هل تشكل قناة نيكارغوا بديلاً عن قناة بنما بالنسبة للصين؟
في ظلّ تمسّك واشنطن بهيمنتها على قناة بنما وعزمها على استخدامها في تنافسها الجيوسياسي مع الصين، يبدو من المحتّم على الأخيرة أن تبحث عن بديل يؤمّن لها عبور سفنها.
-
ما أهمية قناة نيكارغوا بالنسبة للصين؟
في أوّل زيارة خارجية له، قام وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بزيارة بنما حيث عرض مطالب رئيسه دونالد ترامب المتعلّقة بالقناة، وضرورة حدّ بنما من علاقاتها مع الصين.
وقد أبلغ روبيو الرئيس مولينو أنّ الرئيس الأميركي لا يريد الحفاظ على الوضع الراهن فيما يتعلّق بقناة بنما نظراً لنفوذ الصين المتزايد في المنطقة، على حدّ تعبيره.
نزولاً عند الإملاءات الأميركية، أعلن الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو، أنّ حكومته لن تجدّد مذكّرة التفاهم مع الصين المتعلّقة بمبادرة الحزام والطريق والتي سبق ووقّعت في العام 2017. وقال مولينو صراحة إن حكومته ستدرس إمكانية إنهاء المشروع المشترك مع الصين قبل موعد انتهائه المحدّد بعد ثلاث سنوات، واعداً روبيو بأن يحصل ذلك خلال عام أو عامين على أبعد تقدير.
هذا شكّل ضربة لمشاريع الصين في ألّا تكون طرقها البحرية خاضعة للإملاءات الأميركية، خصوصاً أنّ قناة بنما تعتبر إحدى أهمّ الممرات المائية الدولية، ولا سيما أنها الوحيدة التي تصل بين المحيطين الأطلسي والهادئ في أقصر نقطة، ما يجعلها إحدى أهم الممرات الاستراتيجية في العالم. هذا جعل المراقبين يتكهّنون حول ما إذا كانت الصين ستعيد إحياء مشروع قناة نيكارغوا الذي تعثّر.
قناة نيكارغوا
الجدير ذكره أنّ مشاريع شقّ قناة في نيكارغوا تعود إلى القرن التاسع عشر، علماً أنّ أوّل من فكّر في هذا الموضوع كان الإمبراطور نابوليون الثالث الذي كتب مقالاً في هذا الخصوص متحدّثاً عن اعتماد نهر سان خوان كرابط بين قناة نيكارغوا والمحيطين الهادئ والأطلسي.
لكنّ تحويل فرنسا أنظارها إلى بنما لحفر قناة هناك هو الذي قضى على المشاريع بشقّ قناة نيكارغوا، علماً أنّ الولايات المتحدة استغلّت الصعوبات المالية التي كانت تمرّ بها فرنسا لشراء أسهمها في قناة بنما والسيطرة عليها.
وما زاد من العراقيل أمام المشروع هو قيام الثورة الساندينية في نيكرغوا ودعم الولايات المتحدة لميليشيات الكونترا ضدّها باعتبارها مدعومة من كوبا الشيوعية، ممّا عرقل من إمكانية قيام الاتحاد السوفياتي لحفر قناة في نيكرغوا، خصوصاً أنّ الثورة الساندينية خسرت السلطة في البلاد عقب انهيار الاتحاد السوفياتي لصالح نظام مدعوم من واشنطن، قبل أن يتمكّن الزعيم السانديني دانييل أورتيغا من العودة إلى السلطة في أوائل الألفية الحالية.
في حزيران/يونيو 2013، وافقت الجمعية الوطنية في نيكاراغوا على مشروع قانون لمنح امتياز لمدة 50 عاماً لشركة صينية، هي شركة استثمار تطوير قناة "هونغ كونغ نيكاراغوا" لإدارة قناة نيكاراغوا ومشروع التطوير لبناء القناة. وكانت هناك شكوك أميركية من أنّ الشركة هي واجهة للحكومة الصينية. وقد تمّ اقتراح عدة مسارات للقناة تنطلق جميعها من ميناء بلوفيلدز على البحر الكاريبي إلى موريتو، وهي بلدة صغيرة تقع على الشاطئ الشرقي لبحيرة نيكاراغوا.
ومن موريتو، تواصل السفن مسارها غرباً عبر بحيرة نيكاراغوا إلى ميناء لا فيرجن في مقاطعة ريفاس. وعند هذه النقطة، تدخل السفن قناة من صنع الإنسان وتبحر لمسافة 18-24 كيلومتراً عبر برزخ ريفاس للوصول إلى بريتو، وهو ميناء على المحيط الهادئ في مقاطعة ريفاس.
