باتريسيا إيف: السينما فنّ الخيال أم صناعة البديهيات؟
تُجاهر الفيلسوفة والناقدة الفرنسية برؤيتها الخاصة عن خطر السينما على الأفراد، خاصةً عندما يصبح المُتفرِّج سلبياً أمام التدفّق المستمر للصور، مُجَرَّداً من قدرته على التفسير وبناء معناه الخاص.
-
باتريسيا إيف.. السينما فنّ الخيال أم صناعة البديهيات؟
رغم قدرة السينما على تجسيد أحلامنا وتخيّلاتنا، والكشف عن الآخر الذي قد يتماهى معنا في ظلام صالات العرض من خلال نقلنا معه إلى حياة جديدة بكلّ ما فيها من عوالم وقصص وعواطف، إلّا أنّ هذه القوة الخياليّة للفنّ السابع، التي تُشكِّل جوهره، باتت اليوم موضع تساؤلات حادّة، ومدعاة للتأمّل والتفكير الجادّ: هل السينما المعاصرة لا تزال فنّاً يُحفِّز فكرنا وعلاقتنا بالعالم، أم أنها تحوّلت إلى مجرّد "آلة أحلام"، ومصنع للبديهيات يُخدِّر نظرتنا النقدية؟ هل باتت الأفلام مجرّد وسيلة إلهاء، وأداة ترفيه مهمتها الأساسية أن تُنسينا مخاوفنا الحقيقية، وتخلق لنا عالماً موازياً، ووهماً بالواقع، نقبله رغم أنه لا يخصّنا، ومن دون تفكير؟ ثمّ إذا اقتصر الفنّ على محاكاة الواقع ألن يتخلَّى عن سَمْتِه الإبداعي؟ ولماذا يتمّ على الدوام تسويغ السينما كدين في العصر الحديث رغم أنها تُقدِّم باستمرار بُعداً زائفاً عن الحقيقة؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما طرحته الصحافية والباحثة والناقدة الفرنسية باتريسيا إيف في كتابها "الواقع والخيال في السينما" الصادر عن دار كنعان للدراسات والنشر.
وتسعى إيف لتوفير إجابات عن تلك التساؤلات الكبيرة، متكئةً على منهجية تستدعي الفلسفة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع، بالإضافة إلى تجربتها الخاصة كسينمائية ومُحِبّة للفنّ السابع، ولهذا فإنها تبدأ بتحديد ماهية الفنّ السينمائي، ثم تعمل على مناقشة نظريات الفنّ ومحاكاة الواقع، لتنتقل بعدها إلى معالجة موضوع الفنّ كصنعة وعلاقته بمسألة الحقيقة، كما تسعى لتصوير العلاقة المتأصّلة بين السينما والنظام السياسي القائم، وكل ذلك دفعها لأن تتوصّل إلى نتائج، قد يراها البعض مناهضة للسينما، لكنها ضرورية لتحديد مصيرها واستشراف مستقبلها الإبداعي، من مثل قناعتها التي جسَّدتها بالقول "أن قطاع صناعة الأفلام، يميل مدفوعاً بحتميات اقتصادية، إلى توحيد السرديات، وإغراق الشاشة بصور مُجهّزة مسبقاً لا تترك سوى مساحة ضئيلة للتفسير وإعادة التفكير"، أو عبر سؤالها الحاسم: هل يُعرَّف الفنّ بقدرته على تسليتنا أم بقدرته على زعزعة يقيننا، وفتح ثغرات في تصوّرنا للواقع؟ إذ عندما تكتفي السينما بإعادة إنتاج أنماط سردية تقليدية، وتلبية توقّعاتنا الأكثر مباشرة، فهي تخاطر بفقدان بُعْدِها الفنّي لصالح وظيفة ترفيهية بسيطة، بل وحتى وظيفة تكييفيّة.
لا تتردّد باتريسيا باستدعاء أعمال سينمائية متنوّعة لدعم حجّتها، من مثل فيلم "المواطن كين" الكلاسيكي، الذي لا يزال ثراؤه السردي وتميُّزه على صعيد الشكل يحفّزان الخيال، إلى جانب إنتاجات معاصرة من مثل أفلام "أفاتار"، "سيد الخواتم"، "أوديسة الفضاء"، تقوم بتحليلها على ضوء قدرتها أو عدم قدرتها على تجاوز الترفيه الخالص، وأيضاً أفلام ألفريد هيتشكوك عموماً والتي تراها "أكثر من مجرّد سينما تُفكِّك الصورة الاجتماعية للشخوص وتكشف عن ضعفهم الباطن، بل سينما تنطلق من الصور لمحاولة الالتحاق بما وراء الصور الذي يُشكِّل الحقيقة"، وكذلك انتقاداتها لفيلم المخرج آلان كافالييه "باتر". وهي في تحليلاتها لتلك الأفلام تشرح الآليات التي من خلالها تنجح بعض الشرائط السينمائية في مساءلة علاقتنا بالعالم، ومواجهتنا بوجهات نظر جديدة، بينما تكتفي أفلام أخرى بتعزيز أيديولوجيات أو تمثيلات مهيمنة.
