موريتانيا وفرص الانتقال من الأطراف إلى المركز
هل تمتلك موريتانيا رؤية لموقعها وموضعها ومقدّراتها الطبيعية وجغرافيّتها السياسية التي توفّر لها موقعاً استراتيجياً يطلّ على ساحل المحيط الأطلسي. أم تكتفي بما يراه الآخرون فيها ولها؟
اتفقت الأدبيات السياسية على وجود علاقة ترابطيّة ما بين الجغرافيا السياسية والسياسة الخارجية للدول، وبالنظر إلى واقع سياسات كثير من الدول فإنّ تلك العلاقة تبدو موضوعيّة وحقيقيّة، موريتانيا ليست استثناء.
ذلك أنّ هذه الدولة غلب على سياستها الخارجية الحياد والانطواء أو ما يمكن تسميته بالاتجاه الانعزالي في السياسة الخارجية، واستمرّت موريتانيا في هذا الوضع وقبلت بموقعها في خارطة التحالفات الإقليمية بشقّيها العربي والأفريقي.
ظهرت موريتانيا مؤخّراً على خارطة التفاعلات الدولية واستقطاب التحالفات أو ما يُمكن وصفه بالتنافس الدولي على مناطق النفوذ، والملاحظ أنّ هذه الحالة الجديدة لموريتانيا وضعتها في متغيّرات خارجيّة أكبر من كونها تحوّلاً في محدّدات سياساتها الخارجية.
وبالتالي هذا يعني أنّ الجغرافيا السياسية والظروف الخارجية ذات الأبعاد الاقتصادية والموارد الطبيعية هي التي أخرجت موريتانيا، ولم يكن الخروج صوب الفاعليّة الدوليّة فقط قراراً ذاتياً موريتانياً وهناك فرق بالطبع.
منذ أن نجحت موريتانيا في الحفاظ على وضع أمني جيّد، والاستقرار السياسي واجتياز الانتخابات الرئاسية في 2019 بهدوء، وتحوّل الخطاب الرسميّ إلى تبنّي الحوار السياسي كشكل من أشكال الديمقراطيّة، توفّرت لها فرصة الانتقال وبدت هنا موريتانيا موضع اهتمام لدول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في المحدّدات الثلاثة الأمنية والاقتصادية والسياسية.
أصبحت موريتانيا لعدة اعتبارات تتعلّق بالجغرافيا السياسية في حسابات الدول الأوروبية موضع اهتمام، والدولة التي أُسقطت سابقاً من الحسابات الأوروبية تجاه أفريقيا، بدت أنها أكثر استقراراً من جاراتها في دول الساحل الأفريقي ولا سيما بعد الانقلابات التي شهدتها مالي والنيجر وبوركينافاسو، والأهمّ كان في المحدّد الأوروبي أنه لا يمكن ترك مقدّرات موريتانيا للاستفراد الصيني، مقابل تأكّل في الدور الأوروبي في أفريقيا.
يُحسب للصين أنها سبق وانفردت بالحرص على استطلاع ما يمكن أن تقدّمه موريتانيا وذهبت صوبها رسمياً ودبلوماسياً عدّة مرات وبواسطة رأس الدبلوماسية الصينية رئيس الجمهورية، ففي 4 أيلول/سبتمبر 2024؛ التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ أمس نظيره الموريتاني رئيس الاتحاد الأفريقي محمد ولد الشيخ الغزواني، وذلك على هامش أعمال منتدى التعاون الصيني الأفريقي التاسع في العاصمة بكين.
وقبل ذلك في 28 تموز/يوليو 2023، التقى الرئيس الصيني، بنظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، في مدينة تشنغدو الصينية، وكان ذاك اللقاء هو الثاني لهما في غضون ثمانية أشهر، حيث التقى الزعيمان في قمّة الصين والدول العربية في السعودية، في 9 كانون الأول/ديسمبر 2022.
