الصين بين الماوية والكونفوشية
يكمن الفارق بين الأديان الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلامية) والكونفوشية في أن الديانة الكونفوشية لا تقوم على التوحيد الميتافيزيقي، وهي أقرب إلى الحكمة منها إلى الدين، وهي أخلاقية اجتماعية، فردية وجماعية.
-
الصين بين الماوية والكونفوشية
هل الكونفوشية والاشتراكية في الصين وجهان لميدالية واحدة، إذ تظهر صورة ماو تسي تونغ على الوجه الأول، وصورة كونفوشيوس على الوجه الآخر، وتباع كسلعة سياحية في أسواق الصين؟
يستعرض العميد إلياس فرحات في كتابه"الكونفوشية الميسرة وتاريخ الصين" العلاقة بين الكونفوشية والشيوعية، في جدلية واختلاف وتضاد العلاقة بين التراث والحداثة والمعاصرة في الصين العظمى.
ويلاحظ الكاتب أن كونفوشيوس، المولود في القرن السادس (551 قبل الميلاد وتوفي سنة 479ق.م) لم يكن ثورياً، ولا داعياً إلى تغيير السلطة الجائرة بالقوة، ولا الثورة على الحاكم، مع أنه تحدث في أشعاره عن " السجاد المنسوج من جلد الفقراء" وعامة الشعب في قصور الأباطرة، ولم يعتقد بالصراع الطبقي، بالمفهوم الماركسي أو المادي، أو الاشتراكي في مقاربة تنطوي على مغالطة تاريخية!
والحال هذه، ما سر العلاقة القائمة بين الماركسية والكونفوشية في الصين المعاصرة؟
عم 2013، انتخب شي جين بينغ رئيساً للحزب واللجنة العسكرية العليا، وانتهج سياسة جديدة أقرب إلى اشتراكية "مدرسة فرانكفورت" الليبرالية الديمقراطية (اشتراكية السوق، وحرية المبادرة، لا الدولة الشمولية في شيوعية ماوتسي تونغ والثورة الثقافية)، بالرغم من اعترافه بالدور التأسيسي للزعيم ماوتسي تونغ في بناء الصين العظمى.
علام يقوم فكر شي جين بينغ؟ يقوم على اشتراكية ذات خصائص صينية وطنية، في عصر جديد، يترتب على الصين فيه مجاراة منطق العصر والحداثة وما بعد الحداثة، وتقوم على المبادرة والتنمية المتكاملة والمستدامة، التي تعزز قدرة الصين، ما بعد الثورة، وعلى الحوكمة وتعزيز العلاقات الدولية المشتركة.
وترتكز أفكار شي جين بينغ في السياسة الخارجية على استراتيجية "الحزام والطريق" وهي فكرة صينية قامت على أنقاض فكرة "طريق الحرير" القديم، في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي عبارة عن شبكة من الطرق البرية والبحرية تربط الصين بأوروبا، مروراً بآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
وغاية هذا المشروع ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية، على طول الطريق الأوراسية، في عالم متعدد الأقطاب، بمنأى عن الهيمنة الأميركية أحادية القطب.
ألا تدعو روسيا فلاديمير بوتين أيضاً إلى فلسفة أوراسية (أوربية - آسيوية) تحرر العالم من القطبية الأحادية أيضاً؟
ما علاقة الكونفوشية بهذا المشروع؟
إذا أظهر ماكس فيبر دور البروتستانتية في روح الرأسمالية، من خلال قيم المبادرة، والمنفعة، والمصلحة، والعقد، والوعد، والإنجاز، فإن العميد فرحات يبيّن لنا دور الكونفوشية في الصين الاشتراكية، من خلال الأخلاقية الكونفوشية ومقوماتها الأدبية والتعاملية.
يكمن الفارق بين الأديان الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلامية) والكونفوشية في أن الديانة الكونفوشية لا تقوم على التوحيد الميتافيزيقي، وهي أقرب إلى الحكمة منها إلى الدين، وهي أخلاقية اجتماعية، فردية وجماعية.
