وانتصرت إيران!

انتصرت إيران وأخذت بجزء من ثأر غزة والضفة ولبنان واليمن، وبثأر كلّ المظلومين في العالم، والذين شعروا للمرة الأولى في التاريخ الحديث بأنّ هناك من يدافع عنهم.

  • إيران أسقطت الأوهام التي كانت تسيطر على العقل الإسرائيلي.
    إيران أسقطت الأوهام التي كانت تسيطر على العقل الإسرائيلي.

ربما اعتقد الكثيرون في المنطقة وحول العالم، ولا سيّما من المتابعين للشأن الإيراني والمراقبين لمجمل التحرّكات الإيرانية في السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص، أنّ تخلّي إيران عن بعض عاداتها القديمة، وخصوصاً تلك المتعلّقة بردّ فعلها على الكثير من التطوّرات التي تجري من حولها، أو التي تتعلّق بها بشكل مباشر يكاد يكون من سابع المستحيلات، إذ إنّ ما اصطُلِح على تسميته بـسياسة "الصبر الاستراتيجي" الإيرانية شكّلت على الدوام سمة أساسية في مجمل التحرّكات الإيرانية، خصوصاً في إطار المواجهة بينها وبين محور الشرّ بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ورأس حربته في المنطقة الكيان الصهيوني، والتي كانت حتى أمدٍ قريب مواجهة غير مباشرة، وتُدار بواسطة وكلاء حيناً، وحلفاء حيناً آخر.

في تلك المواجهة التي كانت من أهمّ فصولها عمليات الاغتيال الصهيونية المدعومة أميركياً للعلماء النوويّين في إيران، وفي المقدّمة منهم الشهيد محسن فخري زاده، إلى جانب استهداف بعض المنشآت العلمية بواسطة هجمات سيبرانية أحياناً، وعمليات تخريبية أحياناً أخرى، ووصلت ذروتها باغتيال قائد قوة القدس في حرس الثورة الإيراني الشهيد الجنرال قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، ظلّت القيادة الإيرانية وفيّة لخيار "الصبر الاستراتيجي"، ولم تغادر ساحته حتى مع استمرار الهجمات الإسرائيلية والتي ترك بعضها تداعيات قاسية على المجتمع الإيراني، وعلى صورة إيران كدولة قوية ومقتدرة.

صحيح أنّ الردّ الإيراني على اغتيال الجنرال سليماني غادر هذا المربّع بشكل مؤقت من خلال استهداف قاعدة عين الأسد الأميركية في صحراء الأنبار العراقية، إلّا أنّ حجم ومدى هذه المغادرة كان محسوباً بدقّة، ولم يسمح بإحداث اختراق جوهري في خيار إيران طويل المدى، والذي كان الهدف منه كما يبدو الحصول على أكبر مدّة زمنية ممكنة لإتمام الاستعدادات المطلوبة للمواجهة الكُبرى في المنطقة، والتي كانت مُتوقّعة ومُنتظرة، ولم يكن هناك مجال للهروب منها أو تفادي تداعياتها.   

في مناسبتين سابقتين ضربت إيران الكيان الصهيوني بصواريخها البالستية رداً على جرائمه المتكرّرة، ولا سيّما بعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران، ورداً على العدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث تميّزت تلك الضربات بدقّتها إذ استهدفت القواعد والأهداف العسكرية الصهيونية حصراً، وبمحدوديتها من ناحية الحجم والمدة الزمنية التي استغرقتها، إلّا أنّها بعد العدوان الصهيو ـــــ أميركي الأخير الذي استهدفها صباح يوم الجمعة في الثالث عشر من حزيران/يونيو الحالي، والذي أسفر عن خسائر مادية وبشرية أقلّ ما تُوصف به بأنها قاسية وغير مسبوقة، اتخذت إيران قراراً تاريخياً، غادرت من خلاله مربّع صبرها الاستراتيجي، وتخلّت من خلاله بشكل واضح وصريح عن هدوئها المعتاد، والذي فسّره الكثيرون في كثير من المراحل بأنه نتيجة ضعفها، وخوفها من خوض مواجهة مباشرة مع أركان محور الشرّ في المنطقة والعالم.

