأصدق!

المنطقة نحو مزيدٍ من الانكشاف قبيل رصاصة الرحمة إذاً، والواقع لايحتمل الصمت أو الاكتفاء بالدعاء والتشجيع، فالتاريخ لن يرحم المتفرجين أو من يتخلى عن مهامه وواجباته.

0:00
  • نجحت القمة الاستثنائية في الدوحة في تأكيد المؤكد.
    نجحت القمة الاستثنائية في الدوحة في تأكيد المؤكد.

لم تخيّب قمةٌ ظنّ الشارع العربي بقدر ما فعلت القمة الاستثنائية التي عقدت في الدوحة، لا لتعويلٍ على القمم ،التي اختُبرت لعقود وقد تحولت إلى مهرجانات خطابية شعبوية لا فائدة منها، وشكّل بعضها منصةً للتحريض على شقيق هنا أو تسهيل الانقضاض على شقيق هناك، وإنما لأن انعقادها يأتي في ظرفٍ بالغ الخطورة يطال الاستهداف فيه الدول بل والأنظمة المتحالفة مع واشنطن أو التابعة لها، بما فيها تلك التي تربطها (معاهدات سلام) مع العدو، فضلاً عن سبب انعقادها استثنائياً على وقع عدوان الكيان على العاصمة القطرية الدوحة الثلاثاء الفائت، بما لذلك من دلالات عميقة خطيرة، تشي بتحولات هائلة على مستوى المنطقة برمتها. 

الخذلان الشعبي سبّبه بالدرجة الأولى غياب الأفعال ومحدودية الاجراءات المتخذة وتشتت البوصلة، وقبل كل شيء ما أكدته القمة من حالة الضعف والهوان التي تعيشها الأمة والتي تتضاعف مع كل استحقاق أو تحدٍ، كاشفةً عن عقم الخيارات وفشل الرهانات وتبدد الآمال بالقدرة على حماية الذات وتوحيد المواقف وضبط الأولويات.

وفيما تحقق للشقيقة قطر هدف التحشيد والتضامن وإبراز شعبيتها عربياً وإسلامياً، فشلت القمة في مواكبة الحدث الجلل، وفي اتخاذ ما يلزم رداً عليه وردعاً لتكراره، فالقمة التي شهدت خطابات مرتفعة السقوف نسبياً تمخضت عن بيان ختامي بلا أفعال أو إجراءات أو سقوف زمنية حتى، بل إن البيان يكاد لا يختلف عن بيانات القمم السابقة، بل وحمل في طيّاته استمراراً للمقاربات والرهانات ذاتها وتكريساً للعجز وانكشافاً أمام المشروع الخطير الذي يستهدف الجميع وينجز في كل اتجاه، فلا تفعيل للدفاع المشترك أو تلويح باستخدام قوةٍ أو مقدّرات، ولا قرارات بقطع العلاقات مع العدو ولا عقوبات أو حصار اقتصادي ولا حتى مقاطعة أو منع من استخدام الأجواء، فضلاً عن غياب أي ذكرٍ للحق المشروع في المقاومة، كيف لا والقمة التي عُقدت للرد على العدوان الذي استهدف قيادة حركة حماس المقاومة في الدوحة لم يؤتَ على ذكرها ؛ لا في البيان الختامي ولا في الحوارات والخطابات.

وثالثة الأثافي غياب أي ذكر لدور أو مسؤولية للولايات المتحدة عن العدوان، رغم أن كل المعطيات تؤكد أن العدوان على الدوحة أميركي خالص، ويأتي في سياق مشروعها الاستعماري الكبير المتجدد في المنطقة. وكان لافتاً وممجوجاً الإصرار على استجداء السلام الذي لا يعني العدو في شيء، وعلى توجيه الدعوات والرسائل للمجتمع الدولي بمجمل المؤسسات التي تدور في فلكه؛ في استحضار مؤسف لتجربة طويلة موجعة مع تمرد العدو على كل الأطر والمواثيق وفشل كل السبل في مواجهته باستثناء القوة والمقاومة وتوحيد الصفوف. 

صحيح أن البيان الختامي قد اشتمل على مفردات وازنة من أمثلة ( عدوان، مواجهة، رفض قاطع، واجب جماعي، إجراءات، تدابير، رؤية مشتركة …)، فضلاً عن ورود جمل مهمة في ديباجته (وإذ نؤكد التزامنا الثابت بسيادة واستقلال وأمن جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية …، ونذكر بواجبنا الجماعي في الرد على هذا العدوان ...، دفاعاً عن أمننا المشترك...، رفضنا القاطع لأي مساس بأمن أي من دولنا، ندين بكل حزم أي اعتداء يستهدفها.. مؤكدين تضامننا المطلق والراسخ في مواجهة كل ما من شأنه تهديد أمنها واستقرارها) لكنها بقيت كلها معلّقة في الفضاء بلا أقدام على الأرض أو ترجمة عملية أو تلويح بفعل رادعٍ أو ربطٍ بمهل زمنية مثلاً، كل ذلك في مقابل الإصرار على ربط عدوانية الكيان ودمويته بشخص نتنياهو وحكومته المتطرفة في قفزٍ خطير على حقيقة أن الخطر في جوهره هو في وجود الكيان وفي المخطط المنوط به. 

