معضلة استقلال أوروبا الأمني: هل تؤدي إلى تفكك الاتحاد؟

أصبح الاستقلال الاستراتيجي الدفاعي لأوروبا قضيةً مُلحّة تطرح على بساط البحث في الدول الأوروبية كلّ على حدة، وتهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على القوى الخارجية.

0:00
  •  يجد الأوروبيون أنفسهم أمام معضلة أمنية جديدة.
    يجد الأوروبيون أنفسهم أمام معضلة أمنية جديدة.

منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يعيش الأوروبيون هاجس قيام الأميركيين بالتخلي عن سياسة عمرها نحو ثمانية عقود تقوم على الالتزام بالأمن الأوروبي في مواجهة التهديدات الخارجية. وهكذا، وفي مواجهة عدم اليقين الذي وضعتهم فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب، يتدارس الأوروبيون فكرة "الاستقلال الأمني الاستراتيجي".

أصبح الاستقلال الاستراتيجي الدفاعي لأوروبا قضيةً مُلحّة تطرح على بساط البحث في الدول الأوروبية كلّ على حدة، وفي مؤسسات الاتحاد بشكل عام، وتهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على القوى الخارجية ومنها الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الأولى والحالية أن على أوروبا أن تقوم بالدفاع عن نفسها بنفسها، وأن على الدول الأوروبية زيادة موازناتها الدفاعية ومساهماتها في حلف "الناتو" لتقليص الاعتماد على الدعم العسكري الأميركي إذ تئن الميزانية الأميركية تحت وطأة الإسراف في الموازنات الدفاعية والتسلح وتتقلص الأموال لتنمية البنى التحتية في الداخل، وبالتالي تتقلص البحبوحة التي كان يعيشها المواطنون الأميركيون من الطبقات المتوسطة.

وعلى هذا الأساس، طرحت المفوضية الأوروبية خطة "إعادة تسليح أوروبا" ReArm Europe ، بهدف تحسين الاعتماد على الذات في مواجهة التحديات الأمنية التي تعيشها أوروبا، وإلى تعزيز الإنفاق الدفاعي والتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي، ويشمل ذلك آليات مالية مثل القروض للمشتريات الدفاعية المشتركة وزيادة الاستثمارات العسكرية. 

تُركز الخطة التي طُرحت من قبل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين على الحاجة إلى توفير ما يصل إلى 800 مليار يورو للدول الأعضاء لتعزيز إنفاقها الدفاعي، وذلك على الشكل التالي:

- الجزء الأول من الخطة ينص على تفعيل "بند الإعفاء الوطني من ميثاق الاستقرار والنمو"، وتخفيف "القيود المالية المفروضة على الدول الأعضاء" لزيادة التمويل العام المخصص لمشاريع الدفاع، وهذا يسمح بزيادة الإنفاق الدفاعي للدول بنسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

- أما الجزء الثاني، فيتألف من قروض بقيمة 150 مليار يورو ستُقدم للدول الأعضاء لتمويل استثمارات دفاعية أقرتها المفوضية. وستُمكّن هذه الأداة بشكل خاص من إجراء عمليات شراء مشتركة لأنظمة المدفعية والصواريخ والطائرات المسيرة وغيرها من القدرات الدفاعية. 

تسعى المفوضية من خلال هذه الآلية، لتعزيز قدرة الاتحاد على الاستمرار بدعم أوكرانيا عسكرياً من أجل استنزاف الروس واستمرار الحرب بعد قرار دونالد ترامب بقطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا (بالرغم من أنه عاد وأقرّ استمرارها بعد موافقة الأوكران على هدنة لمدة 30 يوماً على إثر المحادثات التي عقدوها مع الأميركيين في جدّة).

لا شكّ، إن العرض النظري للخطة والذي يبدو واعداً لا يعني التوقّع أن تؤدي هذه الخطة إلى "استقلال أمني استراتيجي" أوروبي خلال وقت قصير ومتوسط، ومن غير المعروف إذا كانت تلك الخطة تستطيع أن توفّر الضمانات الكافية للدول الأوروبية (لا سيما دول أوروبا الشرقية) التي تعدّ نفسها مهددة أمنياً من قبل الروس.

ولأن الخطة لا تبدو كافية عملياً، تشخص الأنظار إلى الدولتين القائدتين في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بمهمة قيادة " دفاع مستقل" لأوروبا، ولتعويض الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه الانسحاب الأميركي من التعهدات الدفاعية لأوروبا، وعلى هذا الأساس عرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتوسيع نطاق الردع النووي الفرنسي ليشمل الدول الأوروبية الأخرى، لكن خطر نشوب حرب مع الروس من جرّاء هذا العرض يجعله بعيداً عن القبول به من قبل الدول الأوروبية، خصوصاً تلك المجاورة لروسيا، أو قابلاً للتحقق على الصعيد العملي بسبب مخاطره العالية.

أما المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز فيعد بتعزيز الإنفاق العسكري والتعاون مع الحلفاء الأوروبيين في مجال الدفاع، حيث يعرض أن يتم زيادة الاستثمار في الدفاع لتصل إلى 500 مليار يورو، وتخطي القيود الصارمة التي تحظّر توسّع الدين العام الألماني. 

في المحصلة، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام معضلة أمنية جديدة، تفرض عليهم النظر إلى مستقبل الاتحاد بطريقة مختلفة، وحيث بات عليهم المفاضلة بين: الإنفاق على الدفاع للوصول إلى استقلال دفاعي استراتيجي، أو الإنفاق على التنمية وتعزيز النمو الاقتصادي للإبقاء على رفاهية الشعوب الأوروبية، وبالتالي استمرار بقاء الاتحاد كتلة موحّدة.