هذا الذي ذكرته هو نموذج لتحوّل الاهتمام بموريتانيا من الأطراف إلى المركز. ذلك أنّ خطوة اللقاءات الصينية ـــــ الموريتانية السنوية لن تمرّ من دون قفز أوروبي لموريتانيا.
شهد عام 2024 اهتمام الدول الأوروبية المتزايد بموريتانيا، وتوافد عدد كبير من المسؤولين الأوروبيّين إلى نواكشوط في زيارات تعكس حجم الرغبة الأوروبية في إبعاد موريتانيا عن التمدّد الصيني ـــــ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي.
ومطلع شباط/فبراير 2024؛ أعلن الاتحاد الأوروبي عن مساعدات لموريتانيا بقيمة 522 مليون يورو. وفي كانون الأول/ديسمبر 2024 أعلن الاتحاد الأوروبي عن منحة لموريتانيا بقيمة 100 مليون يورو لتعزيز التنمية المحلية.
ويعود سبب تزايد الاهتمام الأوروبي بموريتانيا إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي، ومحاصرة التمدّد الصيني الروسي. وينظر الأوروبيون باهتمام بالغ إلى الأهمية الاستراتيجية لموريتانيا التي تمتلك شواطئ ممتدة حتى إسبانيا.
وهناك سبب اقتصادي آخر لا يقلّ أهمية، فقد انضمّت موريتانيا رسمياً في شباط/فبراير 2024 إلى منتدى الدول المصدّرة للغاز لتصبح العضو رقم 13 في هذه المنظّمة.
حتى اللحظة يبدو أنّ انتقال موريتانيا من الأطراف إلى المركز يتمّ بفعل عوامل خارجية، وهذا غير كافٍ، ذلك أنّ انتفاء أو انتهاء العوامل الخارجية وتحقّق مصالح الدول يعني عودة موريتانيا إلى الانكفاء والانعزال، وبالتالي من المهم جداً هنا استحضار نظرة موريتانيا لذاتها ومقدّراتها في ظلّ حالة التنافس الجيوستراتيجي التي تستهدفها.
بمعنى آخر هل تمتلك موريتانيا رؤية لموقعها وموضعها ومقدّراتها الطبيعية وجغرافيّتها السياسية التي توفّر لها موقعاً استراتيجياً يطلّ على ساحل المحيط الأطلسي. أم تكتفي بما يراه الآخرون فيها ولها؟
بالنظر إلى مراكمة فعل السياسة الخارجية الموريتانية نجد أنّ هناك إعادة تموضع ذاتي في محدّدات السياسة الخارجية، ما يعني أنّ موريتانيا لديها رغبة وهدف في الانتقال من الأطراف إلى المركز، تجلّى ذلك بشكل واضح منذ تولّيها الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي مطلع 2024.
وعليه باتت نواكشط محطّ استضافة لعدد كبير من الاجتماعات الأفريقية، أعقب ذلك تحرّك موريتاني من خلال الاتحاد الأفريقي بخصوص الصراع السوداني، صحيح أنّ أطراف الصراع لم تحضر والصراع لم ينتهِ لكنْ سُجّل لموريتانيا دور دبلوماسي.
التموضع الجديد الذي بدت فيه موريتانيا لم يجعلها محطّ اهتمام وتنافس صيني روسي أوروبي؛ ولكنّ الدول العربية استدارت هي الأخرى صوب موريتانيا ولا أقصد هنا دول الخليج السعودية والإمارات وقطر، ولكن الدول العربية المغاربية وتحديداً الجزائر والمغرب.
ويبدو أنّ قدر موريتانيا أن يرتبط انتقالها من الأطراف إلى المركز بموضع وموقع تنافس صيني أوروبي؛ وخليجي خليجي كما هو الحال بين السعودية وقطر؛ وتنافس ثالث بين الجزائر والمغرب وكلّ طرفين متنافسين يسعيان إلى استمالة موريتانيا، التي يبدو أنها قرّرت بالفعل الانتقال إلى المركز ولكن وفق رؤيتها ومحدّداتها من دون أن تُحسب على طرف مقابل طرف آخر.