وقد عرف كونفوشيوس (واسمه الحقيقي كونفوري كونغ هو تسي) بلقب المعلم Kong، وهو مرادف الحكيم والمعلم والفيلسوف.
ومقابل أستاذه الفيلسوف لاو تسي، الذي كان يدعو إلى القناعة والتسامح، دعا كونفوشيوس إلى مقابلة السيئة بمثلها.
أمضى كونغ فو تشي، أو كونفوشيوس معظم أوقاته في الدراسة والتعليم والتجوال. ووصف بالقداسة، والنبوة، مع إن مذهبه الفكري لا ينطوي على فكرة الإله المدبر، كالأديان التوحيدية الأخرى، وإنما يتعلق بالحياة والآداب والسلوك الاجتماعي والسياسي، والأخلاقية باختصار.
وترتكز أفكاره الحكومية - الفلسفية على المحبة وحسن المعاملة، وتقديس الأسلاف والأسرة، واحترام ذوي القربى، ونبذ الطغيان والظلم والاستبداد.
وكان كما يذكر العميد فرحات، يحرص كثيراً على القواعد السلوكية، كمبدأ المعاملة بالمثل (لا تعامل الآخرين بما لا تحب أن يعاملوك به) وآداب الحياة، كالطعام والشراب وكبح الغرائز، وفعل الخير، والنظام والعلم والمعرفة.
ومع أنه لم يكن نباتياً (كالبوذية) فإنه كان يدعو إلى الرفق بالحيوان ولا يرتدي الملابس المصنوعة من الكتان، ولا يشرب اللبن لأنه من حق الرضع من البهائم.
تعدّ كتب كونفوشيوس الأساس الأخلاقي والتربوي والأدبي والاجتماعي والفكري للمجتمع الصيني القديم والحديث. من هنا أهمية شخصيته وإسهامه الثقافي في الصين.
تتألف قائمة كتب كونفوشيوس من تسعة كتب مدوّنة، يتوارثها الصينيون. وهي على التوالي:
١-كتاب الشعر والأغاني "شي غينغ" ويضم أكثر من ثلاثمئة أغنية وستة موشحات، وهو يعد من كلاسيكيات الأدب الإنساني، كملاحم هوميروس و"الشاهنمة" الفردوس.
٢ـ كتاب التاريخ الصيني (شو جنغ)
٣ـ كتاب التغيرات (لي شي). ويُروى أن القيادة الإسرائيلية راجعت هذا الكتاب للاستخارة به، في الحروب العربية- الإسرائيلية.
٤ـ حوليات الربيع والخريف: وهو كتاب تنبؤات فلكية.
٥ـ كتاب الطقوس والشعائر، وهو كتاب الأخلاق، ويشدد على المبادىء الأخلاقية.
٦ـ كتاب المعرفة الكبرى: ويتطرق إلى العلاقة بين الحاكم والشعب، وإلى وجوب أن يكون الحاكم قدوة للناس في الفضيلة.
ويعرض الكتاب مبدأ التعلم من الطبيعة، وتجديد النفس (إذا تمكنت يوماً ما من تجديد نفسك فافعل، قم بذلك بين يوم وآخر, والدعوة إلى تجديد النفس يومياً).
ويرى كونفوشيوس أن اكتساب السلطة يتحقق باكتساب ثقة الشعب.
أما كتاب "عقيدة الوسط" ففيه دعوة إلى الوسطية والاعتدال.
ويسمّى "كتاب المنتخبات" اصطلاحاً "إنجيل كونفوشيوس"، وهو عبارة عن مجموعة من الأقوال والحكم والتعاليم في مجالات التربية والمعرفة والأخلاق، على شكل شذرات منتخبة.
وفي التفاصيل جملة من قبسات الأدب والحكمة والفلسفة الروحانية التي تسد خواء المجتمعات الاستهلاكية في العصر الحديث.