هل نجحت "إسرائيل" في فرض قواعد اشتباك جديدة في غزة ولبنان؟
سياسة ضبط النفس، التي تبديها المقاومة نظراً إلى اعتبارات كثيرة أشرنا إلى بعضها أعلاه، لن تدوم، وستنقلب في مرحلة مقبلة لا نراها بعيدة، ما لم يتوقّف الاحتلال عن غيّه وبغيه.
-
تبدو خيارات فصائل المقاومة معقّدة ومحفوفة بمروحة واسعة من المخاطر.
خلال السنوات القليلة الماضية، في أقل تقدير، نجحت المقاومة في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص في فرص معادلات واضحة وثابتة في إطار مواجهتها طويلة المدى مع "دولة" الاحتلال، إذ تمكّنت نتيجة كثير من العوامل المستجدّة، مثل تطوّر إمكاناتها العسكرية والبشرية، ودخولها ضمن تحالف إقليمي لقوى المقاومة في المنطقة، في مقابل تراجع ملموس لجيش الاحتلال على المستويين العملياتي والاستخباري، ونقص في القوى البشرية، ولاسيّما على صعيد سلاح البر، وغير ذلك من العوامل التي لا يتّسع المجال لذكرها، تمكّنت من فرض وتثبيت كثير من المعادلات، والتي وضعتها في كثير من جولات القتال السابقة في موضع مكّنها من إملاء شروطها على العدو، ومن دفعه إلى تقديم كثير من التنازلات في مواضيع كانت تبدو، بالنسبة إلى البعض، خطوطاً حمراً أو خارج التوقعات.
في عدد من المواجهات العسكرية، التي سبقت معركة "طوفان الأقصى"، حاولت "إسرائيل" إسقاط بعض تلك المعادلات، ولاسيّما تلك المتعلّقة بحق المقاومتين الفلسطينية واللبنانية في الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، وخصوصاً عمليات الاغتيال التي كانت تجري بين الفينة والأخرى في قطاع غزة، أو مثيلاتها التي كانت تستهدف كوادر حزب الله، سواء داخل لبنان أو في الأراضي السورية، إذ كان العدو يلجأ إلى تنفيذ عمليات استهداف مفاجئة وسريعة، ثم يُطالب الوسطاء بمنع المقاومة من الرد، ويكرر سرديته المشهورة بأنه لا يريد الذهاب نحو التصعيد، وأن ما قام به هو عبارة عن هجوم وقائي ضد ما كان يسمّيه "القنابل الموقوتة ".
في معظم تلك العمليات، إن لم يكن جميعها، كما هي الحال في الرد على كثير من الاعتداءات التي كانت تجري في مدن الضفة الغربية المحتلة، والقدس، والمسجد الأقصى، كانت المقاومة ترد من دون أي تردّد، وكانت تذهب بعيداً في بعض ردودها، حتى وصل الأمر إلى خوضها معارك ضارية وقاسية مع "الدولة " العبرية، على غرار معركة "سيف القدس"، في أيّار/مايو2021، ومعركة "ثأر الأحرار" في الشهر نفسه من عام 2023، وقبلهما معارك وجولات متعددة، كما حدث عامي 2012 و2014 وغيرهما.
منذ نحو ثلاثة أشهر ونصف شهر، أي بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة في لبنان و"إسرائيل"، وما تلاه من اتفاق شبيه في قطاع غزة، واللذين نصّا صراحة على وقف كل العمليات "العدائية" بين الجانبين، وانسحاب قوات الاحتلال من كل الأراضي التي توغّلت فيها داخل الأراضي اللبنانية والفلسطينية، إلى جانب نقاط أخرى تتعلّق بتسهيل عمليات الإغاثة والإعمار في كلتا المنطقتين، بالإضافة إلى عمليات تبادل الأسرى وغيرها، منذ ذلك الحين لم تلتزم "دولة" الاحتلال معظم هذه الشروط، ولم تقدّم ما عليها من التزامات، وخصوصاً على صعيد الانسحاب الكامل والنهائي من الأراضي التي احتلتها، أو فيما يتعلّق بوقف عمليات القتل والاغتيال، والتي ما زالت مستمرة ومتواصلة.