وتجنّباً لتكرار خطأ دعم السعودية مثلاً في حربها على أنصار الله في اليمن أو وضع كلّ محدّدات سياساتها الخارجية بالكامل في السلّة الجزائرية. تجلّى التحرّر الموريتاني من الاستمالة الجزائرية المغربية كأحد بوادر تشكّل موقف موريتاني مستقلّ في تحرّك موريتانيا باتجاه المغرب عقب زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في نهاية عام 2024؛ ورغم أنها أوّل زيارة لرئيس جزائري لموريتانيا منذ عهد الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد، الذي زار موريتانيا عام 1987، إلّا أنّ الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني قرّر بعد أيام قليلة من زيارة تبون لنواكشوط، القيام بزيارة الرباط، ليكون بذلك أوّل رئيس موريتاني يزور المغرب منذ سنوات.
هناك بدت موريتانيا أنها تجيد اللعب على شدّ الحبال وأنها تمتلك رؤية ورغبة في كيفيّة الانتقال من الأطراف إلى المركز. بالمناسبة قام الرئيس الموريتاني بزيارة الجزائر خمس مرات منذ الانتخابات الرئاسية الموريتانية 2029.
أدركت موريتانيا من خلال التنافس الحاصل حولها وعليها فرصة الانتقال من الهامش إلى الوسط ومن الطرف إلى المركز، وقد باتت محطّ اهتمام إقليمي ودولي، ومركز صراع أدوار بين حلف الناتو والصين وروسيا، بالإضافة إلى ما تتمتّع به من موقع استراتيجي وموارد طبيعية في منطقة تعجّ بالصراعات وعدم الاستقرار.
كلمة السرّ في التحوّلات الحاصلة سواء لجهة موريتانيا أو لجهة الاستدارة الإقليمية والدولية لها، وفرصة الانتقال من الأطراف إلى المركز هو غاز موريتانيا. وهي تدرك ذلك وتنوّع في علاقاتها السياسية وشراكاتها الاقتصادية؛ ولذلك مع مطلع 2025، أعلنت موريتانيا والسنغال رسمياً افتتاح أوّل بئر للغاز في مشروعهما المشترك ضمن مشروع السلحفاة الكبرى "آحميم" الذي تطوّرته شركتا "بي.بي" البريطانية و"كوسموس أنيرجي" الأميركية.
وسيعمل مشروع الغاز بطاقة إنتاجية تناهز 2.5 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً. ويعتبر هذا المشروع فرصة ذهبية لكلّ من موريتانيا والسنغال لدخول نادي الدول المنتجة للطاقة، ويمكن للمشروع أن يكون نقطة تحوّل اقتصادي، عبر تعزيز البنية التحتية، وخلق فرص عمل، وتمويل مشاريع تنمويّة. يُذكر أنّ موريتانيا أعلنت في أيار/مايو 2022 أنّ احتياطات الغاز المكتشف في البلاد تقدّر بأكثر من 100 تريليون قدم مكعّب، من ضمنها احتياطات الحقل المشترك مع السنغال.
فرصة انتقال موريتانيا من الأطراف إلى المركز تبدو مواتية ويتوفّر لديها العوامل الآتية:
أولاً: من خلال رؤية سياسية ذاتية مستقلّة من دون تموضع أو تقوية طرف لحساب طرف.
ثانياً: الجغرافيا السياسية وضعت موريتانيا على خارطة التنافس الجيوستراتيجي إقليمياً ودولياً.
ثالثاً: الوضع الاقتصادي الذي باتت توفّره احتياطات الغاز يضع البلاد في أريحية اقتصادية تضمن لها استقراراً سياسياً.
رابعاً: ميزة توظيف الموقع الجغرافي في قضيتين مهمّتين؛ الأولى موريتانيا كبوابة للهجرة باتجاه الدول الأوروبية، الثانية أنّ خطوط الغاز النيجيري إلى أوروبا تمرّ عبر موريتانيا.