في هذه المواجهة التي وضعت أوزارها صباح الثلاثاء، استدعت إيران وقيادتها السياسية والعسكرية كلّ ما في جعبتها من أفكار، واستخدمت جزءاً مهماً مما لديها من إمكانيات وقدرات، بل وذهبت إلى أبعد مدى يمكن أن يتوقّعه القارئ للعقل الإيراني، متجاوزة الكثير من الخطوط الحمر التي كانت على الدوام تقف حجر عثرة أمام ما كان يطلبه منها محبّوها وأنصارها، وضاربة عرض الحائط بالعديد من المحاذير التي شكّلت في فترات سابقة حاجزاً أمام انطلاق وانفجار غضبها في وجه أعدائها، وفي المقدّمة منهم العدو الإسرائيلي.

في عملية "الوعد الصادق 3" الاستثنائية، أسقطت إيران العديد من الأوهام التي كانت تسيطر على العقل الإسرائيلي، ومن ورائه عقول حلفائه في المنطقة والعالم، وضربت بما لا يدع مجالاً للشكّ كلّ الأفكار التي كانت تدور في عقل نتنياهو وائتلافه المتطرّف، والذي تخيّل في لحظة من جنون العظمة أنه قادر على إسقاط أهمّ قِلاع المقاومة في المنطقة بالضربة القاضية، والتخلّص من أسوأ كوابيسه التي تلاحقه منذ ولايته الأولى على كرسيّ الحكم في "الدولة" العبرية، بل وصل به الحال إلى التبشير بشرق أوسط جديد تكون "إسرائيل" فيه هي الحاكم الأول والأخير، وتفرض فيه "الجزية" على شعوب ودول المنطقة، وهو الأمر الذي كان واضحاً في حديث الأحمق بتسلئيل سموتريتش، والذي طالب فيه علانية بأن تتحمّل دول عربية بعينها تكلفة الحرب على إيران، وهو الأمر الذي يشير إلى حجم العنجهية والغرور الذي وصلت إليه هذه "الدولة" المارقة والمجرمة.

في عملية "الوعد الصادق 3" والتي بدت مفاجئة وصاعقة للجميع، وفي المقدّمة منهم الكيان العبري الغاصب، الذي بدأ بالصراخ مبكراً نتيجة حجم الضربات الإيرانية الهائلة، وإلى جواره حليفه الموثوق في واشنطن، والذي على غير العادة ابتلع الضربة الإيرانية لقاعدته الأكبر في المنطقة، وذهب باتجاه الرضوخ للشروط الإيرانية المتعلّقة بوقف إطلاق النار، والتي نصّت على وقف كلّ أشكال العدوان بشكل كامل وشامل، ومن دون تمكين جبهة الأعداء من الحصول على أيّ إنجازات حقيقية تغيّر المشهد، وعلى رأسها تدمير البرنامج النووي الإيراني السلمي، والذي يبدو بحسب كلّ المعطيات وعلى الرغم من الهجوم الأميركي الأخير بأنه لم يتضرّر، بل ويمكن أن يشهد انطلاقة جديدة خلال مقبل الأيام، قد تؤدي إلى حصول إيران على القنبلة النووية في حال رغبت في ذلك، وهو ما سيشكّل حينها ضربة تاريخية لكلّ محور الشرّ في العالم. 

خلال اثني عشر يوماً من القتال خاضت إيران ملحمة تاريخية قلّ نظيرها، وهي على الرغم من كونها معركة غير متكافئة، سواء من حيث حجم القدرات العسكرية، ونوعية الإمكانيات التسليحية والاستخبارية والدعم اللوجستي، إضافة إلى الغطاء السياسي والإعلامي الذي كان من دون أدنى شكّ في مصلحة أعدائها، إلّا أنّها استطاعت أن تحقّق إنجازاً مبهراً فاجأ الأصدقاء قبل الأعداء، ورسم خطوطاً حمراً جديدة لم تكن موجودة من قبل، يمكن لها أن تشكّل في المرحلة المقبلة مانعاً وحاجزاً في وجه طموحات كلّ أعدائها.