وتجاهر الناقدة الفرنسية برؤيتها الخاصة عن خطر السينما على الأفراد، خاصةً عندما يصبح المُتفرِّج سلبياً أمام التدفّق المستمر للصور، مُجَرَّداً من قدرته على التفسير وبناء معناه الخاص. وعندئذٍ، يتلاشى الحد الفاصل بين الفنّ والمنتج الاستهلاكي، ويجد الخيال، الذي كان في السابق مساحة للحرية والاستكشاف، نفسه محصوراً في أطر مُحدّدة مسبقاً، لذلك فإنّ إيف تدعونا إلى يقظة دائمة، وعدم الاستسلام لسهولة الترفيه السلبي، بل إلى تنمية نظرة نشطة ونقدية تجاه الصور التي تُعرَض علينا، مبيّنةً أنه من خلال هذه المواجهة، وفي هذه المساحة من التساؤل والتفسير، تكمن القوة الحقيقية للفنّ السينمائي، وقدرته على تغذية خيالنا وإثراء فهمنا للعالم، ففي رأيها أنّ الرهان الأكبر يكمن في الحفاظ على السينما كمساحة للحرية، ومكان لا يُستهلك فيه الخيال فحسب، بل يُستثار كي ينمو بنشاط.
وبالنسبة لباتريسيا فإنّ العدو الأكبر للسينما والفنّ بشكل عامّ هو الالتزام بتمثيل الواقع مع التلميح الخفي إلى أنه يمكن فهمه بموضوعيّة، إذ تتمحور خاصيّة الفن السابع حول اللعب على الإيهام بأنّ هذه هي الطريقة التي تحدث بها الأشياء، وأنّ ما يعرضه هو الواقع نفسه، بمعنى أنّ السينما تدفع الوظيفة المحاكاتية للفنّ إلى ذروتها لكونها لا تتيح للمشاهد سوى إدراك الظلال وليس موضوعات الفكر، وعلى اعتبار أنّ السينما "فنّ انطباعي بالأساس لكن باختلاف مع نوع الرسم الذي يحمل الاسم نفسه، نادراً ما تُصرِّح بأنها كذلك، لذا لا تدّعي كثيراً بأنها تمنح المشاهد الانطباع الذي شكَّله المخرج بل إنه هو نفسه انطباع المشاهد نفسه"، إضافة إلى اهتمامها الزائد بالمتعة، ولو كانت معجونة بعض الأحيان بشيء من الثقافة، إلا أنها تسمح لنا ببلوغ وضع نادر يكون فيه الوعي في حالة راحة، وكأننا نهرب طيلة مدة العرض من لعنة الجهد، ونسترخي للصور المتتابعة والمَشاهد من دون أيّ مقاومة نقدية، وحتى مع قناعتنا بأن لا وجود للواقع من دون إدراك يستولي عليه، إلا أن السينما، كما تراها إيف، تختلف عن الفنون الجميلة التقليدية التي تساعد الفرد على التخلّص من ذاته الصغيرة لصالح وعي بإنسانيته، إذ إنّ السينما تخلّص الفرد من ذاته، ولكن لتسكين إحساسه بالتعب من أن يكون هو ذاته، متخلِّصاً من قلقه اليومي.
ويبقى الأسف الأكبر لدى الناقدة الفرنسية بأنّ السينما تتطوّر من سينما مؤلف ـــــ مخرج فردي إلى سينما صناعية، حيث تصبح الأفلام كأيّ منتج يتمّ إدراجه في دائرة القيمة التي تُحيل كلّ قيمة عاطفية أو انفعالية أو فنّية إلى قيمتها التجارية، وذلك بعد أن تخلَّت عن فردية وذاتية الفكر الذي يُنتجها، بحيث أصبح حتى المؤلفون والمخرجون وكأنه تمّ تصنيعهم لمواصلة تحقيق الربح من الإبداع الفني، وتالياً باتت السينما خاضعة للاستغلال بشكل كبير. وتُعبّر إيف عن ذلك بالقول: "يبدو أنّ الإبداع الفني المفترض، كما هو حال الاقتراع في السياسة، له دوره الرئيسي في إثبات وجود شيء مثل هذه الذاتية، الآن، إذا واجهنا ذلك، إذا كان على الذوات المتماثلة مع الأفراد أن تستمرّ في الوجود. فإنّ ذلك لشراء منتجات تلك الذاتيات الفردية المبدعة المفترضة التي تمّ تنسيقها بعناية وفقاً لمصالح الإنتاج، وذلك لا يعني بالطبع أنه لا يوجد شيء اسمه قوة تُخضع العالم، ولكن سيكون من الوهم الاعتقاد بأنها تعبّر عن حساسيّة فردية. تدور صناعة السينما حالياً في فراغ من الناحية الفنية مثلما تعمل الديمقراطية في المجال السياسي، بانزياح عن تصوُّرنا للتمثُّل، ولصالح منطق يلغي الذات ويخدم الاتجاه العامّ للرأسمالية".
وفق ذاك التصوّر تُنادي مؤلفة الكتاب بإعادة ربط السينما مع النضال السياسي بحيث "لا يصبح المرء مُجرَّد صوت يتكلّم في الصحراء"، وبرأيها لا يتمّ ذلك إلا من خلال إعادة قراءة الماضي وصياغته بطريقة معاصرة تتيح رؤية أوضح للمستقبل، بدل السعي إلى عزل الإنسان عن ماضيه عبر سباق محموم نحو مزيد من المُتَع الخادِعة مثل تلك التي تتضمّنها السينما التجارية. لذا من الضروري استجواب الفنّ السابع بطريقة تقترب من القرن الجديد، مع تأكيد أنّ من مهام السينما تتبُّع تاريخ العالم بأفضل ما يمكن، والتفكير كيف ينبغي أن يكون، وجعل الاستفهام عن فردية المصائر البشرية هو الركيزة الأساسية لكلّ تفكير سينمائي.