في لبنان، تُعلن "إسرائيل" صراحة، في تجاوز واضح للاتفاق سالف الذكر، كما هي الحال في غزة، تنفيذ عمليات استهداف ممنهجة من الجو ضد كوادر المقاومة، ولا يكاد يخلو أسبوع إلا يعلن فيه جيش الاحتلال تنفيذ عمليات من هذا النوع، بالإضافة إلى تواصل عمليات القتل التي تستهدف المدنيين في القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة، وهو الأمر الذي يتكرر بصورة أوسع واكبر في القطاع المحاصر والمنكوب، والذي تغلق "إسرائيل " كل المعابر المؤدية إليه، وتمنع عن سكّانه كل أنواع المساعدات الغذائية والصحية، وتهدّد بقطع خطوط الماء المحدودة التي تصل إليه. وأدّت عمليات القتل في قطاع غزة إلى سقوط أكثر من 140 شهيداً، يحسب إعلان المكتب الإعلامي الحكومي ووزارة الصحة في القطاع، فقط في الفترة التي تلت بدء سريان اتفاق التهدئة في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي، إلى جانب التجاوزات الأخرى المتعلّقة بمنع المواطنين من الوصول إلى بعض المناطق التي كان من المفترض أن يصلوا إليها، ولاسيّما تلك الواقعة في المناطق الشرقية من القطاع.
حتى كتابة سطور هذا المقال، تبدو مواقف قوى المقاومة في غزة ولبنان غامضة وغير واضحة المعالم. وهي، بحسب اعتقادي، في موقف لا تُحسَد عليه بسبب كثير من التعقيدات التي نشأت بعد الحرب، بحيث اقتصرت ردود أفعالها خلال الفترة الماضية على مناشدات ومطالبات للدول الضامنة والوسيطة بالضغط على الاحتلال لوقف عدوانه، وإلزامه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وهو الأمر الذي يعرف الجميع عدم جدواه، إذ إن تلك الدول لا تملك أي أداة ضغط على دولة العدو، ويقتصر دورها على نقل الرسائل، واستضافة الحوارات لا أكثر، بينما تدير الولايات المتحدة الأميركية، المنحازة إلى الاحتلال، والداعمة له، كل المشهد التفاوضي، وهي وحدها، كما ثبُت سابقاً، من يملك أدوات الضغط عليه في الوقت الذي ترغب في ذلك.
بناءً عليه، وفي ضوء المعطيات التي نراها بالعين المجرّدة، والتي تنعكس تداعياتها على المشهد في غزة ولبنان، يمكن لنا، كما لكثيرين، أن نطرح الأسئلة التالية: هل نجحت "إسرائيل " فعلاً في فرض معادلات إطلاق نار جديدة، وهل تباينت قواعد الاشتباك بينها وبين قوى المقاومة عمّا كانت عليه في السابق، وهل أصبحت طليقة اليد لارتكاب ما يحلو لها من عمليات عدوانية وإجرامية من دون ان تتعرّض للعقاب، وهل باتت أيدى المقاومة مكبّلة ومغلولة، على نحو لا يمكّنها من الرد على العدوان، أو على أقل تقدير منعه من التمادي أكثر، على نحو يَحُول دون تدحرج الوضع في مراحل لاحقة ليصبح شبيهاً بما يجرى في مدن الضفة الغربية، على سبيل المثال؛ ذلك الوضع الذي تقوم فيه "دولة" الاحتلال بفعل كل ما يحلو لها من دون ان تدفع ثمناً لذلك، باستثناء بعض ردود الأفعال "المتواضعة "، والتي لا ترقى إلى درجة "الردع".
في حقيقة الأمر، ومن باب توصيف الأمور بمهنية وصدق، وبعيداً عن العواطف والشعارات، فإن العدو تمكّن، حتى هذه اللحظة، من فرض قواعد اشتباك جديدة لم تكن قائمة من قبل، وهذا الأمر أصبح واضحاً من خلال ما يقوم به من عمليات هجومية في أكثر من ساحة، وصل بعضها قبل يومين إلى العاصمة السورية دمشق، مستهدفاً فصائل المقاومة الفلسطينية هناك، بحسب ادعائه، وهو يحاول استغلال هذه الاعتداءات لترويج دعايته، التي تقول إنه خرج منتصراً من هذه الحرب، وإنه بات صاحب اليد العليا، وهذا الأمر يردّده نتنياهو وسائر أعضاء ائتلافه المتطرّف، صباح مساء، بل إنهم يزعمون أنهم مستمرون في هذا النهج الهادف إلى منع "الأعداء" من استعادة قدراتهم، أو العمل بحرية كما كان يجرى في الفترة الماضية، وأنهم سيحبطون أي محاولة من هذا القبيل.