في التفاصيل أيضاً سُجل عقد لقاء لاحق لدول مجلس التعاون الخليجي، واتصال مشترك جمع ملك الأردن والرئيس المصري وأمير قطر بقادة بريطانيا وفرنسا وكندا، ولقاءات ثنائية كانت إيران بشخص الرئيس بزشكيان أبرز أطرافها، في مقابل الغياب اللافت لبعض القادة العرب، ولا سيما من الخليج العربي، الذي يستشعر استهدافاً واضحاً وخطيراً، كرئيس الإمارات وأمير الكويت وملك البحرين، فضلاً عن غياب كلماتٍ لممثلي السعودية والإمارات بالذات في جلسة الافتتاح التي شهدت بدورها مجموعة عناوين كغياب التأكيد على المقاومة، واستمرار الإجرام بحق اللغة العربية، وخطاب مندوب أذربيجان؛ حليفة الكيان اللصيقة، وارتفاع السقف في كلمتي الرئيس المصري والعاهل الأردني، حيث تتلمّس القاهرة وعمّان خطراً حقيقياً عنوانه التهجير على وقع التضييق وضغط الملفات المتفجرة في المحيط واحتمالات العبث الداخلي، كما بدا لافتاً توجيه البعض رسائل للداخل الصهيوني.

تباينت القراءات وتضاربت الآراء إزاء القمة وما نتج عنها، وفيما يراها البعض كواحدة من أصدق القمم وأكثرها تعبيراً عن الواقع الموغل في العجز والاستسلام، يدفع البعض بأن سقفها مختلف وبأنها مجرد بدايةٍ لجهود مقبلة مجدية، ولا سيما أن أرروقتها شهدت لقاءات فارقة سيكون لها أثرها في مواجهة ما هو آت وردع المخططات، وهو ما لم يطُل اختباره، فمع كتابة هذه السطور وقبل أن يجف حبر بيان القمة الختامي كان كيان الاحتلال يعلن انطلاق عمليته العسكرية البرية لاحتلال مدينة غزة، مبتدِئاً بسلسلة من المجازر الدموية التي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى بالتوازي مع شن غارات جويةٍ على ثلاثة أقطار عربية هي لبنان وسوريا واليمن، في رسالة رد على القمة ومخرجاتها، مفادها أن المخطط ماضٍ وأن الاستهداف سيطال الجميع وأن لغة التضامن والإدانة والقانون واستجداء السلام والمؤسسات الدولية لن تحمي أحداً ولن توقف عدواناً، بموازاة رسائل أميركية لا تقل خطورةً وفداحة حملتها تصريحات الرئيس ترمب، وزيارة وزير خارجيته للكيان تزامناً مع انعقاد القمة لتأكيد الدعم الأميركي غير المشروط، قبل أن ينتقل إلى الدوحة لبحث (إتمام اتفاقية التعاون الدفاعي) التي تعزز التبعية؛ وتوحي بأن رسائل العدوان قد وصلت وكأن شيئاً لم يكن. 

نجحت القمة الاستثنائية في الدوحة إذاً في تأكيد المؤكد، فكانت بصدق أكثر القمم تعبيراً عن واقع النظام الرسمي العربي وعن عجزه وتراجعه واستسلامه للقدر الأميركي المحتوم وانكشاف الأمن القومي العربي، والقمة فشلت فشلاً ذريعاً في الرد على عدوان الكيان أو ردعه أو كبح مشاريعه، ما ينذر باستمرار المخطط وتضاعف مفاعيله حيث لا تقف حدوده عند أطراف محور المقاومة أو الدول الواقعة ضمن جغرافيا مشروعه التوسعي حول فلسطين التاريخية، بل سيطال استهدافه كل المنطقة بهويتها وجغرافيتها وأوزان أطرافها وأنظمتها السياسية؛ كيف لا وقد اختبر العدو الصمت المهين على المقتلة الممتدة لنحو عامين في غزة، وعلى اعتداءاته على الضفة وسوريا ولبنان واليمن وإيران والعراق، ورصد بأم العين ردود الفعل الهزيلة على استهدافه حليف واشنطن الوثيق؛ قطر، بما للعدوان من دلالاتٍ لجهة فشل الرهان على الأميركي والاحتماء بقواعده العسكرية، وعلى تشابك العدوان مع ملفات كبرى في المنطقة من أمثلة خط الغاز القطري، وصراع النفوذ على سوريا، ومساعي تقسيم العراق واستهداف مصر والأردن واستكمال المخطط في لبنان وإيران، وكلها رسائل بالنار عنوانها الوحيد أن هذه المنطقة يجب أن يُعاد ترتيبها على مقاس الوكيل الاستعماري والحليف الأوحد؛ كيان الاحتلال، وعلى حساب الجميع بمن فيهم الحلفاء أو الأدوات والأتباع الذين أخطأهم الربيع المزيّف لغايةٍ في نفس "العم سام" حينها، فالدوحة لن تكون آخر محطات الاستهداف، ومغادرة مربّع الدول الوظيفية ليس مسموحاً. 

المنطقة نحو مزيدٍ من الانكشاف قبيل رصاصة الرحمة إذاً، والواقع لا يحتمل الصمت أو الاكتفاء بالدعاء والتشجيع، فالتاريخ لن يرحم المتفرجين أو من يتخلى عن مهامه وواجباته، والشعب العربي وقواه الحية ومثقفوه مطالبون بالشروع فوراً باستنهاض مشاريع الدفاع عن الأمة ودعم المقاومين والاستعداد للمواجهة.