"الأمريكي الهادئ" أو الوجه الآخر للمساعدات الأميركية

لا تكمن أهمية رواية" الأميركي الهادئ" في أنها حقّقت على مرّ السنين مكانة بارزة، بل بسبب تنبّوئها المبكر بحرب فيتنام والسياسة الخارجية الأميركية اللاحقة.

  • رواية
    رواية "الأمريكي الهادئ " لجرامام غرين

نقرأ على غلاف الطبعة العربية من رواية "الأمريكي الهادئ "الصادرة عن دار الكرمة للنشر ثناءً نقدياً للروائية زادي سميث عضو الجمعية الملكية للأدب تقول فيه "رواية رائعة عن الحبّ والفوضى مبنية بأستاذية"، وقد احتلّت هذه الرواية للبريطاني جراهام غرين فور صدورها في بريطانيا عام 1956 مكانة بارزة، ونفدت الطبعة الأولى منها في ألمانيا خلال ثمانية أسابيع. أما في الولايات المتحدة الأميركية فلم تلقَ الحفاوة نفسها التي استقبل فيها الجمهور الأوروبي هذه الرواية، وإنما استقبلت بجفاء وتعرّضت لانتقادات لاذعة باعتبارها رواية معادية لأميركا بسبب إدانتها للتدخّل الأميركي في فيتنام، ورفضها للمؤامرات والمكائد التي يحيكها دهاقنة السياسة الأميركية  لهذا البلد عبر "بايل" الشاب الهادئ الذي أرسلته واشنطن في مهمة غامضة إلى فيتنام، ظاهرها النيّات الحسنة وتقديم المساعدات الإنسانية وباطنها السعي لمواجهة المدّ الشيوعي وتغيير مجريات الأمور في فيتنام لصالح الولايات المتحدة الأميركية. 

في مدينة سايجون الفيتنامية يلتقي بايل بالمراسل البريطاني المحنّك والساخر فالنتاين الذي يشكّك بدوافع بايل الإنسانية وينتقد مكائده التي ساهمت في تصعيد العنف والاضطرابات وإراقة الدماء في البلاد. وبسبب خبرته كمراسل حربي في تلك البلاد لم يرَ فالنتاين في بايل إلّا شخصية ساذجة وغير واقعية بعيدة عن إدراك تعقيدات الوضع السياسي في فيتنام، وزاد من حنق فالنتاين على بايل شكّه وغيرته على حبيبته المترجمة الشابة الفيتنامية فونج التي تأرجحت عواطفها بين الاثنين، وانحيازها إلى الشاب بايل الأصغر سناً بعد أن وعدها بالزواج. فهل كان الكاتب يشير ـــــ من خلال شخصية فالنتاين ـــــ إلى أفول شمس الإمبراطورية البريطانية الغاربة وشروق شمس أميركا الاستعمارية ممثّلاً بالشاب الهادئ المحمّل بالمساعدات الإنسانية وانحياز الشابة الفيتنامية إليه، في إشارة إلى خضوع دول العالم الثالث إلى المستعمر الجديد وابتعادهم عن المستعمر الذي مالت شمسه إلى الغروب.

 على أيّ حال يستمر الثوّار الفيتناميون في محاربة المستعمر الفرنسي ويتابع المراسل البريطاني تغطيته للأحداث، ويتابع الأميركي الهادئ رجل الاستخبارات الأميركية تنفيذ سياسات بلاده المستندة إلى توصيات أستاذه "يورك هارنج" بإنبات "القوة الثالثة" كأفضل خيار لفيتنام الجديدة.

و"القوة الثالثة" هي حركة سياسية حاول بايل أن يخلقها في فيتنام كبديل عن الخيارات المتاحة في الصراع بين الفرنسيين والشيوعيين الفيتناميين، ودعا إلى إنشاء حركة مستقلة تكون قادرة على موازنة القوى المتصارعة في البلاد (الاستعمار الفرنسي والشيوعيين) من دون الانحياز التامّ لأيّ منهما، وكان هدفه من وراء إنبات هذه القوة هو خلق توازن سياسي في فيتنام، يكون فيه للولايات المتحدة التأثير الأكبر في البلاد.

لم تكن "القوة الثالثة" في الحقيقة سوى قوة عدوانية جديدة تحمل في طيّاتها بذور الفتنة والشقاق في المجتمع الفيتنامي الفقير، وفي أحسن الأحوال لم تكن هذه القوة المزعومة سوى مؤامرة أميركية للحدّ من النمو الشيوعي في جنوب شرق آسيا، وكان لها تأثير كارثي على الوضع السياسي في فيتنام الجنوبية. لأنّ بايل كان يرى الأمور من منظور غير ناضج، ولم يدرك التأثيرات الحقيقية لسياسات التدخّل الأجنبي في فيتنام.

"أعطيتموه نقوداً ومؤلفات يورك هارنج وقلتم له: انطلق افتح الشرق للديمقراطية".

في الجزء الأخير من الرواية يكشف فالنتاين الهدف الحقيقي الذي جاء بايل من أجله إلى فيتنام وتورّطه في تصعيد الصراع وإراقة الدماء في المنطقة، فيصبح هدفاً لمجموعة فيتنامية معارضة تنجح في اغتياله وإنهاء دوره في مسار الأحداث.

لا تكمن أهمية رواية" الأميركي الهادئ" في أنها كانت رواية شائعة في بريطانيا، وأنها حقّقت على مرّ السنين مكانة بارزة، وليس في تحويلها إلى فيلم سينمائي مرتين إحداهما عام 1958 والثانية عام 2002، وتحويلها إلى سيناريوهات إذاعية، وإنما بسبب تنبّوئها المبكر بحرب فيتنام والسياسة الخارجية الأميركية اللاحقة، ولذا تمّ اختيارها في قائمة لأكثر 100 رواية ملهمة .

يقول جراهم غرين على لسان بطله فالنتين: على أيّ حال ليست هذه الحرب إلّا حرباً استثمارية ملعونة....

يبقى أنّ المؤلف جراهام جرين قدّم لنا في "الأميركي الهادئ " صورة سوسيولوجية عن المجتمع الفيتنامي في محاولاته العنيدة لمناهضة الاحتلالات بصناعة روائية واقعيّة قدّمت الأسباب الموجبة للمقاومة الفيتنامية واستشرفت الهزيمة الأميركية في تلك البلاد، هذه الهزيمة التي جاءت كزلزال هزّ الفكر الكولونيالي بعنف، وثبّت مقولة أنّ الاحتلالات لا تقابل إلّا بالمقاومة. 

اخترنا لك