يمكن لنا أن نقول وبعد ما شاهدناه خلال الأسبوعين الماضيين إن الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي لم نراهن في يوم من الأيام على سقوطها، أو انكسارها، قد حقّقت انتصاراً حاسماً على محور الشرّ بأكمله، وإن ما قامت به من جهد سياسي ودبلوماسي وعسكري، بالإضافة إلى جهدها الأمني على المستوى الداخلي، قد شكّل ضربة قاصمة لكلّ أعدائها، وأفشل مخططاتهم الشيطانية التي كانت تضمر الشرّ لجميع الإيرانيين على اختلاف توجّهاتهم السياسية، بل وأسقط مخطّطاً كبيراً كان يُراد منه القضاء على كلّ قوى المقاومة في المنطقة، والتي لو خسرت إيران الحرب، لواجهت تحدّيات غير مسبوقة كان يمكن أن تؤدّي إلى انهيار واندثار بعضها، أو على أقلّ تقدير إلى تراجعها وانكفائها.

لقد أثبتت ملحمة "الوعد الصادق 3" بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ إيران ليست نمراً من ورق كما كان يُشيّع المحبطون والانهزاميون، وليست دولة مهيضة الجناح كما كان يسوّق فريق كبير من عملاء السفارات وأوكار المخابرات في المنطقة، إذ ثبُت للجميع وبالصوت والصورة أنّ هذه الجمهورية العزيزة والمقتدرة أكبر من مجرّد دولة، وأعظم من مجرّد جغرافيا، وإنما هي مزيج من التاريخ والحضارة، والعلم والأدب والثقافة، خليط من فنّ قراءة الماضي، والتخطيط للمستقبل، أثبتت إيران أنّ الصمود في وجه المؤامرات ليس مستحيلاً، وأنّ التصدّي لمخطّطات الأعداء مهما كان حجمهم ممكن، وأنّ تحقيق الانتصار ليس مشروطاً بحجم الإمكانيات والقدرات فقط.

أثبتت إيران أنّ الثبات على المبادئ أهمّ من الحصول على الإنجازات، وأنّ المُضي على طريق الذين قدّموا سني عمرهم لخدمة الدولة والمشروع أهمّ من الحفاظ على المكتسبات، وأنّ كلّ التضحيات تهون أمام الحفاظ على الحقوق، ومشروعية الأهداف.

انتصرت إيران على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته في هذه المعركة، وهو ثمن أقلّ بكثير من الذي كانت ستدفعه لو ارتضت لنفسها الذلة والانكسار، أو قرّرت تمرير ما جرى من عدوان خوفاً من توسّع المعركة، وزيادة حجم الخسائر.

انتصرت إيران بقيادة مرشدها الأعلى وقيادتها الحكيمة بفضل تماسكها الداخلي، وتلاحم كلّ أطيافها السياسية والدينية والعرقية، وبفضل التفاف جماهير الشعب حول قيادتها على الرغم من كلّ ما واجهته من مصاعب وأزمات.

انتصرت إيران وأخذت بجزء من ثأر غزة والضفة ولبنان واليمن، وبثأر كلّ المظلومين في العالم، والذين شعروا للمرة الأولى في التاريخ الحديث بأنّ هناك من يدافع عنهم، ويثأر لمظلوميّاتهم، وأنّ هذا الكيان المارق ومستوطنيه الأشرار قد وجد أخيراً من يسومه سوء العذاب، بعد أن عاث خراباً ودماراً في الكثير من الديار، وقتل وحرق ودمّر كلّ ما وقعت عليه يداه الملطختان بدماء الأبرياء.

المجد لإيران قيادة وشعباً، المجد لأبطالها في الجيش وحرس الثورة، المجد لجنودها المجهولين الذين قادوا هذه الملحمة بكلّ كفاءة واقتدار، المجد لشهدائها الأبرار الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل ردع العدوان ومعاقبة المجرمين، المجد للمقاومة بأطيافها ومسميّاتها كافة، والتي تُثبت يوماً بعد يوم بأنها هي الوحيدة القادرة على إسقاط مؤامرات الأعداء، وإفشال مخطّطاتهم مهما كان نوعها أو حجمها.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.