على المستوى المقابل، تبدو خيارات فصائل المقاومة، وخصوصاً في غزة ولبنان، وفي سائر أطراف محور المقاومة، عموماً، معقّدة، ومحفوفة بمروحة واسعة من المخاطر، إذ إنها تسعى للمحافظة على حالة الهدوء النسبي، الذي يمنع الاحتلال من التغوّل أكثر ضد المدنيين والمنشآت والبنى التحتية والخدمية من جهة، ولكسب مزيد من الوقت لتنظيم صفوفها، واستعادة بعض قدراتها التي فقدتها من جهة أخرى. وهذه المعادلة لن تكون سهلة على الإطلاق، نتيجة ترصّد العدو لكل تحركات المقاومة واستهدافها، وهو كما يبدو بات يملك قدرة على جمع المعلومات الاستخبارية أكثر من ذي قبل، نظراً إلى ما تقدّمه له الأجهزة الأمنية والاستخبارية العالمية من معلومات، وفي المقدّمة منها الأجهزة الأميركية والبريطانية والألمانية. وبالتالي، يمكن أن تعاني المقاومة في سبيل ترسيخ هذه المعادلة، والتي ستكون موقتة، كما لم تعانِ من قبل، وهي في حاجة إلى التطوير والتحديث لكثير من خططها العملياتية والتشغيلية، إلى جانب إجراءاتها الأمنية والإدارية، على نحو يمكّنها من تفادي مصائد استخبارات العدو وحلفائه، ويمنحها أفضلية في معركة البناء والتطوير للأدوات والقدرات اللازمة لأي مرحلة مقبلة.
في كل حال، وحتى لا نبدو متشائمين أكثر من اللزوم، فإنه يمكننا الاعتقاد أن هذه المرحلة، التي تعيشها المنطقة حالياً، لن تطول، وأن الفترة الماضية، التي شعرت فيها "دولة" الاحتلال بنشوة الانتصار، نتيجة بعض الإنجازات التكتيكية، ستنتهي لا محالة، وأن ما تسعى له، من فرض قواعد اشتباك جديدة تمكّنها من السيطرة على عموم المنطقة وهزيمة أعدائها بالضربة القاضية، لن يتحقّق، إذ إن جميع المعطيات المتوافرة تقول إن خصوم هذه "الدولة" المارقة ليسوا أسوداً من ورق، يمكن لهم أن ينهزموا بمجرد خسارة هنا أو هناك، بحيث أثبتت التجربة، التي يعرفها العدو أكثر من غيره، أنهم يملكون كل مقوّمات الصمود والانتصار، وأن صمتهم، في كثير من المراحل، ما هو إلا مقدّمة للانفجار الكبير كما حدث صبيحة السابع من أكتوبر المجيد.
نحن نعتقد، كما كثيرون، باستحالة استمرار الحال على ما كانت عليه خلال الشهور الأخيرة، إذ إن سياسة ضبط النفس، التي تبديها المقاومة نظراً إلى اعتبارات كثيرة أشرنا إلى بعضها أعلاه، لن تدوم، وستنقلب في مرحلة مقبلة لا نراها بعيدة، ما لم يتوقّف الاحتلال عن غيّه وبغيه، إلى إعصار هادر، يطيح أحلام نتنياهو وائتلافه المتطرّف، وتحوّلها إلى حطام تذروه الرياح.
صحيح أن التضحيات التي قُدّمت، خلال فترة عام ونصف عام الماضية، كانت كبيرة وغير مسبوقة، وصحيح أن الأثمان، التي ستُدفع لاحقاً، ستكون أيضاً كبيرة، إلا أن كل تلك التضحيات والأثمان ستكون أخف ضرراً وأقلّ تكلفة من استمرار الحال على ما هي عليه، إذ إن استمرارها في هذا الشكل وبهذه الوتيرة سيُدخل كل المنطقة الزمنَ الإسرائيلي، وهذا الأمر لن تسمح به شعوب الأمة الحرة وقواها المقاومة مهما كلّفها ذلك من تضحيات.