لكن بحلول عام 2016، لم يكن قد تمّ تنفيذ أيّ أعمال بناء كبيرة في المشروع بسبب معاناة مالك شركة هونغ كونغ نيكارغوا وانغ من صعوبات مالية وتقارير تفيد بأنه خسر أكثر من 80 بالمئة من ثروته.
ومع حلول العام 2018 كان وانغ قد أغلق المقرّ الرئيسي لشركته في الصين واختفى نهائياً من دون ترك أثر مما ألقى تكهّنات حول مصير القناة. وفي أيار/مايو 2024 ألغت الجمعية الوطنية النيكاراغوية الامتياز الممنوح للشركة، ليكشف الرئيس دانييل أورتيغا بعدها بأشهر قليلة عن خطة جديدة لإنشاء قناة بين المحيطين بطول 276.5 ميلاً (445 كيلومتراً) على أن تقوم شركات صينية بالتقدّم بعروض لتولّي مشروع القناة. بناء على اقتراح أورتيغا الجديد، وقّعت شركة "سي ا ام سي" الصينية عقداً مع وزارة النقل والبنية التحتية في نيكاراغوا لبناء ميناء عميق المياه في بلوفيلدز على أن تنطلق القناة من هناك نحو بحيرة شولوتلان قبل أن تصبّ في المحيط الهادئ في مرفأ بويرتو كورينتو.
أهمية القناة بالنسبة للصين
في ظلّ تمسّك واشنطن بهيمنتها على قناة بنما وعزمها على استخدامها في تنافسها الجيوسياسي مع الصين، وفي ظلّ عدم قدرة السلطات البنمية على تحدّي الإرادة الأميركية، يبدو من المحتّم على الصين أن تبحث عن بديل عن قناة بنما يؤمّن لها عبور سفنها من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي من دون عرقلة أميركية لهذه السفن أو التجارة الصينية البحرية.
وبما أنّ أميركا الوسطى تعتبر المنطقة الأضيق التي تفصل بين المحيطين الأطلسي والهادئ، يبدو أنه مقدّر للصين أن تكون لها قناتها الخاصة في تلك المنطقة.
وبما أنّ تجربة الفصل بين "البيزنس" (الأعمال) والجيوبوليتيك أثبتت عدم نجاعتها (والدليل على ذلك هو السلوك الأميركي خصوصاً في ظلّ ترامب)، وفي ظلّ فشل تجربة شركة صينية خاصة بحفر القناة، فإنه يبدو أنّ على الحكومة الصينية أن تتدخّل مباشرة لتفعيل هذا المشروع متجاوزة منطق البيزنس بالكلفة والربح والخسارة، بسبب الأهمية الجيوسياسية للقناة.
وقد لا تكون روسيا بعيدة عن هذا التفكير، خصوصاً أنّ رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف سبق وتحدّث عن أهمية قناة نيكارغوا من الناحية الجيوسياسية.
من هنا فإنّ الصين يمكن أن تستفيد من شراكتها مع روسيا لتخفيف الأعباء عن كاهلها، علماً أنّ روسيا يمكن أن تقدّم الخبرات التكنولوجية ورأس المال إضافة إلى شبكة من العلاقات التاريخية التي جمعتها مع عدد كبير من دول أميركا اللاتينية ومن ضمنها نيكارغوا لدفع مشروع قناة نيكارغوا قدماً.
والجدير ذكره أنه خلافاً لقناة بنما، فإنّ قناة نيكارغوا قد تجد شريكاً لها يتمثّل بكوبا يمكن أن تقدّم لها أهمّ مرفأ في منطقة الكاريبي هو مرفأ "مارييل" الذي أهّلته الحكومة الكوبية ليستقبل حاملات الحاويات العملاقة، والمعطّل حتى الآن بنتيجة العقوبات الأميركية على هافانا.
ومن شأن خطّ بحري يمرّ عبر نيكارغوا باتجاه بور مارييل أن يمنح السفن الصينية القدرة على الانطلاق من المحيط الهادئ باتجاه شمال المحيط الأطلسي نحو القطب المتجمّد الشمالي ليتصل بطريق الشمال الذي أطلقته موسكو من شرق آسيا عبر المحيط المتجمّد الشمالي إلى شمال أوروبا.
كذلك من شأن هذا الخط البحري أن ينطلق جنوباً باتجاه البرازيل من جهة وغرب أفريقيا وجنوبها من جهة أخرى ليتصل بطرق الملاحة الصينية عبر المحيط الهندي ويكمل طريقه نحو بحر الصين الجنوبي، بما يمنح الصين طرقاً بحرية خارج تهديد العرقلة الأميركية.
كلّ هذا يعزّز من أهمية قناة نيكارغوا الجيوسياسية، ويبقى أن تعي بكين أهميتها وأن تعمل على تحويلها إلى أمر واقع يعزّز من استقلاليتها واستقلالية شركائها عن البلطجة البحرية الأميركية.